حسام زيدان يكتب: كن فاسدًا...

ركن القراء

حسام زيدان
حسام زيدان


"النمر يقتل لأنه نمر، والماء يروي العطش لأنه ماء، والنار تحرق لأنها نار، والذبابة تلح لأنها ذبابة" كلمات لـ د. أحمد خالد توفيق في إحدي رواياته، كلمات علي بساطتها تشرح معني التسامح الحقيقي مع الكون من حولك. 

التسامح معني، والمعاني تسكن القلوب، والقلوب تتقلب دائمًا بين الخير والشر، الكفر والإيمان، القسوة والتسامح، وعالم البشر عجيب، فقد تري من لا حول له ولا قوة قاسي القلب، وتري من به جبروت وعظمة متسامح القلب. 

البشر... كائنات عجيبة، أمرها بيد ربها، صناديق مغلقة، في الكثير من الأحيان لا تفهم تصرفاتها، ولا تعي مدلولات أفعالها، فلكل إنسان -مهما كانت درجته- عقل، يعمل ويفكر ويحلم ويبدع ويبتكر ويقرر ويبتعد ويقترب علي حسب ما فهم وما شعر وما أحس. 

فرُب فعل بسيط أنت تراه تافهًا، يمثل لآخر فعل عظيم يحطم داخله الأمل، نظرة منك قد تصدر دونما قصد، يفهمها الآخر علي أنها سب وقذف، فعل يصدر من صديق لك وهو لا يريد لك سوي الخير، ولكن تعرقله الظروف فلا تفهم مقصوده ومدلوله فتصنفه في خانه الإيذاء والشر، تعبر من أمام جارك فيصيبك ضر، فتظن أنه لك حاسدًا، وأنت لما عبرت من أمامه تلقي هاتفًا يخبره بخسارة مال، فظن هو الآخر أنك نحس أيامه. 

يأتيك هاجس أن تذهب إلي النافذة تتشمم الهواء، فتري فتاة تقف في الشرفة أمامك، فتظن أنها لأجلك واقفة، وهي تظن أنك لأجلها خرجت في هذا الحر والزمهرير والأمطار والشمس الحارقة، فينتشي قلبها، وتدور رأسك بالأحلام، ثم تناديها والدتها لغسيل المواعين، ووتناديك والدتك كي تذهب بالقمامة إلي خارج المنزل، والشيطان يلعب برأسيكما، والظنون تتوالي..... في حين أن الأمر بسيط، فهي خرجت إلي الشرفة كي تتشمم الهواء، وأنت خرجت لملل أصابك وتريد أن تطالع الأجواء. 

قرأت لأحد العارفين جملة "نعامل البشر علي غفلة"، وقال آخر "لو رأيت أخي تقطر لحيته خمراً لقلت أنه كان علي الجبل يريقها"،  والرسول عليه الصلاة والسلام لما كان يمشي مع زوجته ذهب لصحابته وقال لهم "هذه فلانة زوجتي" كي لا يظن به ظان شيئًا. 

مسألة تدير الرأس، وأمر يحير، عمر بن الخطاب الخليفة الثاني لرسول الله صلي الله عليه وسلم لما ولي الخلافة، كان يتعسس، أي أنه كان يسير ليلاً ينظر في حاجات الناس، ويقضيها، فسمع رجلين يتنادمان في الخمر، أي أنهما يشربان ويتبادلان كؤوس الخمر وقد أخذتهما السكرة، فتسور عليهما الدار، أي أن الرجلين كانا في دار أحدهما، وقفز عمر من فوق سور الدار. 

قبض عمر بن الخطاب علي الرجلين وذهب بهما إلي القاضي، فحكم القاضي علي عمر بن الخطاب أنه مقتحم خلوة الرجلين وأفرج عنهما. 

ونجد مثل آخر لسعد بن أبي وقاص مع أبو محجن الثقفي، وكان محجن من مدمني الخمر، فحبسه سعد، ومنعه من الجهاد، لإثمه وإرتكابه ذنب شرب الخمر، فما الفارق؟ 

لو تأملنا الروايتين لوجدنا أن في الأولي كان الرجلين في خلوة، سترا نفسيهما، لم يجاهرا بمعصتيهما، والثانية كان الذنب فيه نوع من العلانية، والجرأة علي رب العالمين، فكان العقاب. 

الله سبحانه وتعالي يقول علي لسان رسوله الكريم "لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا"، ويقول الرسول صلي الله عليه وسلم "إياكم وظن السوء"، وكذلك يقول لنا المولي عز وجل "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" أي أن فضيلة أمة محمد صلي الله عليه وسلم هي الأمر بالعروف والنهي عن المنكر ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة. 

وكي تأمر بمعروفًا لا يجب أن تكون ملاكًا فقد تكون مذنبًا أيضًا ولكن لا يمنعك ذنبك من أن تقول للخاطئ أنت مخطئ، ولا تدفعك طاعتك أن تترفع علي الناس وتعاملهم وكأنهم شياطين مذنبين. 

نحن بشر وأنت بشر 
نخطئ ونذنب وأنت كذلك تخطئ وتذنب 
الستر هو الأولي 
والمسامحة هي الأجدي 
والرفق واللين واللطف في النصح هي الأنفع
لأننا بشر ولسنا آلات .. بشر تشعر وتصرخ وتتألم وتبكي وتُجرح قلوبها بأقل كلمة. 
ورُب كلمة تبدل إنسان من حال إلي حال
فرفقاً بالبشر 
إن كنت عاصيًا فاستخفي بمعصيتك واجعلها بينك وبين رب العباد واسأله المغفرة
وإن كنت طائعًا استخفي بطاعتك واجعلها بينك وبين رب العباد لعله يقبلها 
وعامل الناس علي غفلة، لا تجعل من نفسك القاضي والجلاد.

تفصلنا عن رمضان ساعات .... 
كن فاسدًا ولكن لا تكن سببًا في فساد أحد، وابتهل إلي الله تعالي أن يصلح منك ما فسد في شهر الطاعات. 
كن صالحًا وأصلح من حولك ... وليكن نصحك هدية يشفي جروح القلوب، لا أحجار نقد تلقيها علي المذنبين فتجعلهم شياطين بعد أن كانوا للتوبة أقرب.

هكذا هو الإنسان خلقه الله تعالي وهو يعلم أنه سيعصي ويعلم أنه سيتوب ويقبل الله تعالي توبته، ولكن أن يفسد عبد من عبيد الله تعالي عباد الله تعالي فهنا يغضب الرب وتحل نقمته وسخطه. 

رمضان علي الأبواب، يقول لنا هل من طارق علي أبواب الرحمن، فلننسي الضغائن والأحقاد، وما كان، ولنبدأ في ترنيمة واحدة مع الإله الواحد الأحد نبتهل له جميعًا أن يقبلنا عبادًا له طائعين مخبتين متبتلين متضرعين، متعاونين علي البر، مبتعدين عن الإثم والعدوان، فرغم ذنوبنا ومعاصينا، فنحن نخافك يا ربنا، ونرجوا مغفرتك ورضاك وعفوك.