رامي رشدي يكتب: المجددون القدامى.. مذاهب فقهية لا يعرفها المسلمون

مقالات الرأي

رامي رشدي
رامي رشدي


ابن حزم الظاهرى والسفيانى أصحاب مذاهب فقهية كان لها شعبية بين المسلمين

وضع ابن حزم أصول ما يعرف بالمذهب الظاهرى وهو مذهب يرفض القياس الفقهى الذى يعتمده الفقه الإسلامى التقليدى

وقال عنه الإمام أحمد بن حنبل،: أتدرى من الإمام؟ هو سفيان الثورى، لا يتقدمه أحد فى قلبى.


لا يعلم عامة المسلمين سوى المذاهب الفقهية الأربعة للأئمة أحمد بن حنبل، والشافعى وأبو حنيفة النعمان وأنس بن مالك، والتى يقلدونها سواء فى العبادات أو المعاملات والأحوال الشخصية، رغم أن هناك مذاهب عديدة.


ولولا همجية التتار الذين اجتاحوا بغداد، عاصمة الخلافة فى عام 1258 وردمهم نهر دجلة بملايين الكتب التى كانت موجودة فى مكتبة بغداد لبقى عدد كبير من المذاهب، حيث اختفت تلك الأفكار التى كانت محتوى لكتب ولمراجع ودراسات فى كل العلوم العربية والشرعية والفقهية والتى كانت تعتبر ذخائر لا حصر لها للحضارة الإسلامية.

ولكن ما تم إنقاذه من المراجع والكتب هى المذاهب الأربعة الأشهر المعروفة بين عامة المسلمين، ولكن هناك مذاهب أخرى لا تزال بقاياها موجودة غير الأربعة المعروفة، ولكنها لا تتمتع بنفس الشهرة لأسباب كثيرة منها، تاريخية ومنها الخلافات التى كانت تعتمد مذهباً دون غيره.

ومن أهم المذاهب التى لم تلق رواجاً مذهب الإمام ابن حزم الأندلسى المعروف بـ"المذهب الظاهرى" ومذهب أبو سفيان الثورى "السفيانى"، وكلاهما كان يحمل فكراً مستنيرا وكلاهما حاول التجديد فى الخطاب الدينى فى العصور الأولى.


1- ابن حزم الأندلسى.. فقيه قتله حرق الخليفة لكتبه

لا يختلف اثنان على الإمام ابن حزم، بأنه لم يكن متشدداً ولكن كان أقرب لفقيه "ليبرالى" فى أفكاره ومواقفه الفقهية فهو ابن حضارة الأندلس فى إسبانيا.

هو أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسى الأصل، ثم الأندلسى القرطبى اليزيدى ولد فى نوفمبر عام 994، ويعد من أكبر علماء الأندلس وأكبر علماء الإسلام تصنيفاً وتأليفا بعد الطبرى، وهو إمام حافظ فقيه ظاهرى، ومجدد ومتكلم وأديب وشاعر وعالم حديث ووصفه البعض بالفيلسوف كما كان يعد من أوائل من قالوا بـ"كروية الأرض".

كان ابن حزم عاش وسط أسرة عرفت الإسلام منذ جده الأعلى يزيد بن أبى سفيان، وبدأت هذه الأسرة تحتل مكانها الرفيع كواحدة من كرائم العائلات بالأندلس فى عهد الحكم المستنصر، كما كان أحمد بن سعيد، والد بن حزم من المشاركين فى حركة الإفتاء بالأندلس من خلال مجالسه العلمية والمناظرات التى كانت تدور فى قصره.

سكن ابن حزم وأبوه قرطبة ونالا فيها جاهاً عريضاً أصبح أبوه أحمد بن حزم من وزراء الحاجب المنصور بن أبى عامر، وهو من أعظم حكام الأندلس، فأراحه العمل لدى الحكم من السعى وراء الرزق، وتفرغ لتحصيل العلوم والفنون، فكتب طوق الحمامة فى الخامسة والعشرين من عمره.

ورزق ابن حزم، ذكاء مفرطاً وورث عن أبيه مكتبة ممتلئة بالكتب، اشتغل فى شبابه بالوزارة فى عهد المظفر بن المنصور العامرى ثم ما لبث أن أعرض عن المنصب وتفرغ للعلم وتحصيله.

تولى ابن حزم، وزارة للمرتضى فى بلنسية، ولما هزم وقع ابن حزم فى الأسر عام 409 هجرية، ثم تم إطلاق سراحه من الأسر، فعاد إلى قرطبة، وكان والد ابن حزم يعتمد فى فتواه وتفسيره لنصوص القرآن والسنة، وكان أحد الأسباب التى دفعت ابنه من بعده إلى المنهج الظاهرى فى الفتاوى والتفسير، والذى يوافق العقيدة السلفية فى بعض الأمور من توحيد الأسماء والصفات وخالفهم فى أخرى وكل ذلك كان باجتهاده الخاص، وله ردود كثيرة على الشيعة واليهود والمسيحيين وعلى الصوفية والخوارج.

وضع ابن حزم أصول ما يعرف بالمذهب الظاهرى وهو مذهب يرفض القياس الفقهى الذى يعتمده الفقه الإسلامى التقليدى، وينادى بوجوب وجود دليل شرعى واضح من القرآن أو من السنة، لتثبيت حكم ما، لكن هذه النظرة الاختزالية لا تكشف عن أهمية ابن حزم، إذ إن الكثير من الباحثين يشيرون إلى أنه كان صاحب مشروع كامل لإعادة تأسيس الفكر الإسلامى من فقه وأصول فقه.

كان الإمام ابن حزم ينادى بالتمسك بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة ورفض ما عدا ذلك فى دين الله، ولا يقبل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة التى يعتبرها مجرد ظنون.

يمكن أن نقلص من حدة الخلاف بينه وبين جمهور العلماء، حول مفهوم العلة وحجيتها، إذا علمنا أن كثيرا من الخلاف قد يكون راجعاً إلى أسباب لفظية أو اصطلاحية.

كان ابن حزم يبسط لسانه فى علماء عصره خاصة خلال مناظراته مع أتباع المذهب المالكى فى الأندلس، وهذه الحدة تسببت فى نفور كثير من العلماء من ابن حزم وعلمه ومؤلفاته وكثر أعداؤه فى الأندلس.

تعرضه لفقهاء عصره الجاحدين المنتفعين من مناصبهم، دفعهم إلى تأليب المعتضد بن عباد أمير إشبيلية ضده، فأصدر الأخير قراراً بهدم منازله ومصادرة أمواله وحرق كتبه، وفرض عليه ألاّ يغادر بلدة أجداده وألا يفتى أحد بمذهب مالك أو غيره، كما توعد من يزوره بالعقاب، ثم توفى ابن حزم سنة 1064، متأثراً بحرق مؤلفاته.


2- أبو سفيان الثورى.. عاش هارباً خوفاً من العمل لدى الخليفة

كان لأبى سفيان الثورى، منهجا مختلفاً ومذهباً فقهياً اعتمد على القياس حمل فكراً مغايراً، وحاول تجديد الخطاب الدينى فى العهد العباسى وهو فقيه كوفى، وأحد أعلام الزهد عند المسلمين، وإمام من أئمة الفقه، وواحد من تابعى التابعين، وصاحب واحد من المذاهب الإسلامية المندثرة، والذى ظل مذهبه متداولاً حتى القرن السابع الهجرى، وقال عنه الإمام أحمد بن حنبل،: أتدرى من الإمام؟ هو سفيان الثورى، لا يتقدمه أحد فى قلبى.

ولد سفيان الثورى سنة 97 هجرية، فى خلافة سليمان بن عبد الملك، فى خراسان، حيث كان أبوه مشاركا فى الحملات التى كانت ترسل إلى هناك، وشارك جده مسروق فى موقعة الجمل فى صفوف جيش على بن أبى طالب.

أخذ أبوه بيده فى البداية، ثم توسع سفيان فى تلقى العلم حتى قيل إن من تعلم على أيديهم من شيوخ بلغوا 600 شيخ، وذاعت شهرة سفيان، ونوه كثيرون بذكره منذ صغره لفرط ذكائه وحفظه، حتى أنه جلس يعطى الدروس الدينية وهو لا يزال شاباً، وبعد وفاة أبو حنيفة فى سجون الخليفة العباسى أبى جعفر المنصور لرفضه تولى القضاء، سأل المنصور عمن يلى أمر القضاء، فأشاروا عليه بسفيان الثورى، وأخبروه بأنه أعلم أهل الأرض، فأرسل فى طلبه ولكن الثورى تهرب حتى اضطر إلى الخروج من الكوفة إلى مكة سنة 155 هجرية.

فأرسل المنصور فى الأقاليم بمناد يقول من جاء بسفيان الثورى فله 10 آلاف دينار، ففر الثورى إلى البصرة، وعمل متخفياً فى حراسة أحد البساتين حتى عرفه الناس فخرج منها إلى اليمن، وهناك تم اتهامه بالسرقة، فتم تسليمه إلى معن بن زائدة والى اليمن الذى سأله عن حاله فعرفه، وخيره بين الإقامة والرحيل فرحل إلى مكة مرة أخرى موسم حج سنة 158 هجرية، الذى تصادف أن جاء فيه أبو جعفر حاجًا.

وبلغ أبو جعفر أنباء عن وجود الثورى بمكة، فأرسل إلى واليها يأمره بالقبض على الثورى وصلبه، فلما علم الثورى، تعلق بأستار الكعبة ودعا الله ألا يدخل المنصور مكة، فمرض المنصور ومات قبل أن يصل المدينة ثم خلف المهدى أباه المنصور، فأرسل إلى الثورى وطلب منه كما طلب أبيه بأن يلى القضاء، وكتب للثورى عهداً بذلك، فرمى الثورى العهد فى النهر، وفر إلى البصرة مجدداً، وتخفى فى دار يحيى بن سعيد القطان، ثم انكشف أمره بعد أن توافد طلاب الحديث على الدار، فعاد إلى الكوفة وتخفّى فى دار عبد الرحمن بن مهدى، فرصد الخليفة العباسى جائزة لمن يأتيه برأس الثورى.

وظل الثورى هائماً يتنقل بين البلاد متخفياً، وبعث إلى المهدى كتابا قال فيه "طردتنى وشردتنى وخوفتنى، والله بينى وبينك، وأرجو أن يخير الله لى قبل مرجوع الكتاب" فمات سفيان قبل أن يأتيه كتاب المهدى بالأمان فى عام 161. وكان للثورى من الكتب، الجامع الكبير والجامع الصغير والفرائض، وكان له مذهبه الفقهى الخاص الذى تبعه جمع من المسلمين مدة طويلة.

وذهب جزء كبير من آراء سفيان الفقهية حيث أوصى سفيان قبل وفاته إلى عمار بن سيف بأن يمحو كتبه ويحرقها واعتمد الثورى فى مذهبه الفقهى على ما صح عنده من الأحاديث، كما اعتمد أيضاً فى مذهبه على مناهج أخرى مساعدة فى بعض المسائل مثل الأخذ بإجماع العلماء كرأيه فى مسألة استئناف المرأة عدتها إذا طلقها زوجها ثم راجعها ثم طلقها قبل الدخول بها، والاجتهاد كرأيه فى جواز المسح على الشراب وإن كان مقطوعاً قطعاً كبيراً، والقياس كرأيه فى صحة الظهار بغير الأم من المحارم ولو من الرضاع.

وكان الثورى يرى عدم جواز القطع بالإقرار لأحد بأنه من أهل الجنة أو النار إلا للعشرة المبشرين بالجنة، لقوله فى وصيته لشعيب بن حرب: «يا شعيب بن حرب لا ينفعك ما كتبت لك حتى لا تشهد لأحد بجنة ولا نار، إلا للعشرة الذين شهد لهم رسول الله، كما كان يرى ضرورة ألا يخوض أحد فى مسألة صفات الله، ونصح بتمريرها كما هى وتم اتهام الثورى بأن فيه تشيع يسير، رغم تقديمه لأبى بكر وعمر، ذلك لكونه كان يقدم علياً بن أبى طالب، على عثمان بن عفان.