رامي رشدي يكتب: "الجعفرية" و"الأباضية" أفكار تقاوم الزمن

مقالات الرأي

رامي رشدي
رامي رشدي


المجددون القدامى.. مذاهب فقهية لا يعلمها المسلمون

عقيدة الأباضية تتفق مع أهل السنة فى كثير فهم يعترفون بالقرآن والحديث كمصدر للعلوم الدينية

جعفر الصادق أستاذ الأئمة المتفق عليه من السنة والشيعة والصوفية.. و7 ملايين يعتنقون المذهب الأباضى


ليس الإمام ابن حزم الظاهرى، ولا النسائى فقط، هما أئمة الفقه الذى اندثر علمهما فى القرون الأخيرة رغم كونهما من أوائل العلماء وأصحاب المذاهب، إذ إن الواقع يؤكد أن ما وصل إلى جموع المسلمين من الإنتاج الفقهى أقل بكثير مما كان موجوداً، حيث سادت المذاهب الأربعة المعروفة كما أشرنا فى العدد السابق للجريدة، وما جرى بالنسبة للنسائى وابن حزم، حدث لمذهب الإمام أبو جعفر الصادق، حفيد النبى صلى الله عليه وسلم، والإمام عبدالله ابن أباض التميمى، وكلاهما من أعلام الفقه الأوائل وأول من جدده بعد التابعين والصحابة.


1- أبو جعفر الصادق

الإمام الوحيد الذى يجمع عليه السنة والشيعة ولا يختلف عليه الفريقان، وهو أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق، ولد يوم 17 ربيع الأول 80 هـ فى المدينة المنورة وتوفى فيها فى مساء 25 شوال من سنة 148 هجرية، وهو إمام من أئمة المسلمين وعالم جليل وعابد فاضل من ذرية الحسين بن على بن أبى طالب وله مكانة جليلة عظيمة لدى جميع المسلمين.

لقب بالصادق لأنه لم يعرف عنه الكذب، ويعتبر الإمام السادس لدى الشيعة الإمامية الإثنا عشرية والخامس عند الإسماعيلية، وينسب إليه انتشار مدرستهم الفقهية والكلامية ولذلك تسمى الشيعة الإمامية بالجعفرية أيضاً بينما يرى أهل السنة والجماعة أن علم الإمام جعفر ومدرسته أساس لكل طوائف المسلمين دون القول بإمامته، وروى عنه كثير من كتَّاب الحديث السنة والشيعة على حد سواء، واستطاع أن يؤسس فى عصره مدرسة فقهية، وتتلمذ على يده العديد من العلماء.

ومن الجدير بالذكر أن جعفر الصادق واحد من أكثر الشخصيات التى يبجلها أتباع الطريقة النقشبندية، وهى إحدى الطرق الصوفيَة السنية، كما أنه من الرواد فى علم الكيمياء حيث تتلمذ على يديه أبو الكيمياء جابر بن حيان، كما كان عالماً بالفلك، ومتكلماً، وأديبا وفيلسوفاً، وطبيباً.

عرف عن الإمام الصادق اطلاعه الواسع وعلمه الغزير، حيث شهد له بذلك الأكابر من العلماء، منهم تلميذه الإمام أبو حنيفة حيث نوّه بعلم أستاذه الصادق ومقدار فضله حينما سئل: من أفقه من رأيت فأجاب قائلاً: جعفر بن محمد، لما أقدمه المنصور بعث إلى وقال: يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ له مسائلك الشداد، فهيأت له أربعين مسألة، ثم بعث إلى أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلنى من الهيبة لجعفر ما لم يدخلنى لأبى جعفر المنصور الخليفة العباسي، فسلمت عليه فأومأ إلى فجلست، ثم التفت إليه فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة، فقال: نعم أعرفه. ثم التفت إلى فقال: ألقِ على أبى عبد الله من مسائلك، فجعلت ألقى عليه ويجيبنى فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا، وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً حتى أتيت على الأربعين مسألة فما أخل منها بشيء ثم قال أبو حنيفة: "أليس قد روينا: أعلم الناس، أعلمهم باختلاف الناس».

عاش الإمام الصادق فى فترة حاسمة جداً من التاريخ، وهى الفترة التى تلت سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية وعادة ما تعطى الدولة الجديدة هامشا كبيراً من الحرية والتحرك، خصوصاً أن ملوك الدولة الجديدة أولاد عم الصادق، ولذا بدأ جعفر تأسيس نواة علمية ووضع أركان مدرسته الكبرى التى خرجت الآلاف من الطلاب والعلماء.

وللإمام الصادق فضل السبق، وله على كبار العلماء فضل خاص، فقد كان أبو حنيفة يروى عنه، ويراه أعلم الناس باختلاف الناس، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارساً راويا..

وكان مذهب الإمام جعفر يعتمد على أمرين، الأول هو ما يعتمده أهل السنة والجماعة وهو التدريج على القرآن والسنَة النبوية والإجماع ثم الاجتهاد لكنه يضيف إلى ذلك أمراً أساسياً عند الشيعة، هو الاعتقاد بالإمامة وما يترتب عليه من تقييم للصحابة وفتاواهم وأحاديثهم واجتهاداتهم بحسب مواقفهم من آل البيت، بجانب الاجتهاد واللجوء إلى العقل الصرف عند عدم وجود نص من قرآن أو سنَّة أو إجماع الأئمة وذلك لتأمين مصلحة المسلمين، وهذا نوع من الاستصلاح فالمصلحة العامة تعتبر أصلاً من أصول التشريع عند عدم وجود نص لكن الاجتهاد ليس لكل الناس.

يرى أهل السنة والجماعة أن جعفر الصادق، إمام من أئمة المسلمين، وعالم من علمائهم الكبار، وأنه ثقة مأمون، وأقوال أئمة الحديث فيه مليئة بالثناء والمدح.

ويرى علماء الشيعة أن الإمام الصادق هو أكثر الأئمة رواية فى كتب الحديث عند الإثنى عشرية، ويطلق على الطائفة الشيعية اسم الجعفرية نسبة لجعفر الصادق، وبناء على ذلك لا حاجة للاستشهاد بآراء العلماء الشيعة لأنهم مجمعون على حجيته.


2- الأباضية

الأباضية أحد المذاهب الإسلامية، التى لا تزال موجودة حالياً، ولكن أتباعه قلة بالنسبة إلى جموع المسلمين، وتمت تسمية المذهب نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي، بينما ينسب المذهب إلى جابر بن زيد التابعي، الذى كان من تلاميذ السيدة عائشة زوجة الرسول، وابن عمه، عبد الله بن عباس.

ويصل عدد المنتمين للأباضية حالياً نحو 7 ملايين تقريباً وتنتشر الإباضية فى سلطنة عُمان حيث يمثلون حسب بعض الإحصائيات ما يقارب 70% من العُمانيين وينتشرون أيضاً فى ليبيا والجزائر وتونس وبعض المناطق فى شمال إفريقيا وزنجبار.

ويعتمد المذهب الأباضى على الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ويميل إلى الشورى، ويرفض توريث الخلافة، ويعتبر أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يجب أن يشمل الكبير والصغير.

وأهم ما يميز المذهب الأباضى عن غيره على سبيل المثال لا الحصر أنه أول مذهب ينشأ فى الدولة الإسلامية، حيث تأسس فى القرن الأول الهجري، وإذا نسب إلى إمامه عبدالله بن أباض، فيكون ذلك فى القرن الثانى الهجرى وهو أول مذهب فكرى عقائدى سياسى كانت له آراؤه المستقلة فى العقيدة والحكم.

وهو مذهب معتدل فى دعوته وسيرته وفى دولته التى أقامها فى العديد من بلدان الإسلام مثل عمان والبصرة وحضرموت والمدينة المنورة ومكة المكرمة ومصر وشمال إفريقيا فى طرابلس وجبال نفوسة فى ليبيا وفى جربة بتونس وفى جبال الجزائر ووادى ميزاب، حتى انه وصل إلى الأندلس وتأسست للمذهب دول فى عمان، التى مازالت تدين غالبيتها بالمذهب الأباضي، وهناك ما يزيد على المليون أباضى يقطنون وادى ميزاب بالجزائر والذى لا يبعد عن الجزائر العاصمة أكثر من 700 كيلومتر، والدولة الرستمية التى أسسها عبدالرحمن بن رستم الفارسى كانت من أوئل الدول الأباضية.

ساعد فى انتشار المذهب الأباضى ما كان يمتاز به من الاعتدال، ودعوته إلى الإصلاح والمساواة والعدالة، وما كان ينادى به من تطبيق لهذه المبادئ فى ضوء أخوة الإسلام التى تجمع الجميع ولا تفرق بين عربى ومصرى وبربري.

إلا أن الأباضية كانوا فى عداء سياسى مع بنى أمية وبنى العباس، نظراً لأنهم كانوا يقولون إن الإمامة أو الخلافة حق لأى مسلم صالح، وليست قاصرة على قريش ولا على بطونها المختلفة من الأمويين أو العباسيين أو العلويين.

وعقيدة الأباضية تتفق مع أهل السنة فى كثير وتختلف فى القليل، فهم يعترفون بالقرآن والحديث كمصدر للعلوم الدينية، ولكنهم يقولون بالرأى بدلاً من القياس والإجماع.

ينفى الأباضية انتسابهم إلى الخوارج، كما ينفون أن تكون الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادرة بحقهم، وهم يرون أن مصطلح الخوارج أطلق عليهم لدواعٍ سياسية فى عهد بنى أمية.

وفى أول الدولة العباسية وأيام المنصور، عقد الأباضية البيعة لأول إمام لهم بعمان عام 134هـجرية اسمه الجلندى بن مسعود، وهم يعدون ذلك -الخروج على أئمة المسلمين وجماعتهم- من مفاخرهم ومواقفهم الدينية والسياسية والتاريخية التى يبنون عليها أصولهم وأمجادهم.

وظلت الأباضية فى صراع طويل مع خلفاء المسلمين، وكانوا فى أثناء ذلك ينصبون إمامًا تلو الآخر، وفى سنة 1161هـ بايع الأباضية أحمد بن سعيد، حيث انتقلت الإمامة إلى آل سعيد، ولا تزال دولتهم قائمة حتى اليوم فى عمان.