فؤاد معوض يكتب: عبد المطلب.. الشهير بـ"أهلاً رمضان"

مقالات الرأي



1- روايح الزمن الجميل


الاسم: محمد عبد المطلب مواليد أغسطس عام 1910 أيام أن كان الأرز يباع بـ«الزكيبة» وليس بـ«الأقة» ورطل اللحمة الضانى بـ«تعريفة» وجوز الحمام بـ«نكلة» والعشرون بيضة بـ«مليم» وفى إمكانك أن تأخذ فوقها من البائع - إذا كنت من زبائنه الدائمين - الفرخة التى باضتهم مجاناً!

اسم الوالد: عبدالعزيز «أفندى» الأحمر موظف على الدرجة التاسعة بمحكمة دمنهور الشرعية.. بساطة الوظيفة جعلته مربوطًا دون ترقية على نفس الدرجة لمدة عشر سنوات وتزيد وهو ما جعله يتقدم باستقالته ليفتتح بعدها محلاً للخردوات ومن يشرفنا يجد ما يسره.. أمشاط.. فلايات.. مساطر.. طباشير ملون.. أقلام رصاص.. زراير للقميص.. كل شىء وأى شىء ستجده فى محلنا العامر.. ولكن البيع يا أيها اللئام على النوتة ممنوع وإذا نطق الديك شكك أديك!

تبدل الحال مع عبد العزيز «أفندى الأحمر والأشيا أصبحت معدن والفلوس أصبحت متيسرة بعد تركة الوظيفة واحترافه للتجارة ما جعل فى إمكانه قبل بداية العام الدراسى أن يشترى البنطلون والقميص والحذاء لنجله «محمد» حتى يستعد من الغد فى الذهاب للشيخ عبد الحميد السنباطى صاحب المدرسة الابتدائية بالبلدة والالتحاق بها تلميذًا!

■ ■ ■

فصل أولى رابع بمدرسة الشيخ عبدالحميد والمشهد لا يزال عالقًا بذاكرته وعبد المطلب يحكى لى عام 1979 عندما كنت محررًا فى مجلة الإذاعة والتليفزيون - عن بداياته فى المدرسة وعصا الشيخ «تلسوع» مؤخرته لأنه فشل فى كتابة وزن.. زرع.. حصد بتشكيلهما الصحيح!.. فصل ثانية ثالث بنفس المدرسة والمشهد نفسه لأنه فشل أيضًا فى حصة المطالعة فى تسميعه لحكاية «سرحان ما بين الغيط والبيت» وفشله فى حفظها! فصل ثالثة أول بنفس المدرسة طلب منه الشيخ عبدالحميد الركوع كالعادة ووجه للحائط وعصا الشيخ «تلسوع» مؤخرته لأنه فشل أيضًا فى أن يعرف -عندما سأله مدرس الجغرافيا- إذا ما كان النيل ينبع من الحبشة أومن «جروبى» شارع سليمان باشا! وبالرغم من ذلك نجح عبد المطلب وحصل على الشهادة الابتدائية.. النجاح ليس بسبب التفوق وإنما كان بسبب سبعة أمتار من القماش الجوخ حصل عليها الشيخ عبد الحميد على سبيل «الرشوة» لزوم تفصيل جبة وقفطان جديدين.. وهو الأمر الذى جعل عبد المطلب من بعدها يهجر المدرسة ويهرب وراء واحد أسمه عبداللطيف البنا!

■ ■ ■

عبد اللطيف البنا إذا لم يكن أهل هذا الجيل يعرفونه من مواليد البحيرة كان مطربًا ذائع الصيت فى ذلك العصر لدرجة إنه إذا غنى فى أى قرية من قرى المحافظة احتشدت رجال ونساء كل القرى المجاورة لسماعه.. وما أن شاهده عبد المطلب ذات فرح كان يغنى فيه حتى هجم عليه وأخذ يقبله معانقا إياه يتبارك به ويتمسح فى طرف عباءته طالبا منه السماح له بمرافقته فى الأفراح والليالى الملاح ليس لأى شىء سوى الاستماع إلى صوت «البنا» فى الغناء وخصوصًا أغنيته الشهيرة التى يقول مطلعها «أنا فى غرامك شفت عجايب.. خلينا مع بعض حبايب» الله.. الله يا أستاذ.. عشان خاطرى الحتة دى من تانى.. سمع هس يا جدعان.. والذى كان عبد المطلب يهتف له بهما أثناء الغناء بينما هناك آخرون كانوا من فرط الطرب تخلع عليه أغلى ملابسها ترميه بها ومعها الجنيهات الذهبية والذى تمنى «العبد» عبدالمطلب ساعتها بعد هذا المنظر الذى شاهده فى أن يصل إلى ما وصل إليه عبد اللطيف البنا من شهرة وإعجاب.. واسعى يا عبد وأنا أسعى معك!

■ ■ ■

جاء عبد المطلب من بعدها إلى القاهرة بحثا عن الشهرة.. ركب الترام لأول مرة فى حياته وانكفأت على وجهى - كما راح يحكى عبدالمطلب فى حوارى معه - عندما سار الترام دفعة واحدة وكنت وقتها أقف على السلم.. نظرت حولى فوجدت الناس تساندنى بعضهم يمسح الدم السائل فوق جبينى الموضوع فوقه كمية من بن القهوة وضعته يد سيدة رحيمة لا أعرفها صرخت وهى تدق على صدرها قائلة اسم الله يا ضنايا رافقتنى حتى وصلت إلى اللوكاندة العثمانية بشارع كلوت بك وهناك استأجرت حجرة ضيقة بخمسة قروش.. هل أصفها لك.. ليس هناك أبلغ من ذلك الوصف الذى قاله الشاعر البائس عبد الحميد الديب فى حجرة مماثلة كان يسكنها..

لكم كنت أرجو حجرة فاصبتها

بناء قديم العهد أضيق من ثقب

ترانى بها كل الأثاث فمعطفى

فراش لنومى أو وقاء من البرد

وفى جوها الأمراض تفتك أو تعدى

تحملت فيها صبر «أيوب» فى الضنا

وذقت هزال الجوع أكثر من «غاندى»

■ ■ ■

نمت فى هذه الليلة حتى الصباح كان ذلك- كما راح عبدالمطلب يحكى - من بعدها خرجت إلى ميدان باب الحديد.. لم أركب الترام هذه المرة لذلك أخذتها «كعابى».. كل ثلاث خطوات أسأل عن مكان معهد الموسيقى حتى عرفته وابتدأت أتردد عليه وكان الفشل فى الالتحاق به بسبب عدم وجود رأسمال أو حتى جنيه واحد أدفعه كمصاريف دراسة!.. هل تصدق أن رأسمالى ساعتها لم يكن أكثر من رأسمال «سقاء» يحمل صفيحتا ماء فارغتين وعصا خشبية غليظة تتدلى من طرفها سلسلتان وقد اعتاد السقا أن يثبت العصا على كتفيه بعد أن يعلق الصفيحتين فى طرفيها ثم يخرج إلى الشوارع مناديا «ماء.. هل يرغب أحد فى ماء»، كان كل رأسمالى فى ذلك الحين حنجرتى أنادى بها «آكل.. هل يرغب أحد فى أن يمنحنى رغيفاً ولو حاف»؟!

ذهبت إلى محمد عبد الوهاب الذى استمع إلى صوتى وأعجبه من بعدها قرر أن يضمنى إلى أفراد فرقته برتبة «مذهبجى» أى كورس يردد وراءه ما يغنيه.. وظللت فى هذه الرتبة حتى خاصمت عبدالوهاب بسبب سفره إلى باريس لتحميض فيلم «الوردة البيضا» وقد كان كما وعدنى سيأخذنى معه ولكنه أخذ غيرى.. لذلك قررت الانفصال عنه والغناء بمفردى فى الصالات والملاهى -حتى ولو كان فيها بعض المشقة- إيمانًا بمقولة «الفريد دى موسييه» لا يصنع العظماء سوى ألم عظيم!

■ ■ ■

اشتغلت- والكلام لا يزال على لسان عبد المطلب- مطربًا فى فرقة بديعة مصابنى وكانت أيامها تقدم اسكتشات استعراضية بالاشتراك مع فريد الأطرش وإبراهيم حمودة ومحمد فوزى.. وهناك غنيت كل أغانى عبد الوهاب القديمة «كتير يا قلبى الذل عليك.. آه يا ذكرى الغرام.. مين عذبك بتخلصه منى.. ليلة الوداع طال السهر.. لو كان فؤادى يصفى لك» ثم غنيت أول ما غنيت كمطرب له إنتاج خاص كان ليه خصامك ويايا.. يا ناسية حبى وهوايا» وبدلاً من أن يقذفنى الناس بالبيض والطماطم كما كنت أتخيل فإذا بالناس تفعل العكس تخلع من فرط الطرب أغلى ملابسها تقذفنى بها ومعها الجنيهات الذهبية والريالات الفضية.. بعد الفلس والضنا عرفت النقود طريقها إلى جيبى للمرة الأولى وكذلك عرف قلبى طريقه إلى الحب عندما التقيت بها.. الجمال سبحان من صور.. الخالق الناطق كما القمر فى ليلة 14.. كنت قد التقيت بها فى الإسكندرية أثناء غنائى فى أحد الأفراح وأنا أسكن فى القاهرة وبسبب ذلك كنت أسافر لها يوميًا فى الثامنة صباحًا لأراها ثم أعود.. لم يكن أحد يعرف إلى أين أذهب فى صباح كل يوم وللأسف لم أتزوجها لأن المطرب زمان لم تكن له قيمة مجرد «مغنواتى» فى مولد أو حفل طهور وهو ما كان سببًا لأن يرفض أهلها زواجى منها افترقنا بعد أن طلبت من صديقى الشاعر مأمون الشناوى أن يملى على ببعض الأسطر المناسبة لهذه الحالة بحيث أكتبها بخط يدى فى رسالة أرسلتها بالبريد على عنوانها ولا أعلم إن كانت قد وصلتها أم لا كلماتها مازلت أذكرها «وداعًا وإن كنت سأظل كل العمر مشغولاً بل مغرمًا بك يا زهرة البنفسج»!

بسبب الحب- وعبد المطلب مازال يحكى- الذى ضاع بدأت أشعر بأنه ليست هناك قيمة لأى شىء.. الفلوس ما قيمتها؟! والشهرة ما قيمتها؟! وأى شىء ما قيمته بعد أن ضاع أغلى شىء؟! بدأت اشرب وأسهر حتى أنسى.. عشت حياة الليل بالطول والعرض والعمق والارتفاع بل استحلبتها حتى النخاع.. صرفت كل ما كنت أدخره على مزاجى الخاص إلى أن حدث لى ذات مرة وأنا على خشبة الأوبرا فى حفل كبير أتأهب للغناء.. الصوت خرج من حنجرتى غريبًا مثل مواء قطة جائعة.. وقتها ارتجفت.. وجهى من الخضة أصبح فى لون الليمونة البنزهير.. ركبى راحت تخبط فى بعضها وكأنه أصابنى شلل رعاش.. حاولت من جديد إعادة التجربة وللأسف لم تكن إلا صورة طبق الأصل من الصورة سالفة الوصف.

■ ■ ■

أسدل الستار يومها بسبب فشل خروج الصوت.. بكيت حتى أمتلأت عيناى بالدموع.. ضاع صوتى بسبب ما أقدمت عليه من شراب وسهر.. خسرت بالتالى المجد الذى كنت قد رنوت إليه.. ترددت على سيدنا الحسين أؤدى صلاة الفجر بانتظام بل أطلب من الله المغفرة.. حدثت المعجزة وعاد صوتى كما كان واسع المساحة سليم المقامات «رأى للناقد الموسيقى كمال النجمى».. من بعدها اتجهت إلى الطريق المستقيم.. ويوماتى أهجر حينا وكل واحد عنى قال.. عاشق وقلبه مش هنا.. وأنا قلبى متحير ما بين السيدة وسيدنا الحسين!.. طوالى وبسرعة فقد قاربنا على انتهاء المساحة.. بعدها ذهبت فى عدة رحلات خارج البلاد.. غنيت فى كل البلاد العربية.. قمت ببطولة فيلم «تاكسى حنطور» عام 1949.. عدت من العراق أنا وصديقى سعيد مجاهد بعد أن مكثنا هناك أكثر من أربع سنوات كاملة.. أنتجت على حسابى فيلم «الصيت ولا الغنى» مع المطربة نرجس شوقى.. فشل الفيلم فشلا ذريعًا.. خسرت الجلد والسقط.. تزوجت من نرجس شوقى لمدة ثلاثة أشهر من بعدها تم الطلاق.

تسألنى - والكلام موجه من عبد المطلب للعبد لله- عن سبب الطلاق لا أستطيع الأفصاح بها وإن كنت ذكرتنى بقصة قديمة أحكيها لك وكان هناك أحد الأشخاص الرومانيين طلق زوجته فلامه أقاربه على فراقها وقالوا له: ألم تكن جميلة؟! ألم تكن عفيفة؟! فتناول الرومانى حذاءه ورفعه لهم ليروه وسألهم: أليس حسن المنظر؟! جميل الصنع؟! ثم أكمل: مع ذلك لا يدرى أحد منكم فى أى موضع يضيق ويؤلمنى!.. تزوجت من بعدها للمرة الثانية.. عندى من الأولاد نور وبهاء وانتصار وسامية.. عام 1956 حاول أحد الموسيقيين أن يدس لى السم فى الطعام.. مؤامرة وضع خطوطها مطرب معروف للقضاء على فقد كان يعتبرنى المنافس الوحيد له.. أصبحت مشهورًا والحمد لله.. زاد عدد المعجبين بى خاصة من السيدات.. معجبة من المنوفية كانت إلى وقت قريب ترسل لى بسبب الإعجاب هذا بالسمن البلدى والفطير المشلتت والجبنة القريش كل أسبوع! لا أملك الآن إلا الستر.. جمهورى هو «مصر» بكل طوائفها.. «فشر» أن ينام منى الجمهور -كما تدعى- وأنا أغنى!.. ثروتى الغنائية كبيرة منها ساكن فى حى السيدة.. يا حاسدين الناس.. ودع هواك.. أهل المحبة.. أقربها إلى مزاجى أهلاً رمضان.. الأغانى الحديثة مثل الأسكالوب والهامبورجر معظمها تسبب عسرا فى السمع!.. أم كلثوم فى رأيى هى ست الكل!.. محمد عبد الوهاب عمى وأستاذى!.. عبد الحليم حفاظ الجديد من نغم فى حياتنا!.. فايزة بيت العز الغنائى! نجاة صوت حنون قال عنه كمال الشناوى فى يوم ما إنه كالضوء المسموع!.. محمد رشدى كان «يبصبص لى زمان وأنا أغنى!.. محمد قنديل امتداد طبيعى لي!.. ماهر العطار صوته يشبه الكرسى «الفوتيه» تشعر بالراحة وأنت تسمعه.. محرم فؤاد «بعد فترة تفكير» اقتطعها بقوله أجيب لك شاى كشرى واللا بـ«فتلة».. وتوتة توته خلصت الحدوتة!