أحمد فايق يكتب: الساحر يتحدث عن رأفت الهجان ومحمود المصرى والشيخ حسنى

مقالات الرأي



فى مثل هذا الشهر كان يعيش بيننا محمود عبد العزيز


لو لم يرفع حسين فهمى أجره لما تمرد عليه المنتج رمسيس نجيب وقرر اكتشاف محمود عبد العزيز؟

لو لم يعتذر عادل إمام عن رأفت الهجان لما استمتعنا بالساحر؟

لو لم يكن محمود عبد العزيز يعشق المرأة فى كل أعماله لما أمتعنا بهذا العمل العظيم؟

لو لم يكن مؤمن بيحيى العلمى ويقبل إعادته للمشاهد عشرات المرات لما صدقنا؟

القدر يجمع أشياء كثيرة فى تركيبة هندسية معقدة تساوى تاريخ ومشاعر وحكايات بشر؟

هذا أول رمضان يمر على المصريين دون وجود محمود عبدالعزيز، وكأن الشهر الكريم ينقصه شىء ....

هناك ألف سبب فى أن نستمتع برأفت الهجان ومن بعده محمود المصرى فى رمضان، ففى فترة من الفترات سافر الساحر إلى فيينا وعمل بائعا للصحف أمام الأوبرا معقل الثقافة النمساوية، فى البداية أراد المنتج رمسيس نجيب أن يجد بديلا لدنجوان السينما وقتها «حسين فهمى» بعد رفع أجره، وقد كان محمود عبد العزيز، هو ليس فتى أحلام عاديا بل يتمتع بخفة ظل ووعى لما يحدث حوله وقدرة على التلون كالحرباء، يوازيها ملل شديد من تكرار أى دور يلعبه حتى لو كان مضمون النجاح.

محمود عبد العزيز لديه قدرة أكبر بكثير على المغامرة والتحول دون حسابات فى بعض الأحيان، فهو يشبه البحر فى تقلباته متأثرا بنشأته فى مدينة الإسكندرية، ولا ينظر سوى إلى تاريخ سيتركه لأجيال من بعده، ربما لهث فى بعض الأحيان نحو التجارية وخرجت منه أفلام نمطية، لكن تظل فى تاريخه دائما قفزات حلق بها فى عالم التمثيل وأسست أسلوبا وأداء فيمن بعده.

فى فيلم «حتى آخر العمر» ظهر فتى الأحلام الجديد، وطوال ثلاث سنوات بعده وضعه صناع السينما فى نفس القامة، وسرعان ما تمرد الساحر وعاد بتجربة مهمة مع مخرجه المفضل يحيى العلمى، وهى «طائر الليل الحزين» الذى أدان القهر والديكتاتورية فى نظام جمال عبد الناصر، وفى الميلودراما الاجتماعية «العار» يشارك الساحر فى طرح العديد من التساؤلات حول الازدواجية بين الفساد والدين وطغيان المادة بعد الانفتاح الاقتصادى، ويقدم نفسه كوميديانا كبيرا فى فيلم «بيت القاصرات» مع المخرج أحمد فؤاد، كاشفا البيروقراطية والفساد الإدارى الذى يتسبب فى تدمير حياة فتاة أرادت أن تعيش حياة كريمة.

هنا تتضح ملامح علاقة محمود عبد العزيز بالمرأة فى أعماله، فهو يضع لها مساحة كبيرة ولا يختزلها فى شكل موديل لتجميل الصورة، وأحيانا تطغى مساحة البطولة النسائية عليه شخصيا، ويقدم فى الكوميديا الاجتماعية «الشقة من حق الزوجة» إطارا يميل إلى الذكورية فى الطرح، لكنه سرعان ما يعود لينتصر للمرأة فى «عفوا أيها القانون» مع المخرجة إيناس الدغيدى، ويصل إلى مرحلة النضج الفنى فى ثلاثيته الفانتازية مع المخرج رأفت الميهى «السادة الرجال» و«سيداتى سادتى» و«سمك لبن تمر هندى»، التى شرحت المجتمع سياسيا واجتماعيا ونفسيا، وطرحت أسئلة وجودية حول العلاقة بين الرجل والمرأة، ويصل الساحر إلى قمة نضجه الفنى فى شخصية «الشيخ حسنى» فى فيلم «الكيت كات» الذى مثل فيه بكل جانب من جسده، الأذن تتحرك يمينا ويسارا والحواجب تصعد وتهبط والشارب بحضوره الطاغى.

يكشف هذا الرجل الأعمى المجتمع ويعريه فى مشهد بديع «الميكروفون».... تجربة محمود عبد العزيز الفنية ثرية بشكل كبير وتحتاج إلى دراسات وأبحاث تحللها، ومع بداية شهر رمضان لا يستطيع أحد أن ينسى مسلسل «رأفت الهجان» الذى يعد العلامة الأبرز فى تاريخ مسلسلات الجاسوسية فى الدراما العربية، وحينما يعاد عرض المسلسل فإن الجمهور لا يمل من مشاهدته رغم مرور عشرات السنين عليه، وأصبح مرتبطا بحالة من النوستالجيا «الحنين إلى الماضى» لدى أجيال كاملة من العرب، فهو البطل المفقود والرمز الغائب والعمل الفنى الجيد الذى نفتقد مثله ويعبر عن زمن نبحث عنه.

قال لى الراحل محمود عبد العزيز وكنا فى مهرجان تطوان السينمائى بالمغرب هذه الفترة غير مرتبطة بشيء سوى أسماء كبيرة من الكتاب والأدباء والمخرجين مثل نجيب محفوظ ويوسف السباعى ويوسف إدريس ويوسف القعيد وجمال الغيطانى ونور الدمرداش ومنتجين مثل رمسيس نجيب، وفجأة لا تجد أحدا منهم، نفس الأزمة حدثت فى فرنسا وبعد فترة يخرج أديب مثل علاء الأسوانى، ولا يوجد أحد آخر تتحدث عنه سوى محمد البساطى مثلا، الزحام كبير والموهوبون قليلون، فى زمن رأفت الهجان كنت ومازلت أحب الشيء الذى أفعله، حيث كان يفتقد الناس البطل، فى وقت طغت فيه قضايا الدجاج الفاسد والمواد المسرطنة والمرأة الحديدية على الساحة الاجتماعية والسياسية، وحينما خرج البطل من ملفات المخابرات العامة المصرية بأسلوب صالح مرسى التف حوله المصريون والعرب، فنحن نعانى منذ رحيل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من غياب البطل والرمز، ووجده الناس فى شخصية درامية مثل رأفت الهجان.

كيف نجح هذا العمل وأصبح واحدا من أهم المسلسلات فى تاريخ الدراما العربية؟

الصدق هو سبب النجاح، فإذا لم يكن العمل كله مترابطا وفريقه أيضا لن يصدقه الناس، وأنت كفنان تحاول أن تصل بإحساسك للناس بأن هذا شىء حقيقى، المخرج الكبير يحيى العلمى درس فى إنجلترا غير دراسته فى مصر وعمل فى المسلسل ببساطة شديدة لا تشعرك بوجود مخرج يستعرض عضلاته على الرغم من وجوده كمخرج عظيم خلف الكاميرا، فقد كان يعطينى المشهد مكتوبا فى ثمانى صفحات وحينما أقرأه أشعر بأنه مشهد معقد جدا، يغير قطعات الكاميرا بإحساسه، ويبنى علاقة خاصة بينك وبينه كممثل قائمة على الاحترام ولا يتنازل أبدا، وكرامته كمخرج فوق كل شيء، كانت هناك روح جماعية ورغبة حقيقية فى العمل بصدق.

ولا تستطيع أن تفصل هذه الحالة الخاصة عن الحالة العامة، وقد كان هناك أسماء مثل نور الدمرداش وإبراهيم الصحن وفايز حجاب، نور الدمرداش كان مثل أبى وأقرأ له الفاتحة مثل المنتج رمسيس نجيب الذى كان أكثر من أبى، هؤلاء يريدون فعل الشيء الصحيح كنت أشاهد رمسيس نجيب يتشاجر مع أى مؤلف يقدم ورقا فيه استسهال.

والفن فى النهاية مرآة، فحينما تنظر إلى التعليم والصحة والمرور ستجدهم مجموعة «خرابات وبيوت دعارة»، فماذا تريد من الفن؟

هناك مدرستان فى التمثيل إحداهما تطغى فيها شخصية الممثل على الشخصية الدرامية التى يؤديها، ومن أشهر روادها فاتن حمامة، ومدرسة أخرى تطغى فيها الشخصية الدرامية على شخصية الممثل، ومن أشهر روادها سعاد حسنى، وأيضا محمود عبد العزيز، فحينما رأينا رأفت الهجان شعرنا بأن الساحر ألغى شخصيته الحقيقية وأصبح رأفت الهجان.

يقول محمود عبد العزيز:أنا لا أعرف طريقة أو مدرسة فى التمثيل صدقنى المسألة إحساس وليس خطا هندسيا أسير عليه، حينما قرأت ورق رأفت الهجان ذهبت إلى المخابرات العامة وأخذت منهم ملفا فيه الأوراق الشخصية لهذا البطل وصورا له فى مختلف المراحل العمرية، وأحضرت المجلات والصحف التى صدرت فى هذه المرحلة الزمنية وشاهدت فيها طريقة تصفيف الشعر والملابس التى كان يرتديها كل من عاش هذه الفترة الزمنية، خاصة أن رأفت الهجان كان شديد الأناقة، رأيت جملة فى أوراق المخابرات العامة المصرية عنه وهى بالعامية المصرية «بيتكعبل فى النسوان»، وهى جملة بالنسبة لى شديدة الثراء فى التمثيل، فالجملة تبرر علاقاته النسائية الكثيرة والمتشعبة، وحبه للنساء بشكل كبير لدرجة تجعلنى أخلق علاقة خاصة بينه وبين أى امرأة قابلها فى حياته.

وفى شخصية الشيخ حسنى وفيلم «الكيت كات» درست أن هناك أنواعا كثيرة من فقدان البصر، فهناك من ولد فاقدا للبصر، وهناك من فقد البصر فى مرحلة عمرية معينة، تعلمت هذا من أطباء العيون، تجولت فى الشارع ورأيت معطفا أمسكت به وقلت «هذا هو» لأنه يناسب الشخصية، فالمعطف فيه بقعة فى منطقة الرقبة، وهو يناسب تركيبة شخص فاقد للبصر فلا يخلو الأمر من وقوع بقايا طعام على رقبته وصدره، أما رأفت الهجان فقد كان إحساسى الداخلى بأنه شرف لى أن أقدم هذه الشخصية وهى أقل تقدير لروح هذا البطل وتجسيدها بمراحلها المختلفة، وهى فى النهاية عملية إحساس بأن تضع نفسك مكان الشخصية فى المواقف الدرامية التى يتعرض لها، حينما عبرت عن رد فعل رأفت الهجان على نكسة 67 وموت عبد الناصر ونصر أكتوبر لم يكن التعبير مختلفا عن إحساسى الطبيعى بهذه الأحداث.

وفى فيلم «الشياطين» المأخوذ عن قصة لدستوفسكى كانت شخصية انتحارية وكان شبه ملحد، أول شيء اشتريت له قماش بدلة قديمة ثمن المتر فيه 84 قرشا وقلت لنفسى طالما هى شخصية انتحارية فلن ترتدى بدلة أنيقة، وجعلت الترزى يفصل بدلة على الطراز القديم باللون الرمادى، وخطوط مظلمة ووضعت نظارة نظر كبيرة الحجم على وجهى، واقترحت على المخرج حسام الدين مصطفى وضع صور لغاندى وبوذا فى خلفية المكتب الذى تجلس فيه الشخصية، وتفاصيل أخرى لم تظهر فى الصورة، مثل حينما تسير الشخصية فى الأرض تشوط بقدمها الحجارة الصغيرة، جعلته دائم التوهان وهادئ بلا انفعال، ولا يصفف شعره ولا يوجد له فورمة معينة والهواء يحركه، ورغم أننى لا أعرف شادى عبدالسلام إلا أنه أعطانى جائزة أفضل ممثل فى أحد المهرجانات وقال للجنة التحكيم: «لو لم يحصل محمود عبد العزيز على هذه الجائزة سأستقيل من التحكيم»، وأضاف «هذا الدور يجب أن يدرس فى معهد السينما».

بعد رأفت الهجان عرضت على عشرات من المسلسلات وأفلام الجاسوسية لكننى رفضتها فالجمهور حدث له تشبع، وماذا سأفعل ثانية بعد رأفت الهجان.

لماذا مسلسل «محمود المصرى» لم يكن بمستوى رأفت الهجان؟

قلت لك الظرف السياسى والاجتماعى تغير والقدرة على الإبداع لم تعد كما كانت، الهدف من محمود المصرى بالنسبة لى هو تقديم قدوة للشباب لأنه رمز للكفاح والصلابة والإصرار فقد خسر ثروته أكثر من مرة ونجح فى استعادتها، ومحمود المصرى قريب من الشخصية اللبنانية فى شطارتها بالبيزنس والأعمال، وهذا سبب نجاح المسلسل بشكل كبير فى لبنان مثلا، لقد قالت لى سيدة مصرية إنها فقدت كل ثروتها وحينما شاهدت المسلسل أصبح لديها عزيمة ووقفت من جديد وأصبحت مليونيرة الآن، رأفت الهجان يجب أن تضعه فى إطار آخر لأنه تركيبة بإحساسها وظروفها وطبيعة موضوعها مختلفة.