رامى المتولى يكتب: «لا تطفئ الشمس».. كسر التابوهات الجنسية واستحضار روح إحسان عبدالقدوس

مقالات الرأي

رامى المتولى
رامى المتولى


استحضار روح إحسان عبد القدوس هو أهم ما يميز «لا تطفئ الشمس» الذى ينتمى من ناحية العنوان للرواية لكنه فى الحقيقة يحمل إسقاطات على عالم إحسان بالكامل مع روحه المعاصرة والشابة حتى مع تقدمه فى العمر والتى كسرت الكثير من تابوهات المجتمع المصرى، وكانت كتاباته مؤثرة وحيوية عند الكثيرين وما زالت وتفردها جعل من إحسان -سواء اتفقنا أو اختلفنا على إبداعه- واحدا من أهم الروائيين فى مصر.

لا يمكن النظر من زاوية ضيقة وقصر المسلسل على مساحة بالغة الضيق ومقارنته بالفيلم أو الرواية، أولا لاختلاف الوسيط ما بين الفيلم والرواية من جانب ومسلسل 2017 من جانب آخر، حتى المقارنة بينه وبين المسلسل القديم الذى تصدر بطولته كرم مطاوع وصلاح السعدنى أيضًا غير جائزة ولا تصلح، خاصة أن المسلسل القديم كان 10 حلقات فقط وملتزم بالنص الأصلى وبالتالى مقارنته بمسلسل 30 حلقة مجحف لاختلاف الطبيعة والتطور وعليه اعتبار «لا تطفئ الشمس» 2017 هو عمل منفصل تماما عما سبقه له أهداف مختلفة وأدوات مختلفة أيضًا.

المسلسل تحول على يد تامر حبيب من رصد دقيق للتغيرات التى بدأ المجتمع المصرى يشهدها منذ ثورة يوليو 1952 واندفاع الشباب لكسر الثوابت وأعراف المجتمع البالية المتأخرة حسب أحداث (الرواية/ الفيلم/ المسلسل) إلى تكريم لإحسان عبد القدوس وعالمه بالكامل وشخصياته التى كانت تخرج عن المألوف ورؤيته التى تكسر فى الثوابت المجتمعية وذلك بالاعتماد على منهجين رئيسيين الأول استلهام شخصيات من عالم إحسان الروائى وضمها فى العمل وأن يحمل المسلسل رؤية معاصرة تناقش بشكل حقيقى قضايا معاصرة.

الأولى لن يستطيع التعرف عليها وفك شفرتها بالكامل إلا محبى إحسان، ستجد عند إنجى (أمينة خليل) لمحة من ناهد بطلة «دمى ودموعى وابتسامتى» وعند رشا (شيرين رضا) روح مادى «النظارة السوداء» فى الثورة على قيم المجتمع بمنتهى التطرف والذى لا يقل عن تطرف المجتمع فى فرض الفضيلة ظاهريًا، وغير ذلك من الأمثلة التى ستجد أن تامر ضفرها بعناية فى رسمه لشخصيات العمل الأساسى «لا تطفئ الشمس»، بينما عمل على خط آخر وهو المعاصرة والخيار الأهم فى صناعة المسلسل ككل، فمجرد نقل الأحداث للوقت الحالى مع تحديد السياسة يسهل الطريق على المشاهد فى عقد المقارنة لأنه بالضرورة سيستدعى الأعمال الفنية السابقة التى خرجت بوسائط متعددة وبالتالى إلقاء الضوء على أبطالها من ناحية ومن شكل المجتمع وقتها وفى الوقت الحالى وأحلام شباب هذه المرحلة وأحلام نظرائهم حاليًا، كيف أصبحت مصر الآن وكيف اتسعت الفجوة بين الماضى والحاضر من حيث التركيبة الاجتماعية والثقافية والتصنيف الطبقى على المستويين الاجتماعى والمادى.

عند هذا الحد استطاع تامر أن يحقق أكثر من هدف بضربة واحدة، يطور، يصنع رؤية جديدة، يكرم إحسان وعالمه، يرسم شكلا للمجتمع، لكن تبقى روح التمرد وكسر التابوهات والتى كانت تتخذ من الجنس عنصرا رئيسيا –إلى جانب عناصر أخرى بالطبع- فى خلق صدمات عند القراء تكسر فى الثوابت، وتامر لم يتراجع عن خلق نفس الروح فى عمله المطور فأحد الشخصيات مثلى جنسيًا، وقضايا الجنس خارج الزواج مطروحة للنقاش حتى داخل المسلسل، فساد رجال الأعمال وتزاوج السلطة والمال، الحب والأحلام من جهة وواقع الحياة المرير حتى على الموسرين ماديًا، شكل الفن كيف أصبح سلعة تباع وتشترى بطرق خسيسة أصبحت عرفًا لا وسيلة للاستمتاع عند التلقى أو تفريغ الطاقات المكبوتة عند ممارسته.

مخرج العمل محمد شاكر خضير ترجم كل ما دمجه تامر فى سيناريو المسلسل لرؤية بصرية متفردة فى تكوينها، شاعرية الشخصيات جعله يعتمد على اللقطات القريبة والقريبة جدًا لتكون وسيلة التواصل بين المشاهدين والممثلين، اعتمد على الإضاءة طوال الوقت ليعبر عن حالات محددة تضخم من الإحساس بالشخصيات، كان يظلل شخصية أحمد الأخ الأكبر فى الوقت الذى يسقط آدم الأخ الأصغر فى النور كدلالة بصرية على اختلافهما واعتماد كل منهما على الآخر فى نفس الوقت، هذا بالطبع إلى إدارة الممثلين بشكل جيد جعل من أدائهم جميعًا على اختلافهم فى الخبرة والقدرات يبدو وكأنه نغمة واحدة يسلمون ويستلمون من بعضهم البعض المشاهد بشكل سلس دون أى تكلف أو افتعال، كل هذا يسير جنبًا إلى جنب مع موسيقى أمين بوحافة التى تظهر فى معظم المشاهد تقريبًا لكن لا تشعر معها أنها مقحمة على المشهد أو زائدة عن المطلوب، تضخم بشكل ما مع باقى العناصر التأثير المطلوب وتدعمه فى اتجاه إيجابى.

«لا تطفئ الشمس» هو العمل الأهم لهذا العام فى فئة مسلسلات الدراما الاجتماعية ليس فقط لجودة صناعته والتمثيل الأكثر جودة لعناصره الفنية، لكن أيضًا لأنه يكسر الصورة السائدة عند تناول عمل روائى من ناحية وعمل روائى لكاتب كبير راحل من ناحية أخرى، ويناقش قضايا شائكة دون أن يفقد شاعرية ورومانسية الرواية الأم التى كتبها صاحبها فى مطلع ستينيات القرن الماضى وما زالت قابلة للتناول والصياغة وإعادة الإنتاج.