د. نصار عبدالله يكتب: ذكريات فاطمة اليوسف "1"

مقالات الرأي



تعودت فى شهر رمضان من كل عام أن أعيد قراءة الكتب التى قرأتها منذ سنوات طويلة والتى لم أعد أذكر منها إلا أنها كانت ممتعة لدى قراءتها للمرة الأولى، وإن كانت تفاصيلها قد أصبحت ظلالا لايتبين منها إلا مضمونها الرئيس الذى كثيرا ما أكتشف أنه قد تبدد بدوره من ذاكرتى!، بعضها قرأته لأول مرة منذ خمسين أو ستين عاما فى حين أن بعضها الآخر قد انقضى على قراءتى إياه نصف تلك المدة أو ما يقل عن ذلك بكثير، لكننى فى كل مرة أعيد فيها القراءة أشعر بنفس متعة القراءة الأولى، مضافا إليها تلك القدرة الإضافية التى يكتسبها المرء من خبرة سنوات وتجاربه على النفاذ إلى ماوراء السطور التى سطرها الكاتب، فإذا به يخرج منها بمالم يخرج به لدى قراءتها لأول مرة.. وفى رمضان الماضى أعدت من بين ما أعدت قراءته: ذكريات فاطمة اليوسف التى قرأتها لأول مرة منذ ستين عاما، ثم أعدت قراءتها عندما أعادت الهيئة المصرية العامة للكتاب طباعتها منذ ما يقرب من عشر سنوات (سلسلة: أدباء القرن العشرين العدد:12) وهأنذا فى رمضان هذا العام أقرأها وكأننى أقرأها للمرة الأولى وقد صدرت تلك الطبعة بنفس المقدمة التى كان قد كتبها الكاتب الراحل إحسان عبدالقدوس نجل الفنانة الكبيرة والكاتبة المناضلة فاطمة اليوسف.. يقول الأستاذ إحسان فى مقدمته التى أجتزئ منها ما يأتى بتصرف يسير: أمى هذه السيدة.. كيف استطاعت أن تجمع بين جهادها الشاق والمضنى الذى بدأته وهى فى السابعة من عمرها وبين واجبها كزوجة وأم ؟!.. أنا نفسى لست أدرى... لا أدرى كيف استطاعت أن تحملنى تسعة شهور وهى واقفة على خشبة المسرح تعتصر الفن من دمها وأعصابها لتكون يوما أعظم ممثلة فى الشرق.. ولا أدرى كيف استطاعت أن تطرد عنى الموت الذى طاف بى مرات خلال طفولتى وصباى، فى حين أنها كانت دائما بعيدة عنى تسعى فى طريق مجدها.. ولا أدرى كيف استطاعت أن تنشئنى هذه النشأة، وأن تغرس فى هذه المبادئ وهذا العناد، وأن تقودنى كطفل وكشاب فى مدارج النجاح، فى حين أنى لم ألتق بها أبدا إلا وفى رأسها موضوع و بين يديها عمل.. إنها لم تكن غنية يوم ولدتنى ولم يكن أبى غنيا فلم يكن لديها قدرة على استئجار مربية.. إنما هى التى صنعتنى بيديها، هى التى أرضعتنى، وهى التى أعدت طعامى، وهى التى بدلت فراشى، وهى التى علمتنى كيف أخطو، ولقنتنى كيف أنطق.. صنعتنى بيديها.. كما صنعت مجدها بيديها.. وهو مجد كل حروفه هى وحدها صاحبة الفضل فيه، وليس لأحد فضل عليها، هى التى التقطت دروس الفن وجعلت من نفسها: سارة برنارد الشرق كما أطلق عليها نقاد جيلها.. هى التى علمت نفسها القراءة، رغم أنها لم تدخل مدرسة، وهى التى دخلت ميدان الصحافة وفى يديها خمسة جنيهات وأنشأت مجلة تحمل اسما يكاد أن يكون أجنبيا وهو اسمها هى الذى اشتهرت به على المسرح، فاستطاعت أن تجعل من هذه المجلة أقوى المجلات نفوذا فى الشرق.. وهى التى لقنت نفسها أصول الوطنية الصادقة واستشراف المستقبل فلم تخط مصر خطوة من خطوات تاريخها الوطنى إلا وكانت هى الداعية لها.. هى السيدة التى لا تحمل شهادة مدرسية ولا مؤهلا علميا لكنها أخرجت جيلا كاملا من الكتاب السياسيين، ومن الصحفيين.. هى التى استطاعت يوما أن تتحدى كل ذوى السلطة: الإنجليز والملك والأحزاب كلها.. سجنوها مرة، وصادروها عشرات المرات، وحاكموها مئات المرات لكنهم لم يستطيعوا أن يقهروها!!.. انتهى اقتباسنا من الأستاذ إحسان عبدالقدوس لكن حديثنا مازالت له بقية.