د. رشا سمير تكتب: "صوفيا".. علوان يعزف على أوتار الحب والموت

مقالات الرأي



■ الروائى رغم صغر سنه إلا أنه يمتلك مفردات لغوية صعبة وعربية سليمة


فى انتظار الأشياء تتبدل كل الأحاسيس.. فى انتظار الحُب.. تتوه دقات القلوب بين من لا يستحق ومن يستحق.. فى انتظار الحرية..تنكسر كل القيود على أعتاب واقع القهر.

فى انتظار الغد.. تتوقف أنفاس اليوم وتنطوى الساعات والدقائق بين أوراق الزمان، فى انتظار الرحيل..تتكدس كل الأشياء على الأبواب فى انتظار ضوء النهار، لكن..وماذا عن انتظار الموت؟.

فى انتظار الموت.. تدق القلوب خفاقة من شدة الترقب وانتظار المجهول.. فى انتظار الموت..تصمت الكلمات وتقف أوراق الأشجار ساكنة فى وجه الريح.. فى انتظار الموت..يُعلن الكروان الحداد وترتدى أزهار التيوليب اللون الأسود وترتشف نساء الحى قهوة الحزن مودعين معها الأحبة.

تلك هى الأحاسيس البسيطة التى كتب عنها الروائى السعودى محمد حسن علوان روايته (صوفيا) الصادرة عن دار الساقى للنشر فى 133 صفحة.

الحقيقة أن الرواية تبدو مختلفة منذ الصفحات الأولى.. فعلوان كعادته يستخدم المفردات التى غابت عن زمان استسهل فيه الروائيون اللغة الدارجة ليعبروا عن حدث ما فى رواياتهم.. لكن علوان على الرغم من صغر سنه إلا أنه يجيد وبشكل غير مسبوق استخدام اللغة العربية ووضعها على الورق بطريقة منمقة ولكنها فى الحقيقة وفى رأيى لغة صعبة بشكل كبير على القارئ العادى.

أتصور أن قراء علوان لابد وأن يكونوا مختلفين اختلافا حتميا من قراء روايات الشباب التى هاجمت السوق فى هذه الأيام حتى استهلكت قيمته الحقيقية وخلطت الحابل بالنابل فى الوسط الثقافى..إنه روائى يمتلك لغة عربية سليمة ومفردات مختلفة عن شباب جيله.

الرواية تدور حول فكرة بسيطة وهى كيف تتبدل أحاسيس البشر فى انتظار الموت من خلال صوفيا بطلة الرواية، الشابة اللبنانية المسيحية ومعتز السعودى المسلم..وكيف تذوب على أعتاب تلك العلاقة الغريبة كل الحدود وتتلاشى كل المحظورات حتى الدينية منها وهى التى تقف مثل حائط المبكى فى وجه أى علاقة إنسانية.


1- ذبول امرأة فى انتظار الموت

هكذا يصف علوان التغييرات التى تطرأ على بطلة الرواية وهى تتحول من لحظات الحيوية إلى الذبول فى انتظار موت حتمى على يد وحش كاسر وعدو فتاك هو مرض السرطان بكل شراسته..يحكى علوان لحظاتها الأخيرة بقلم يشرح أحاسيسها بكل دقة فيقول:

«كنت أجلس بين يدى موتها، وألون أضلاعى بفنائها الأخير، وأصفق بشجن مزور أعمى، حتى يكتمل موتها تماماً، عندها، أكنس أحلامها اليابسة، وأسحقها فى قعرٍ نحاسى صلب، وأذرها على السفح المخذول من العمر، وأمضى..هكذا اتفقنا، من دون أن نتحدث، هى ملاح وافق على الموت، ويفتش لنفسه عن حالة تليق بموته، ولذلك أختلق أنا معها حالة حب عابرة، مذهولة، عمرها أيام أو أسابيع، لا فرق، المهم أن تكون حالة تامة، لا ينقصها شيء أبداً. إن الحياة دأبت على أن تكون ناقصة، وفعل النقص فطرة غالبة عليها، ولا يوجد إنسان قد تذوق حالة تامة، مطلقة التمام، أبداً. تتأملنى بعينين وسّعهما الألم المقيم فيهما منذ أشهر، وأتأمل فى المقابل وجهها الذى يشى بالنقاء البكر، قبل أن يفتضّه الوهن ليبقى أشلاء نقاء. كل الإرهاق الذى تقع عليه عيناى مبررٌ بالتعب إذاً، وهو جليٌّ لعينى أنيمى مثلى، مهما اتخذت من زينتها الكثيفة ما تخفى به ذلك الشحوب المتصاعد، وتقمع تلك الصفرة التى تنهب جلدها بدأب، وتعلنها منطقة موبوءة بالجفاف، مقفرة من الضوء: الآن أنا حائر ومشفق، أعقد ذراعيَّ أمامى عندما لا أدرى ماذا أفعل بهما، أحاول أن أخلق ملامح تناسب الإطار الكئيب للصورة، هى التى لتوها أفاقت من إغمائها، فى تلك الشقة البيروتية الواسعة، على حد الشاطئ، ذات الشرفة الكبيرة التى تستقطب باقتداء، كل أفق البحر».


2- بيروت وصوفيا.. نقطة واحدة

تدور الرواية فى مجملها وفى صفحاتها القليلة حول فكرة الموت وتقبلها من عدمه بين الأفراد بحسب اختلاف عقائدهم، البطل هو معتز شاب سعودى يعتريه الملل من كثرة التفاصيل ومن واقع الحياة الممل المهترئ.. ويروى لنا كيف غير موت أبيه وأمه فى كثير من واقع حياته..فأصبح الموت عدوا له.

كما يروى لنا كيف كانت فترة المراهقة بالنسبة له هى أجمل فترات حياته ببساطة لأنها كانت فترة التغييرات الكُبرى من حياته، وهو شخص ملول بطبعه ووجود الجديد كل يوم هو أجمل أحاسيسه على الإطلاق..هكذا كان معتز يبحث عن الجديد ويتعثر دائما حين يقع فى قبضة الاعتياد.

ومن خلال الإنترنت يتعرف على فتاة فى التاسعة والعشرين من عمرها اسمها (صوفيا)، فتاة لبنانية على فراش الموت بل هى مجرد جسد ينام فى فراش فى انتظار الموت..

فتدب فكرة عجيبة فى رأس معتز وهى فكرة أن شخصية صوفيا التى لمحها من خلال حواره معها على الإنترنت تبدو شخصية لطيفة ومتزنة مما قد يجعلها أقل مللا من كل الأشياء الأخرى التى تجعله يمل بسهولة، وحتى لو لم يمل منها فالأكيد أن الموت سوف يكون المنقذ له من ملل تلك العلاقة.. فكلها أيام وتنتقل إلى جوار الله!، ويقرر الشاب أن يذهب لمقابلتها.

تنتقل الأحداث إلى بيروت حيث ينتقل معتز إلى شقة صوفيا وتلتقيه بل تعجب به..

يقول معتز واصفا صوفيا التى شعر بين يديها باختلاف حقيقي:

«صوفيا أنثى تعاكس قدر الديمومة التى تشترطها النساء فى الحُب، وتأتى دونهن مثقلة بحمى الرغبة المؤقتة المبتسرة، وتدفع الحب بسخاء من لا يخاف أن يُفسد عليه حبيبه أو يفلس هو من عاطفته، فما بقى من جسمها من الحياة بالكاد يكفى لبضعة أسابيع أخرى كما تقول وما تراكم فى قلبها من العاطفة طوال عمر قصير بلا حب حقيقى يغطينا معا ويزيد»..

قبل أن يصل معتز تمزق صوفيا مجموعة أوراق من التقويم بعدد ما تبقى لها من الأسابيع تقريبا وتضعه مقلوبا على الطاولة.. وتكتب على ظهر كل ورقة عبارة واحدة تحمل كل ما تتمناه فى ذلك اليوم الخلفى..

وفى إحدى تلك الأوراق تكتب صوفيا: (لن يأخذه الموت ولو..)

هكذا كان لصوفيا على الرغم من جسدها الواهن الذى يعانى سكرات الموت، رجاء واحد أو أمنية أخيرة..فقد صرحت لمعتز بأنها مازالت عذراء لأنها لم تجد من يستحق أن تمنحه جسدها الذى تمتلكه وحدها دون غيرها والتى كانت ومازالت برغم التقاليد المسيحية التى تنتمى إلى ديانتها، تتمسك بأن يكون لها الحق الوحيد فى التصرف به. وتطلب من معتز بأن تمنحه نفسها وهى راضية ومتطلعة بأن تفقد عذريتها على يدى رجل أحبته وهو مطلبها الأخير قبل أن تنتقل إلى العالم الآخر!..فلن يكون الموت عريسها أبدا.

 وتحققت نبوءة العلاقة حين نزفت صوفيا عذريتها على جسد الشاب الذى عانقته من خلال أيامها المعدودة..وحقق لها الأمنية التى تمنتها قبل أن يخطفها الموت..

كان معتز يتحقق من الوهج الذى ظهر فى عينى صوفيا بعدما أصبحت له وبعدما تحدت الموت وحرمته من عذريتها.

تلك هى الفكرة الحقيقية التى يقدمها علوان فى روايته..وهى التحدى الأقوى للموت من خلال إرادة إنسان ليس بيده سوى أن ينتظر الموت فى صمت المهزوم وانكسار الواهن.

ولكن فى نفس اللحظة تكمن إرادة البشر..فصوفيا أبت أن تصبح عروسة الموت وعلى الرغم من كونها على أعتابه إلا أنها اختارت عشيقها بإرادتها الحرة.. وفجأة تتحول الأمنية من مجرد فض عذريتها إلى كونها تتمنى أن تحمل طفلا من الشاب عابر السبيل فى حياتها.. طفلا تلده فى السماء!..


3-  لبنان.. الحرب

وكعادة كل من يأخذه قلمه للكتابة عن لبنان.. يجب أن تنتقل الحروف إلى الحرب..فهى الساحة الكبيرة فى تاريخ لبنان..فالحرب بلبنان هى مذاق الانكسار والانتصار معا.

هكذا تصف الرواية على لسان صوفيا طفولتها من خلال الحرب اللبنانية..وكيف عاشت أيامها وسط أصوات القصف والقنابل ورائحة البارود.

هكذا تحمل الرواية بعض ملامح من الحرب فى بيروت..وتحمل مذاق المقاهى هناك والشوارع المبتهجة التى يصفها الروائى بأنها كما كانت تحمل له الحياة يوما استطاعت أن تسكنه الموت..


4- اختلفنا أو اتفقنا

الحقيقة أن رواية (صوفيا) صدرت عقب نجاح رواية (سقف الكفاية) للكاتب ذاته..والمأزق الحقيقى الذى يواجه أى روائى هو كيفية الاحتفاظ بالنجاح الذى صنعه بصعوبة.. إنها رواية لاقت الكثير من النقد، فقد وصفها الكثيرون بالملل الزائد والوصف الكثير المفرط عن الحد..الحق أن الرواية بلا أى أحداث قد تجعل القارئ فى الانتظار، فهى رواية تدور حول حدث واحد ولكنه حدث جلل.. وهو الموت. لا اختلف مع الكثيرين حول وقوع الرواية فى فخ الملل ولأن الحدث الوحيد فى الرواية حين يتحول إلى البناء الأوحد للدراما يفقد الرواية حاسة التشويق..تابعت هجوما كبيرا على الرواية بأقلام النقاد والقراء معا ووصفها بأنها أفشل ما كتب علوان، ولكننى كروائية أراها رواية مكتملة البناء الدرامى حتى لو فقدت حاسة التشويق، وأشعر بشىء من الغيرة من الروائى المحترم محمد حسن علوان بكل صراحة على قدرته الفائقة على السرد والتشريح والتحليل النفسى بالكلمات.

الرواية ليست موجهة فى الواقع للقارئ العادى الذى يبحث عن شىء يسليه وهو على شاطئ البحر فى أغسطس بل هى رواية يجب أن يقرأها كل من له علاقة بالتحليل النفسى والمتبحر فى العوالم الفلسفية.

ففلسفة الموت ليست مجرد رحلة ترفيهية بل هى ومضات حياتية بكل دقائقها حتى تنتهى على تلك الصخرة العاتية التى يصطدم بها الجميع حتما حتى لو أنكروها يوما.