د. نصار عبدالله يكتب: عن إصلاح الإصلاح

مقالات الرأي



بادئ ذى بدء أعتذرللقارئ العزيز عن أن هذا المقال قد تأخر شهرا كاملا عن الموعد الأمثل الذى كان يتعين أن ينشر فيه ألا وهو ذكرى صدور قانون الإصلاح الزراعى فى 9سبتمبر1952، وهو القانون الذى استفاد منه فى بداية الأمر عدد غير قليل من الفلاحين المعدمين الذين وزعت عليهم الأراضى المستولى عليها، فأصبح كل منهم لأول مرة فى حياته مالكا لخمسة أفدنة كاملة، ومن بين هؤلاء كان محمد مرسى عيسى العياط الذى تمكن بفضلها من تعليم أبنائه ومن بينهم ابنه محمد الذى مكنته مجانية التعليم «جنبا إلى جانب الأفدنة الخمسة» من أن يلتحق بكلية الهندسة ثم يصبح أستاذا بها بعد حصوله على درجة الدكتوراه. ومع هذا فإن الإصلاح الزراعى الذى أراد له عبدالناصر أن يكون حلما ثوريا جميلا سرعان ما تحول بعد ذلك إلى كابوس ثقيل وكئيب، فقد كف الإصلاح الزراعى بعد رحيل عبدالناصر عن توزيع الأراضى التى يستولى عليها، وكف عن تمليكها للمعدمين «مثلما فعل فيما مضى مع والد الدكتور مرسى»، وأصبح الإصلاح يستغلها لحسابه الخاص من خلال موظفيه البيروقراطيين الذين تفوقوا فى تنكيلهم بالفلاحين عن أى إقطاعى ينتمى إلى ماقبل يوليو 52، وأفدح من ذلك أن «الإصلاح» بدأ يستولى على أرض أى مزارع صغير إذا اشتبه فى أن صاحبها قد اشتراها من إقطاعى سابق، أما التراجيديا الحقيقية فتتمثل فى أن مثل ذلك المزارع لا يستطيع اللجوء إلى القضاء العادى لينصفه إن كان مظلوما، لأن الجهة المختصة بنظر أى نزاع كهذا هى اللجان القضائية التابعة إداريا للإصلاح ذاته «الذى يفترض فيه أنه خصم فى النزاع!» حيث تقوم سكرتارية اللجان التى يرأسها موظف تابع للإصلاح بدور قلم الكتاب!!، وبهذه المناسبة أستأذن القارئ فى أن أعيد هنا سطورا من رسالة سبق أن نشرتها فى الأهرام بتاريخ 24مايو سنة 2000 بعنوان: "حقوق المحكمة أولا" «لم يكذب ما ورد فيها أى مسئول»، ورغم غرابة ما ورد فى تلك الرسالة فإننى أستطيع القول «ولدى الدليل على ما أقول»، أستطيع القول إنه عندما حدثت الواقعة التى تكلمت عنها لم تكن الأمور قد بلغت ما بلغته الآن من السوء !. الآن إلى سطور ما نشرته فى الأهرام منذ ما يزيد على ثلاثة عشر عاما: "...الواقعة التالية ليست من نسج الخيال‏،‏ ولكنها وقعت بالفعل صباح الأحد‏14‏ مايو «2000»‏،‏ ...حين دخلت هيئة المحكمة بكاملها إلى قاعة الجلسات‏،‏ فاشرأبت أعناق المحامين والخصوم‏،‏ وأرهفت أسماع الجميع استعدادا للجلسة المرتقبة‏،‏ ولكن حدث فجأة ما لم يكن فى الحسبان‏،‏ فقد التفت رئيس المحكمة إلى أمين السر قائلا‏:‏ أكتب ما أمليه عليك‏..‏ يتعذر علينا نظر أى قضية من القضايا المطروحة إلى أن يتم صرف مستحقاتنا المتأخرة عن هذا العام وعن العام الماضى أيضا‏..‏ رفعت الجلسة‏!!‏ ...انصرفوا أثابكم الله‏!!‏ ثم قام ومن خلفه هيئة المحكمة بالكامل خارجين من حيث دخلوا وسط ذهول الجميع‏!‏ ....المحكمة المقصودة هى محكمة الإصلاح الزراعى والتى تعرف اصطلاحا بـ "اللجنة القضائية للإصلاح"،‏ والتى أناط القانون بها ــ دون غيرها ـ مهمة الفصل فى النزاعات المتعلقة بتطبيق قوانين الإصلاح‏،‏ ولم يوكل القانون هذه المهمة إلى المحاكم العادية ضمانا لسرعة الفصل فيها‏،‏ ومع هذا فقد أثبت الواقع العملى وياللمفارقة‏ـ أن المحاكم العادية ــ برغم بطئها ــ أسرع بكثير جدا من اللجان القضائية للإصلاح‏،‏ ويكفى فى هذا المجال أن نقول إن المحاكم العادية تفتتح موسمها القضائى فى شهر أكتوبر من كل عام‏،‏ أما اللجان القضائية‏،‏ وإن كان يتعين عليهاـ بحكم القانون ـ أن تبدأ موسمها فى الموعد نفسه‏،‏ إلا أنها نادرا ما تبدأ الموسم قبل شهر أبريل من العام التالي‏.. ‏وللحق فقد تفوقت هذا العام على نفسها فبدأت موسمها فى مايو وكانت الجلسة المشار إليها هى أول جلسة لإحدى دوائر هذه اللجان لعام‏ 99‏ ـ‏2000! ثم إنها أمعنت فى التفوق على نفسها عندما قررت الاعتذار عن عدم نظر أية قضية على الإطلاق‏،‏ وبذلك يكون هذا الموسم القضائى قد انتهى قبل أن يبدأ‏! فالمعتاد أن ينتهى الموسم القضائى عمليا فى شهر يونيو لكى يبدأ الموسم الجديد ـ طبقا للمعتاد ـ فى أبريل‏2001! 

المؤلم فى الأمر أن أغلب المتضررين الحقيقيين من بطء الفصل فى القضايا المنظورة أمام هذه اللجان هم صغار الفلاحين والمزارعين الذين استولى الإصلاح الزراعى على أراضيهم بحجة أنهم اشتروها من إقطاعيين سابقين‏،‏ ثم بدأ يودعهم 

السجون كلما عجزوا عن سداد إيجار أراضيهم‏!!‏

والسؤال الآن‏:‏ هو لماذا لم تقم أية حكومة منذ عام 1970 إلى الآن «بما فى ذلك الحكومات التى أعقبت ثورة يناير»، لماذا لم تقم بمحاولة إصلاح عيوب «الإصلاح»، وأول الخطوات الجادة فى هذا المجال هو إلغاء اللجان القضائية وإعادة الولاية للقضاء العادى؟