د. رشا سمير تكتب: يهود الإسكندرية.. أحلام اليهود فى حُضن النيل

مقالات الرأي



تاريخ مصر بين صفحات رواية تستحق القراءة


هل جاء اليهود إلى مصر بأجندة الاستيطان؟ أم انهم جاءوا لاجئين إلى حضن النيل فتلونت وجوههم بسمرته؟ هل أصبح يهود مصر جزءا من مجتمع سكنه الدفء أم مازالت برودة تاريخهم الاستيلائى تتسلل لتطغى على علاقاتهم بأبناء الأرض التى سكنوها؟.   

يذكر التاريخ أن يهود مصر هم الطائفة اليهودية التى سكنت مصر منذ أعوام بعيدة، وقد كانت من أكبر الطوائف اليهودية فى العالم العربى وأكثرهم نفوذا وانفتاحا ومشاركة فى مختلف المجالات فى المجتمع المصرى الحديث.

فطالما أرخت الأقلام طويلا لتاريخ اليهود فى مصر وهو الذى يعود إلى بداية أول أسرة يهودية، وهى أسرة يعقوب بن إسحاق وهجرتها بعد وصول النبى يوسف إلى منصب مهم فى حكم مصر ولحاق إخوته به إثر المجاعة التى عمت بالمنطقة.

فى وقت ما كان يهود مصر يتقلدون الوظائف العامة والخطيرة دون تمييز، بل استعان بهم الخديو إسماعيل فى الحصول على القروض من بيوت المال الأوروبية التى سيطر عليها اليهود الأوروبيون آنذاك.. لم ينته الوجود اليهودى فى مصر عند البلاط الملكى بل تسلل فى نسيج المجتمع المصرى ليصنع ساسة ورجال أعمال وتجارا بل ونجوما مثل ليلى مراد وتوجو مزراحى وكاميليا وغيرهم من نجوم الشاشة الفضية..

تلك الحقبة كانت ومازالت هى أرض خصبة للروائيين وكُتاب السيناريو لاقتباس الحكايا من بين السطور..وهذا بالتحديد ما استطاع الروائى السكندرى مصطفى نصر أن يدونه باحتراف وبدقة فى رواياته (يهود الإسكندرية) الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية للنشر فى 551 صفحة من القطع المتوسط.. الحقيقة أن الدار المصرية اللبنانية راهنت على هذا العمل الذى قد يمثل تحديا حقيقيا لأى دار نشر، لأنه قد لا يحقق معادلة الربح المادى والأدبى معا، فى وقت تبحث فيه فئة الشباب عن كل ما هو سهل الهضم حتى لو كان بلا قيمة، إلا أن هذه الرواية بلا شك هى عمل يمثل قيمة أدبية أضافت للدار وللروائى معا.


1- وطن وملاذ:

يتناول الكاتب حياة اليهود فى مصر وكيف اندمجوا فى المجتمع المصرى وتغلغلوا فى ثناياه بكل آثامهم ونواياهم وعشقهم لمصر.

يبدأ الروائى قصته من أواخر عام ١٨٦٢م فى مدينة الإسكندرية، حيث يظهر والى مصر الخديو سعيد وهو محمول على محفة وهو فى صراع مع مرض غامض، لدرجة جعلت حتى خدام قصره وحاشيته يبغضون من الاقتراب منه لتلك الرائحة الكريهة التى تنبعث منه، حتى الأطباء والممرضون يفرون من علاجه.

وفى لقطة أخرى تنتقل الرواية إلى ظهور زاكن وعامير ودوف زعماء اليهود فى مصر، ويقترح فرج خادم عامير أن يأتى له بحلاق الصحة الذى نعرف فيما بعد إن اسمه جون، والذى لأنه ممرض تعلم فى مدرسة كلوت بك للتمريض، ولأن جون كان يُعانى من لحمية بالأنف مما جعل مهمته فى علاج الوالى سعيد أسهل من غيره..بالفعل يصنع جون خلطة من الأعشاب فى شكل مرهم يدهن به جسد الوالى..

حين يتم شفاء الوالى يكافئه بمنحه أبعدية فى منطقة الطابية.. ودون مقدمات تنقلب حياة جون رأسا على عقب فقد أصبح صاحب مال وجاه وأبعدية وتتحول زوجته إلى وحش شرس فتعامل زوجها بمنتهى القسوة والاستهانة، رغم أنها لم تكن على طائفته بل كانت على طائفة الربانيين الذين حذروه من الزواج منها.

مع الوقت يتحول كل المحيطين بجون إلى بشر لا يمتلكون سوى الطمع فيه وإيقاعه فى فخ المؤامرات، ولم تقف المؤامرات عند أهالى سوق السمك ولا عند عامير ورغبته فى توزيع تلك الأراضى على الفقراء من اليهود، ولا يستثنى أيضا من ذلك بنيامين الذى يكره جون، ولا حتى زاكن القواد، الذى يخطط مع زوجة جون لقتله بالسم!..

يموت جون مقتولا بالسم وعلى وجهه ابتسامة، فيعتبرونه وليا ويدفنونه تحت منزله، بعد أن يقيموا له ضريحا مزدانا بالستان الأخضر على عادة أضرحة أولياء المسلمين.


2- جوهرة ومؤامرة الاستيطان:

يرسم مصطفى نصر شخصية جوهرة اليهودية وهى حفيدة الرسام اليهودى السكندرى مخلوف التى كانت تتابع مشهد وصول السادات إلى مطار بن جوريون بسعادة فائقة وبتوزيع أكواب الشربات على الموجودين قائلة: «هذا شربات الرئيس».

كان من حظ جوهرة أن احتضنتها أسرة الأسطى محسن وعاملتها معاملة ابنهم الشرعى كمال، الذى وصل به الأمر إلى أن ترك لها شقة العائلة حينما تزوج من ابنة حسن بدوى باشا، وتربصت هى به لتفرقه عن زوجته التى أحبها وأخلص لها.

الحقيقة أن الروائى أراد بشخصية جوهرة أن يعطى مثالا حيا لنموذج آخر من يهود مصر وهو نموذج الصهيونى معتنق اليهودية، وولاؤه الذى يسبق كل شىء وأى شىء لأنه لإسرائيل فقط، حتى وإن كان أصله ينتمى لجذور أخرى أو قلبه بات موجودا بمكان آخر..

فجوهرة استغلت اختباء الرئيس السادات فى بيت والدها صانع البمب عقب اتهامه فى اغتيال أمين عثمان، فهى تتذكره جيدا حينما أصبح رئيسا لمصر، وتخرج من صندوق ذكرياتها تلك الساعة التى أهداها لها حينما أصبح جزءا من بيتهم، ثم تكتب له خطابا فيقرر زيارتها، ولا يصدق أنها نفس الطفلة التى عاش تحت سقف بيتها إلا عندما تخرج له الدليل وهو الساعة،  فيمنحها الكثير من الأموال وتذهب تلك الأموال إلى يهود عزبة جون الواقعة فى منطقة الطابية، فتحول جوهرة تلك الأموال وتستغل علاقتها بالرئيس السادات فى تشريد سكان المنطقة، بعد أن استولت على منازلهم وأحاطتها بسور ارتفاعه متران..

وهنا تصبح الصورة جلية لما يريد الكاتب أن يصنع بنا وهو إسقاط عبقرى حتى لو لم يكن منطقيا، وهو الرمز بذلك السور إلى الجدار العازل وأن أصحاب الأرض هم أنفسهم أصحاب الأرض المحتلة التى شردتهم إسرائيل..وكيف تم ذلك بدعوى حماية ضريح الولى جون، معللين بأن تلك الأرض المقام عليها المنازل تضم مدافن اليهود، رغم أنه لم يدفن فيها يهودى واحد منذ ثلاثين عاما!.


3- هيكل سليمان.. الوهم والحُلم:

يبدأ الاحتفال بمولد جون من ٢٦ ديسمبر وحتى ٢ يناير، ويقام فى الأرض الواسعة أمام الضريح والمقابر القليلة حوله، وتبدأ خطة جوهرة فى استغلاله لجذب يهود العالم إلى مصر للحج إليه، أو بجمع التبرعات لإعادة بنائه بعد حرقه..

تُحسم أحداث الرواية بتوغل جوهرة فى حياة سكان منطقة الطابية وسيطرتها عليهم، ونزعها لبيوتهم بحجة ضريح جون وهو ما يحدث إسقاطا جديدا بين ضريح جون وهيكل سليمان، ورجوعا إلى تاريخ تأسيس هيكل سليمان أن داود مات قبل أن يشرع فى بنائه، وأن ابنه سليمان هو الذى قام ببناء الهيكل فوق جبل موريا، المعروف باسم هضبة الحرم، وهو المكان الذى يوجد فوقه المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، وهكذا أصبح للهيكل منزلة خاصة فى قلوب وعقول اليهود، الذين يزعمون أنه أهم مكان للعبادة، وأن سليمان بناه لهم ولتمجيد ديانتهم.


4- يهود الإسكندرية..ما لها وما عليها:

الرواية تطرح أكثر من إشكالية مهمة فيما بين السطور..فهى تسلط الضوء على أملاك مصر التى كانت تُهدى لكل من هب ودب دون أى اعتبار لأصحاب الأرض..فمنح جون أبعادية على الرغم من كونه يهوديا كمكافأة من جيب من لا يملك المنح، نقطة أراد بها المؤلف كما فهمت أن يرمز إلى حكام هذا الوطن الذين طالما تعاملوا مع الوطن على أنه ملكية خاصة أو أبعادية يهادون بها من يشاءون، وهو نفس الضوء الذى سلطه على لقطة الرئيس السادات وهو يمنح جوهرة المال الذى لا تستحقه وكأن الوطن سبيل!

وحيث إن الشىء بالشىء يذكر فالرواية تشير أيضا إلى اليهود الذين طمعوا فى أرض عربية فاستوطنوا فيها واحتلوها وشردوا أصحابها ثم أطلقوا عليها لقب (وطن) واستغلوا وعد بلفور فى تحقيق ذلك أسوأ استغلال.

إنها صورة حقيقية للمجتمع الصهيونى الذى أصبحت الأعراض فيه مستباحة..كما تخللت أحداث الرواية الكثير من العلاقات الآثمة بين نساء ورجال ينتهكون حقوق الآخرين فى حين يبحثون هم عن حقهم فى وطن مغتصب.. وكأن الكاتب أراد أن يربط فكرة اغتصاب الأبدان باغتصاب الأوطان وكأن الموت له ألف سبب ووجه واحد.

الحقيقة أن قلم مصطفى نصر قادر على السرد الأدبى ويمتلك براعة فى تجسيد الأشخاص والتى فاقت فى الكثير من الأحيان بكثرتها سرعة الأحداث..نقطة الضعف الوحيدة التى أجدنى وأجد الكثيرين قد عانوا منها هى زخم الشخصيات وتداخل الأسماء، حتى تاهت الأسماء فى الكثير من الأماكن.. وارتبكت الشخصيات من توالى ظهورها المتتالى فى كل صفحة.

فى النهاية يجب أن أشيد بقلم الروائى مصطفى نصر الذى قرأت فى سيرته الذاتية أن له العديد من الأعمال والتراجم، وداخلنى أسف حقيقى من وجود الكثير من الأقلام الأدبية الحقيقية التى أصبحت تتوارى خلف الكثير من الزيف الذى يعتلى الساحة الأدبية.. ولكن المؤكد أن هناك فارقا كبيرا بين العمل الذى يجلب لصاحبه المال الوفير وبين العمل الذى يُخلد اسم صاحبه بين صفحات التاريخ..فهنيئا للروائى مصطفى نصر الذى كتب اسمه فوق صفحات التاريخ برواية من ذهب.