عادل حمودة يكتب: الأيام الأخيرة فى حياة جيفارا

مقالات الرأي



شقيقه خوان يكتب عنه بعد نصف قرن من اغتياله

■ آخر ما قال لكتيبة الإعدام: اهدأوا وأحسنوا تسديد بنادقكم فإنكم ستقتلون رجلاً

■ الجندى المكلف بإطلاق الرصاص عليه شرب حتى الثمالة ليقدر على تنفيذ الجريمة 

■ المخابرات الأمريكية جندت 10 آلاف عميل للبحث عنه ورصدت 25 مليون دولار لمن يوصلها إليه

■ رفض أن يقتل جالسا وأصر على أن يموت واقفا

■ احتفظ طبيب المشرحة بقلبه وصنع قناعين لوجهه


كنا نقلده فى شبابنا.. ارتدينا مثله سترات خضراء خشنة كالحة اشتريناها من وكالة البلح.. أطلقنا لحانا بلا تهذيب.. وغطينا شعر رؤوسنا الكثيف بـ بيريه أسود.. ووضعنا صورته بحجمها الطبيعى فى غرف نومنا.. فقد كان أرنستو مارتن جيفارا رمزا للمناضل الثورى الرومانسى لم تنجب البشرية مثيلا له.

وعندما اغتاله عملاء وكالة المخابرات المركزية (الأمريكية) غنينا قصيدة أحمد فؤاد نجم جيفارا مات:

مات الجدع فوق مدفعه جوه الغابات.. جسد نضاله بمصرعه من سكات.. لا طبالين يفرقعوا.. ولا إعلانات.

ما رأيكم.. دام عزكم.. يا أنتيكات.. يا غرقانين فى المأكولات والملبوسات.. يا دفيانين.. ومولعين الدفايات.. يا محفلطين.. يا ملمعين يا جيمسات.. يا بتوع نضال آخر زمن فى العوامات.

وما إن هبطت مطار هافانا قبل تسع سنوات حتى وجدت صورته فى كل مكان.. وسيرته على كل لسان.. فهو النجم الذى لم يأفل.. والبطل الذى لم يرحل.. وحلم الحرية الذى لم يمت.

قتل جيفارا منذ خمسين عاما.. بالتحديد فى 9 أكتوبر 1967.. لكننا.. لم نعرف كيف لحظاته الأخيرة وبندقية القتل موجهة إلى قلبه.. على أن شقيقه الأصغر خوان بمساعدة الصحفية الفرنسية أرميل فنسن قدما لنا لأول مرة الحقيقة على طبق من ماس فى كتاب صدر منذ أسابيع قليلة بعنوان: أخى جيفارا روى لنا ما لم نعرف.

لقد جاء جيفارا إلى بوليفيا ليحررها من الطغاة بعد أن أنهى مهمته فى كوبا وظل يدرب الثوار فى أحراش بوليفيا على القتال لمدة أحد عشر شهرا كان خلالها العدو الأول للنظام القائم وأجهزة المخابرات الأمريكية.. كان خصما أسطوريا وشخصية شهيرة مكللة بهالة من المجد ومعروفة بانحيازها للعدالة وبشجاعتها الفائقة.. ولم يكن ذلك المتمرد المتعطش للدماء مثلما كان خصومه يصفونه.

فى ليلة السابع من أكتوبر قبض عليه وأسر فى واد مكشوف يسمى كيبرادا ديل يورو.. جنوب بوليفيا.. ولم يكن معه سوى مجموعة مبعثرة من رجال حرب العصابات المنهكين بفعل العرى والجوع والعطش.

وجه آخر كلماته إلى كتيبة الإعدام قائلا: اهدأوا وأحسنوا تسديد بنادقكم فإنكم ستقتلون رجلا.

كان الجندى سيئ الحظ ماريو تيران سالازار الذى أوكلت إليه مهمة القتل يرتجف وكأنه مصاب بالحمى واحتاج أن يحتسى خمرا إلى حد الثمالة لكى يجد فى نفسه الجرأة على إطلاق النار على رجل ضحى بحياته من أجل المسحوقين المهمشين أمثاله.

كان جيفارا مسجونا فى قاعة مدرسة طينية متهالكة فى قرية فقيرة تسمى لا هيوجويرا وعندما رآه ماريو سالازار يجلس فى هدوء ينتظر مصيرا طالما عرف أنه محتوم ولا مفر منه خرج مسرعا وهو يتصبب عرقا لكن رؤساءه أرغموه على العودة وتنفيذ الأمر.

أرادوا أن يموت جالسا لإهانته وإذلاله ولكن جيفارا احتج رافضا وأصر على أن ينهى حياته واقفا ليكسب معركته الأخيرة بالطريقة التى تناسبه.

لم تكن عائلة جيفارا التى تعيش فى بوينس آيرس (الأرجنتين) تعلم شيئا عن المكان الذى يتواجد فيه ابنها، فقد غادر كوبا فى سرية تامة دون أن يخبر سوى فيدل كاسترو بأنه ذاهب لكى يخوض حربا شرسة لتحرير بوليفيا.. لكن.. ما إن أعلن نبأ وفاته حتى طلبوا من شقيقه الأكبر روبرتو السفر إلى بوليفيا للتعرف على جثمانه.. على أنه ما إن وصل إلى بوليفيا حتى وجد الجثة قد اختفت.. تبخرت.. وأرسله الجنرالات من مدينة إلى مدينة أخرى.. وفى كل مرة كانوا يحددون مكانا مختلفا للجثة ويروون حكاية أخرى.

بعد 46 سنة على موته قرر شقيقه الأصغر خوان أن يزور المكان الذى أعدم فيه جيفارا.. جاء من بوينس آيرس فى سيارة قطعت 2600 كيلومتر حتى وصل إلى وادى كيبرادا ديل يورو وهو مضيق عميق ينحدر عموديا خلف قرية لا هيوجويرا وعلى حافة الوادى اقترب منه دليل ليدله على المكان الذى أسر فيه جيفارا دون أن يعرف أنه شقيقه وطالبه بمبلغ من المال فقد تحول موت جيفارا إلى تجارة رابحة.

لا أحد يصدق أن لجيفارا أشقاء.. ويصاب الناس بالذهول حينما يكتشفون ذلك.. إذ لا يمكن أن يكون للمسيح إخوة وأخوات وجيفارا يكاد أن يكون كالمسيح.

فى قرية لا هيوجويرا وفى مدينة فاليجراند حيث نقلت جثته فى يوم اغتياله لكى تعرض على عامة الناس قبل أن تختفى أصبح جيفارا القديس أرنستو لا هيوجويرا يصلى الناس أمام تمثاله ويتباركون به وهو ما لم يكن ليعجب جيفارا.. فهو إنسان من لحم ودم.. حلم بتحرير البشر من الغيبيات والديكتاتوريات.. يرفض أن يصبح صنما معبودا.

كشف الوادى الصحراوى الجاف جيفارا فسهل على الفرقة التى تطارده إطلاق النار عليه، فأصيب بطلقة فى فخذه اليسرى وبأخرى فى ساعده اليمنى فأسند ظهره إلى شجرة عجفاء يوم الثامن من أكتوبر.. وفيما بعد صبت نجمة من الأسمنت فى المكان الذى كان جاسا فيه.

لم يكن جيفارا وحيدا وإنما يرافقه ستة مقاتلين قبض عليهم معه بخلاف خمسة غيرهم نجحوا فى الإفلات من الكمين المنصوب.. فهل جرى بيع جيفارا على طريقة يهوذا؟ ولو صح ذلك فمن هو الخائن وكم قبض من المال؟

(بعض تقديرات الصحفيين الأمريكيين المرتبطين بوكالة المخابرات المركزية قدروا المبلغ الذى دفع بخمسة وعشرين مليون دولار لكن لم يقدموا دليلا على ذلك).

كان جيفارا يخوض الحرب باسم مستعار هو رامون بينيتيز تيمنا ببطل قصة اجتماع للروائى الأرجنتينى خوليو سيرا مايسترا.. وكان وجود جيفارا هناك محاطا بهالة من الكتمان والسرية ولكن وكالة المخابرات المركزية المقيمة فى قصر الرئيس البوليفى رينيه بارينتوس فى العاصمة لاباز جندت عشرة آلاف عميل لها للبحث عنه على أنها لم تنجح فى الوصول إليه حتى قبض على الأرجنتينى سيرو بوستوس فى الأدغال بعد أن أجاز له جيفارا ترك صفوف المقاتلين وتحت التهديد بالسجن مدى الحياة اعترف بكل المعلومات التى أوقعت بجيفارا.

بعد مضى كل هذه السنوات تغيرت المدرسة التى قضى فيها جيفارا ليلته الأخيرة.. تزينت الجدران بالصور والملصقات التى تجسد الساعات الأخيرة من حياة جيفارا.. ولا يزال الكرسى الذى كان يجلس عليه موجودا فى القاعة.

وفى ساحة القرية ينتصب تمثال نصفى ضخم أبيض اللون نحته فنان كوبى نقلا عن الصورة الشهيرة التى التقطها المصور البيرتو كوردا وأطلق عليها اسم جيررزليرو هيريكو ومعناها البطل الثائر.

نصب التمثال النصفى فى بداية عام 1987.. لكن.. سرعان ما نزعته الحكومة من مكانه لتضع لوحة تذكارية للجنود الذين سقطوا ضحايا الحرب الثورية.. على أنه بعد عشرين سنة أعيد التمثال إلى الساحة بعد وضعه على قاعدة بارتفاع أربعة أمتار ليقف شامخا من جديد.

خلال سنوات طويلة عاش أهالى المنطقة فى جو من الرعب والترهيب.. لم يكن أحد ليجرؤ على الحديث عن جيفارا بغية محو أى أثر لمرور هذا المخرب كما كانت السلطات الفاشية تطلق عليه.

ولكن بسبب الصمت الذى فرض عليه بدأت الحكايات الأسطورية تؤلف وتنتشر عنه ورغم رفع الحظر عن الحقيقة فإن الأساطير لم تتبخر وظلت مغرية للتداول بين الناس أكثر من أى شىء آخر.

نقلت جثة جيفارا نحو مدينة فاليجراند بطائرة هيلكوبتر وهناك قرر الجنرالات عرضها لمدة 17 ساعة ليكون عبرة لغيره.. كأنهم يقولون: سنقضى على المخربين المجرمين مثل جيفارا هذا الراقد بلا حركة أمامكم.

وضعت جثته شبه عارية على مصطبة رقيقة من الأسمنت.. بدت قدماه حافيتين.. وعيناه مفتوحتين.. يقال إن رجل دين أغمضهما له.. قارن كثيرون بين صورة جيفارا المعذب ولوحة المسيح الميت للرسام الإيطالى فى عصر النهضة أندريا مانتنيا.. تشبيه مثير.. لكن.. لا ينسى.

بعض الشهود أفادوا بأن عينى جيفارا كانتا تتبعانهم بينما كانوا يطوفون حول جثته.. وقال شهود آخرون إن الطبيب المكلف بتنظيف الجثة وهو أحد المعجبين بجيفارا سرا أراد تحنيط جثته ولكن نظرا إلى ضيق الوقت اكتفى بأن اقطتع قلبه فقط لكى يحفظه فى وعاء زجاجى.. وربما يكون هذا الطبيب نفسه قد أعد قناعين لوجهه.. أحدهما من الشمع والآخر من الجبس.

من ناحيتها.. أبدت ممرضة دهشتها من التعابير والملامح الهادئة لجيفارا التى كانت تختلف على نحو غريب عن ملامح ثوار آخرين قتلوا فى المعارك حيث كانت علامات الألم والقلق بادية على محياهم.

لكن.. خوان شقيق جيفارا رفض الإيمان بهذه الأحاديث واعتبرها خرافات تميل بمجملها نحو نفس الهدف أن تجعل من جيفارا أسطورة.. وهى أسطورة رفضها خوان وسعى إلى مواجهتها ليعيد إلى أخيه وجهه الإنسانى الحقيقى.

كان جيفارا سيتبرأ من هذه الأساطير العبثية التى تصل إلى حد الدروشة وكان الهدف منها الاتجار به لكسب المال من ورائه.. فقد أصبح كل عمل سياحى مربحا مكرسا لجيفارا.. هناك زيارات تنظم للمشى فى طريق جيفارا.. وهناك زيارات للمدرسة التى اغتيل فيها.. وفى الطرق يبيعون صورا وقمصانا وأعلاما لجيفارا.

ويصف خوان ذلك بالسفالة.. فقد قاتل جيفارا من أجل تحرير القارة الأمريكية وهناك أشخاص يستغلون صورته لكسب المال.. ويصلى الناس للقديس جيفارا وينسبون إليه المعجزات من أجل أن تنجب النساء العاقرات وتزيد الأبقار من حليبها ويسرق اللصوص دون أن تقبض الشرطة عليهم.

لم تعد تلك الضيعة الصغيرة النائية والمكونة من أربعة منازل بائسة ومتهالكة وإنما أصبحت متجرا فى الهواء الطلق لا يكف سكانها عن ابتزاز الأموال باسم جيفارا.

لقد كان جيفارا مؤمنا بالإنسان سيدا لمصيره وليس خاضعا لكل أنواع القوة الغاشمة التى قد تمنحه أشياء أو تحجبها عنه ولو كان قليلا مما آمن به تحقق فإن كثيرا منه احتاج لمن يكمل مسيرته فى النضال والكفاح وإنكار الذات والموت فى سبيله.