د. رشا سمير تكتب: روايات نسائية بلون قوس قزح

مقالات الرأي



يولد الربيع حين يكتبن


حين تكتُب النساء، تنبت من بين السطور أزهار البنفسج، حين تكتب النساء، ترتدى الاستعارات والكنايات معطفا من حبات الكرز، حين تشدو النساء بالكلمات تميل أغصان الأشجار طربا، وتهتز أفنان الأزهار، حين ترتدى المرأة معطف الأدب، تختبئ كل الحروف بين ضلوعها باحثة عن الدفء، حين تنسج المرأة من بين أروقة ذكرياتها قصة، تسترق جنية الحواديت السمع، وتتساءل السطور فى نهم: هل من مزيد؟

حين يُكتب الأدب بأقلام النساء، تُصبح مساحات البوح هى تلك السماء الرحبة، وترتدى الصحراء رمالا بلون قوس قزح..

 اقتحمت النساء عالم الأدب منذ زمن طويل، قررن بعد محاولات عديدة من الوقوف خلسة بجانب الرجال، أن يتسللن من كهوفهن السحيقة ويصرخن فى وجه المجتمع بتجاربهن الشخصية والحياتية، دون خوف ولا شعور بالدونية،

لكن وكعادته أبى المُجتمع أن يتقبلهن فى رداء الأديبات، فوصمهن بلقب «الأدب النسوى»!.

لم أفهم يوما لماذا قرر المجتمع أن يُصنف الأدب الذى تكتبه النساء بصفة «النسوية»، ولم يكلف نفسه عناء تصنيف الأدب الذى يكتبه الرجال بصفة «الذكورية»؟!..

هل لأن الأدب مقتصر فقط على الرجال وما دون ذلك استثناء؟ أم لأن المجتمع تعود أن يمنح الألقاب فقط  للأقليات؟!، أم لأن المجتمعات العربية مازالت تتعامل بفكرة العنترية الذكورية مع النساء، حتى فى المعارك الثقافية؟.

 إن تاريخ اقتحام النساء عالم الأدب، تاريخ طويل ومشوق، كتبت المرأة من واقع القهر فى البدايات، ثم تحول الأمر إلى الكتابة من واقع الوجود والخيال والحُلم، بل تحول مؤخرا إلى التعبير الصريح عن الحاجة والعشق دون خوف ولا حرج، لتخرج الأصوات النسائية متجردات من كل القيود والقوالب التى وُضعن فيها طويلا.

وأصبح ما تكتبه النساء اليوم هو صُراخ وليس همسا، هو سماء ترعد ولا تمطر، هو سكين يقتل ولا يجرح، إنها رحلة طويلة مع الإبداع، ومن رحم القاهرة مدينة الألف ليلة وليلة نبدأ الرحلة...


1- ابنة الحريم قوت القلوب الدمرداشية:

ولدت قوت القلوب الدمرداشية عام 1892، تنتمى لسلالة أمراء المماليك، وكان والدها زعيم الطريقة الدمرداشية، وبدأت الكتابة فى الخامسة والأربعين من عمرها، بروايتها الأولى «زنوبة» ثم «الحريم»، وهى روايات تعبر عن واقع عاشته وقررت أن تشهر السلاح فى وجهه، وعادت لتكتب «رمزة ابنة الحريم»، لتحكى بكل صراحة عن مجتمع الحرملك الذى ولدت وترعرعت فيه، فكانت روايتها بمثابة استدعاء لأمس طعنها بخنجر العبودية.

أمسكت من بعدها طرف الخيط فوزية أسعد، فى روايتها «مصرية»، وهى التى ولدت فى الثلاثينيات، وتكتب باللغة الفرنسية، كتبت عن المرأة المصرية وتصف تقاليد المجتمع، ثم عادت إلى الريف لتنقل تجربتها فى باريس، وتحاول وصف الريف وطموح المرأة الاجتماعى هناك، وكم من مرة بكت وهى ترى بعينيها مجتمعا بأكمله يقهر النساء.

هكذا بدأت قوت القلوب، ثم أكملت فوزية أسعد الحُلم، ومن قلب قاهرة المعز ولد الأدب الناعم.


2- فاطمة المرنيسى ابنة المغرب:

من القاهرة انتشرت العدوى الأدبية لتطول الوطن العربى بأسره، وظهرت فاطمة المرنيسى من المغرب لتكتب روايتها «شهرزاد ليست مغربية»، و«أحلام نساء الحريم»، فأصبحت طالبة العلوم السياسية بجامعة السوربون أشهر من كتب عن حقوق المرأة، وفى مجتمع ذكورى قررت أن تترك بصمتها وترحل، ووصفت ببراعة احتلال الفرنسيين والإسبان لشمال وجنوب المغرب، وحاولت أن تقدم للمجتمع العربى وصفة سحرية للخروج من عصر الحريم.

كتبت المرنيسى تقول: «إذا كانت حقوق النساء مشكلة بالنسبة لبعض الرجال المسلمين فى الوقت الراهن، فليس ذلك بسبب القرآن، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وليس بسبب التقاليد الإسلامية، لأن هذه الحقوق بكل بساطة فى صراع مع مصالح نخبة ذكورية».


3- السطور ما بين روز اليوسف وغادة السمان:

أما الفتاة الطموحة اللبنانية التى تعود جذورها إلى الأصل التركى، روز اليوسف، فقد كانت تحلم مثل أى فتاة بالشهرة والفن، حتى التقطها عزيز عيد، وعملت كومبارس بالإسكندرية، وما لبثت أن اعتزلت الفن وقررت أن تصدر مجلة فنية أسمتها «روزاليوسف»، كانت سيدة قوية تؤمن بقيمة الكلمة التى تستطيع أن ترتقى بالفن وتساهم فى التنوير، ومن بين كلماتها الشهيرة:

«كلنا سنموت ولكن هناك فرقا بين شخص يموت وينتهى، وشخص مثلى يموت، ولكن يظل حيا بسيرته وتاريخه».

عندما ظهرت غادة السمان، الكاتبة السورية التى تسلحت بقلم أكثر جرأة ممن سبقوها، سألوها: متى قررت أن تكتُبين؟، فقالت: «قررت أن أكتب حين اكتشفت أن حقوقى لا تتعدى حق الأكل والشرب والإنجاب والموت».


4- أديبات يحملن السلاح:

ترحل أجيال وتأتى أجيال، ومن بين هذه وتلك تتحول مشاعر المرأة من مجرد القدرة على التعبير إلى الحرب بالقلم، وتتصدى الأديبات العربيات لمشاكل أوطانهن، ويقررن النزول إلى ساحات الحرب حاملات رماح الكلمات، فتظهر أحلام مستغانمى التى تخفى بين رواياتها أسلحة وقنابل، تحكى تاريخ الجزائر النضالى، وتكتب بعشق عن ملايين العائلات التى مزقتها وطأة الحرب والدمار، فقد تأثرت بوالدها أحد الثوار الجزائريين، حتى أنها حكت عنه كثيرا بشكل مستتر من تحت عباءة أبطال قصصها.

ولم تنس فدوى طوقان، الشاعرة الفلسطينية، أن تكتب عن الواقع الاجتماعى المؤلم للمرأة الفلسطينية، وهى الفتاة التى لم يؤمن والدها بفكرة تعليمها، فأخرجها من المدرسة ليأخذ أخوها على عاتقه فكرة تعليمها الشعر، حتى أصبح له الفضل فى أنها أصبحت من أشهر الشاعرات فى الوطن العربي، فكم من امرأة وُئدت أحلامها على يد أب ظالم أو زوج طاغ. كان لقلم الروائية الكويتية ليلى العثمان، ورواية «وسيمة تخرج من البحر» مذاق آخر، إنه تحد لأحكام المجتمع فى كيفية تحريم كل ماهو جميل، حتى الحُب، وتأخذنا الكاتبة فى رحلة عشق تتناولها أمواج البحر، وتتلقفها حبات رماله بين وسيمة ابنة الحسب والنسب، وعبد الله بن مريومة، الدلالة، وكيف يحول المجتمع دون الاعتراف بتلك القصة التى نمت وترعرعت خلف ستائر المحظورات والشكليات، إلى أن تنتهى القصة داخل البحر كما بدأت يوما على شاطئه.


5- الحُرية لنساء العالم العربى:

بعد أجيال من الأديبات اللاتى بحثن عن الحرية والنضال والحقوق الضائعة، وبعد باع طويل لأديبات تحملن أوزار أوطانهن، كسرت الأديبات كل القيود وقررن أن يكتبن بلا خوف من همسات المجتمع، ودون أن يلتفتن إلى أصابع الاتهام الموجهة لهن طول الوقت.

كتبت سمر اليزبك، السورية الأصل، رواية فاقت كل التوقعات، هى «رائحة القرفة»، وقررت أن تصف لياليها مع حبيبها بكل سفور!، واختزلت عالمها كله فى مساحة لم تتجاوز حجم الفراش، لكن الرواية مُنعت من دخول سوريا وحاربتها الأوساط الأدبية المتحفظة.

ومن سوريا إلى الأردن، تكتب الروائية الأردنية عفاف البطانية، رواية أخرى يتم رجمها بالحجارة، وهى رواية «خارج الجسد» التى تمت مصادرتها فى الأردن، فور صدورها، حيث أظهرت الرجل فى أبشع صورة، مرورا بالأب المتسلط والزوج العنيف، بل كشفت المستور بقوة عن مجتمع يغوص فى الخطايا ويتسلح بالفضيلة.


6- أديبات خلف الأسوار:

من تجارب الأوطان والعشق إلى التجربة الأكثر إيلاما، وهى تجربة السجون ومرارة الظلم، من بين جدران المعتقلات تكتب مارينا نعمت رواية «سجينة طهران»، وهى الفتاة التى حُبست ظُلما داخل أسوار سجن إيفين بطهران فى عهد الخومينى لمجرد احتجاجها على مدرسة التفاضل بالمدرسة، لأنها حولت حصة الرياضيات إلى حصة دين!

إنها قصة تقشعر منها الأبدان لمجتمع تحول تحت مظلة الفضيلة، إلى وحش كاسر ينتهك أعراض النساء، ويتلذذ بشوى لحومهن.

وتكتب مليكة أوفقير، عن أيام وليال عاشتها هى وعائلتها فى عتمة السجن وظلامه الدامس، بعد محاولة فاشلة قادها أبوها الجنرال أوفقير للانقلاب على الملك الحسن الثانى بمحاولة لاغتياله، ويتم الزج بالعائلة كلها فى السجن لمدة 19 عاما، فقدوا خلاله حتى قدرتهم على التعرف على بعضهم البعض، وبعد خروجها إلى النور تقرر مليكة أن تحكى للعالم كله ما ذاقته من مرارة السجن وقسوة الظلم.


7- هكذا كتبن النساء:

هكذا قررت أديبات الوطن العربي، أن يعترفن جهرا وأن يكتبن دون قيد، فنثرن الزهور بأقلامهن كلمات وصرخن فى وجه الأفكار الرجعية للمجتمعات الشرقية.

اليوم فقط نجحت أديبات الوطن العربي، فى إشهار أقلامهن، والانتصار بمعركة التحرير والإبداع. ها هى زهور الأقحوان تورق من بين أصابع الأديبات، لتتحول صفحات التاريخ إلى مرج من الكلمات، فتحية لكل أديبة سطرت بقلمها حرفا فتحت به طاقة نور لأجيال من النساء، لم يكن جزءا من المعركة.

تحية لأديبات لم يرتدين الحرية، رداء للتباهى بل ارتدين الحروف رداء من المعرفة.