منال لاشين تكتب: وسع الكادر

مقالات الرأي



سمعت تعبير (وسع الكادر) لأول مرة خلال تصوير الخماسية الرائعة ليالى الحلمية من فنان قدير راحل.. كان صوته عميقا وكأنه أتى من السماء وليس الأرض، كنت أتابع تصوير المسلسل، وأنا أعمل فى مجلة صباح الخير. وانتهزت الفرصة للدخول فى فى تفاصيل هذا العالم وأعرف مصطلحاته. وعندما سمعت وسع الكادر فى نقاش بين أبطال العمل بدا على الغباء. فأخذنى الممثل من يدى إلى الكاميرا وظل يعلمنى بشكل عملى على الكادر. عندما نوسع الكادر نرى تفاصيل أكثر من الصورة الكاملة. وكلما ضاق الكادر ضاقت تفاصيل الصورة، وانحصر التركيز على مجرد ملمح أو اثنين من الصورة. واختفت تفاصيل كثيرة عن النظر والرؤية والتفكير، وبدا لنا أن الحياة مجرد ملمح أو اثنين، وهو ما يسمى بالخداع البصرى.

وبهذا المعنى فنحن جميعًا نحتاج إلى أن نوسع الكادر.وحين أقول جميعا فإن لا أقصد الحكومة أو الرئاسة أو المؤسسات فقط، بل الشعب أيضا، الجميع أصبح أسيرا للكادر الضيق، والكل يركز على وجهة نظر واحدة واتجاه واحد، ويكره ويغضب من أن يحاول آخر توسيع الكادر ليرى مزيدًا من التفاصيل فى الصورة، فمجرد النظر للصورة الكاملة يثير الغضب والحنق لدى الملايين، كلنا نريد أن يضيق الكادر إلى أقصى درجة.

لقد تعودت من سنوات ما قبل ثورة 25 يناير على غضب الحكومات والمسئولين من تعرية الواقع، وإدخال المشكلات فى الواسع، ولكن الجديد والمخيف والمفزع ليس استمرار هذه الرغبة لإغلاق الكادر عن المسئولين، بل انتقالها وانتشارها الى الناس بمعناها الواسع، الناس بتخاف وتكره أن تسمع عن المشاكل.. وتريد ألا تظهر أى مشكلة فى الكادر.. والحجج كثيرة.. مرة لا صوت يعلو على صوت الحرب على الإرهاب.. مرة بحجة أو بدافع الخوف من أن انهيار الدولة على غرار سوريا وليبيا واليمن والعراق..هذا الخوف وصل إلى درجة المرض. بحيث يغضب الناس فضلا عن غضب المسئولين لمجرد الكتابة عن مشكلة، أو التنبيه من خطر أو خطأ. والناس تعبر عن هذا الهوس المرضى بكلمات من نوع (زهقنا من السياسة) وكبار المسئولين يتابعون تلك الحالة بكثير من الشماتة فى الصحفيين والإعلاميين.

وفى ظل هذا المناخ أصبح الكادر يضيق يوما عن آخر، وأهملنا الكثير من التفاصيل المهمة والخطيرة فى الصورة بحجة أن الظروف لا تتسع لزيادة مساحة الكادر، ووسط هذا المناخ الخانق غاب البعض إحباطا واختفى آخرون خوفا.. واختارت فئة ثالثة الابتعاد كنوع من الاحتجاج الصامت، وقرأت مؤخرا أن الكتاب يبشر قراءه والمسئولين بأنه قرر أن يريحهم من كتاباته ومشاغباته.

ولا أظن أن هذا المناخ يمكن أن يستمر، فإذا ظل الكادر يضيق يوما بعد آخر فإن مصر ستواجهه بملفات لا تقل أهمية ولا خطورة عن قضايا مكافحه الإرهاب أو محاربة الفساد أو التنمية، ملفات كان من الممكن تلافيها ومعالجاتها لو توقفنا جميعًا حكومة وأهالى عن المرض بالحساسية كما ظهرت بعض التفاصيل الضرورية فى الصورة، وكلما حاول كاتب أو سياسى أو إعلامى أن يركز على هذه التفاصيل، يوما ما سنكتشف أن الكادر الذى اختاره ورضينا به قد حجب عنا الكثير من الحقائق، وحمل علامات استفهام عديدة ستكبر مثل كرة الثلج وقد تنهار فى وجههنا جميعا.

يوما ما سندرك أننا لم نخفِ الواقع ولا نستطيع تزييفه، ولكننا فقط أوقفنا الكادر عند لقطة معينة، وتصورنا أو بالأحرى خدعنا أنفسنا بأن هذه هى الصورة الكاملة. كل ذلك لمجرد أننا لا نرغب فى رؤية الصورة الكاملة، ونرتاح لرؤية التفاصيل التى نختارها لنخدع بها أنفسنا.

يوما ما ستفرض الصورة الكاملة نفسها علينا، ولم تستطيع كاميرا مهما بلغت جودتها أو مصور أو مخرج مهما بلغت كفاءته أن يخفى الصورة الكاملة ويجب أن يستعد الأذكياء لهذا اليوم القريب.

نداء عاجل لكل العقلاء والحكماء.. رجاء "وسع الكادر"