د. رشا سمير تكتب: "القاهرة وما فيها".. نجاح أخير لمكاوى سعيد لن يطمسه الرحيل

مقالات الرأي



يموت الموهوبون ولا تموت حكاويهم

أكبر مشكلة تواجهها فى الرقص هى الرقص بحذاء لأنه كان يعرقل حركتها، فاقترحت عليها زميلتها الراقصة هاجر حمدى أن ترقص حافية

أحب القاهرة لأنى ولدت فى عاصمتها الفخرية "منطقة وسط البلد" وعشقت أماكنها وأرواح ساكنيها


يرحل القلم وتبقى الكلمات.. يغيب الروائى وتحضر حكاياه.. تتوقف الأيام عن النبض وتبقى المشاعر الصادقة فى القلوب، كم من روائى رحل وبقيت كلماته.. كم من أيام مضت ولم تترك لنا سوى ذكريات بين أوراق كتاب أو أحرف فى ديوان شعر. إنها الحياة.. تأتى فى صُراخ طفل يولد، وترحل فى وداع روح تغيب، كنت أقابله فى أغلب المحافل الأدبية، تُضفى سمرته على المكان سحراً خاصاً.. يأتى مثل نسمة الهواء ويرحل دون أن يشعر به أحد، لم يكن يتحدث كثيرا ولكنه كان يتأمل ويأمل، يحلم ويكتب، يعشق مصر ويسكن مقاهيها.


كنت أتابع أعماله عن كثب، حتى قبل أن نلتقى، سكنتنى «تغريدة البجعة» وسكنت أنا «مقتنيات وسط البلد» حين عشت الأماكن بقلمه، ربما لم أكن من المعجبين كثيرا برواية «أن تحبك جيهان»، ولكنى كنت على يقين من أنه سيعود بعمل أقوى.

فى آخر حوار بيننا، عاتبنى بصفة الأستاذ بسؤال يشوبه الهدوء كعادته: «أين الأقلام المصرية من النقد الذى تكتبينه يا سيدتى الأديبة؟»، قلت على الفور ودون تفكير: «لم تعد البصمة المصرية فى الأدب بنفس قوتها بالأمس.. وأنا لا أكتب إلا عن الأعمال التى أقع فى غرامها كقارئة أولا.. لذا أنا فى شوق لإبداعك القادم يا أستاذنا»، ابتسم ورحل.

ظلت تلك القصة عالقة بذهنى حتى رحل، لكن هذه المرة كانت رحلته الأخيرة، تلك الرحلة التى يقوم بها الأديب جسدا ولا يبقى منه بعدها سوى الأوراق والكلمات، إنه الكاتب مكاوى سعيد، الذى غادر عالمنا عن عمر ناهز الـ61 عاما، رحل وهو ينتظر صدور كتابه الأخير، الذى كان قد أعطاه للدار المصرية اللبنانية لنشره قبل وفاته.

كانت المسئولة عن متابعة رواياته فى دار النشر هى الأستاذة نورا رشاد، مدير عام النشر بالدار، التى على الرغم من صغر سنها إلا أنها ارتبطت بالأديب الراحل كأخ أكبر، كانت تستمع إلى حكاياه بالساعات وتتقبل نصائحه وتتناقش معه فى كل كبيرة وصغيرة بكتاباته، وكان يتقبل نصائحها بصدر الأب الرحب والروائى الذى يعلم أن مصلحة الروائى ودار النشر واحدة فلا مانع من النقاش.

وحين توفى بكته نورا كما لم يبكه أبناؤه الذين لم تمنحه الحياة فرصة إنجابهم، سألتها عن كتابه الأخير فقالت لى: «كان يتمنى صدوره قبل معرض الكتاب حتى يتسنى له أن يحتفل به قبل زحام المعرض، كان ينتظره بفارغ الصبر بعد تعديلات كثيرة، هو استكمال لكتابه «وسط البلد»، لكن القدر لم يمهله بهجة الاحتفال، ففارق الحياة بين طرفة عين وانتباهتها، رحل فى هدوء، وكأن الهدوء لم يكن فقط سمة طلته ولكنه كان قدره».


1- لماذا القاهرة؟

هذا السؤال الذى يطرحه الأديب مكاوى سعيد فى مقدمة كتابه.. لماذا القاهرة؟، وقد كُتب عنها آلاف الكُتب والدراسات من قبل مصريين وأجانب.. هل لأنها الأعلى فى عدد السكان؟ أم لمكانتها تاريخيا وجغرافيا؟ أم لأنها عاصمة الوطن العربى؟

يجيب مكاوى عن هذا السؤال بتلقائية شديدة ويقول: «أنا أحب القاهرة لأنى ولدت فى عاصمتها الفخرية «منطقة وسط البلد» وعشقت أماكنها وأرواح ساكنيها الراحلين التى تجوب طرقاتها وأسبلتها كل ليلة، وعندما اكتمل كتابى هذا أسميته «القاهرة وما فيها» امتنانا لهذه البقعة المباركة».

إذن تلك هى إجابة السؤال، إنه يكتب تاريخ المكان الذى عشقه، يكتب بعين ابن مصر الذى عشق ترابها وبقلم الروائى الذى يكتب عن التاريخ ليبقى.

يضيف مكاوى فى مقدمة كتابه ويقول: «قبلما تضيع ذكرياتنا وتواريخنا الشفهية وحواديتنا، أرى أن نعيد نشرها والكتابة عنها، وقد حرصت على ذكر المصادر والمراجع وإن فاتنى شىء فأنا أعتذر عنه مقدما وسأحرص على تصحيحه فى الطبعة التالية بإذن الله»، ولكنها إرادة الله، أن تنزل الطبعة الثانية دون تنقيح لأن صاحب الكلمات قد غادر المكان!

يتناول الكتاب تاريخ القاهرة فى فصول متعاقبة، يحكى عن ماضى ممزوج بعبق الحاضر، عن الأماكن والشخصيات التاريخية الثرية.. فى محاولة لجمع المعلومات من مراجع عدة، والحقيقة أن الروائى ذكرها جميعا فى نهاية الكتاب، وهو ما يُؤكد على مصداقيته فى تناول السرد.. مجموعة كبيرة من المواقف التاريخية الكوميدية، ومعلومات أغرب عن قاهرة عشناها ومراحل لم نشهد أحداثها ولكنها تاريخ وطن عظيم.


2- أبناء آمون

من أكثر الفصول التى استوقفتنى فى الكتاب استعراض الروائى لتاريخ البغايا وممارسة الرذيلة فى مصر، منذ أن كان يُطلق عليهن فى مصر الفرعونية لقب «أبناء آمون»، وكن يقسمن إلى طوائف تسيطر على كل طائفة سيدة يُطلق عليها لقب «رئيسة الحريم»، استمرت تلك المهنة وراجت فى مصر تحت حكم الرومان، ثم فى عصر الفاطميين انتقل البغاء من السر إلى العلانية.

وفى دولة المماليك أباحت الدولة الدعارة حيث كانت بيوت الدعارة تسمى «كراخانات» وهى كلمة تركية من جزأين «كرى» بمعنى النوم، و«خان» بمعنى المكان، وفى عهد الحملة الفرنسية، تم تنظيم الشكل الرسمى لبيوت الدعارة، وفرضوا عليهن ملابس مميزة حتى يسهل التعرف عليهن، وسمحوا بالغناء والموسيقى فى تلك البيوت، فجعلوا الدخول بتذكرة لا يُعفى منها إلا من يمتلك تصريحا من السلطات الفرنسية!

وطبقا لدفاتر تسجيل البغايا فى مصر وحتى 26 أكتوبر عام 1890م كان الدفتر يشمل أسماء العاهرات وينتهى بالمكان الذى تنتسب إليه كل واحدة مثل: هانم الحبشية أو زوبة الإسكندرانية!


3- شخصيات من قلب القاهرة

يتناول الكتاب أيضا عرضا وافياً وسريعاً لمجموعة كبيرة من الشخصيات المصرية المشهورة بين أوراق الكتب، ربما الكثيرون لا يعرفون عنها شيئا مثل: الشيخ درويش الحريرى، محمد بك تيمور، خليل مطران، أحمد شوقى، هدى شعراوى، فاطمة سرى، النحاس باشا..وغيرهم.

الكتاب مُدعم بمجموعة كبيرة من الصور والوثائق وهو ما جعل الحكى به مختلفا، مثلا كتب مكاوى عن «الست توحيدة» وهى مطربة لبنانية الأصل اسمها الأصلى «لطيفة إلياس فخر» وقد هاجرت إلى مصر فى عام 1900 وبدأت بغناء أدوار عبده الحامولى، حيث كانت تقدم أول أدوارها فى أرجاء منطقة العتبة وكانت أول من غنت دون غطاء وجه وعباءة!.

الغريب حقا أن الست توحيدة لا يوجد لها تسجيل صوتى واحد مثل الكثير من المطربين، وحل اللغز ببساطة أن الست توحيدة كانت تعشق الغناء فى الهواء الطلق وكانت ترفض التسجيل بتاتا.

كما يروى لنا الروائى، كيف غضب والد توحيدة بشدة عندما عاد إلى المنزل وهى طفلة ليجد نساء الجيران قد التففن حولها وهى تغنى، فهاج وماج وقرر أن يعطيها دواء يقضى على حلاوة صوتها، وسايرته الأم لتزيل الدنس الذى علق بالأسرة، ولكن قلبها لا يطاوعها وتتفق مع الابنة أن تخفى عن أبيها أنها لم تشرب الدواء، وعندما يموت الأب بعد سنوات، لا تجد الأم مفرا من الفقر سوى أنها تلجأ إلى صوت ابنتها لتعيش!


4- القصور وما فيها

يتناول الكتاب أيضا استعراض مجموعة مهمة من القصور التى ربما سمعنا أو لم نسمع عنها مثل: قصر شريف باشا فهمى الموجود بجاردن سيتى أمام فندق الميريديان، قصر قطاوى باشا، وموقعه بشارع إبراهيم نجيب باشا، وعائلة قطاوى هى عائلة يهودية من أغنى العائلات اليهودية وأشهرها فى أواخر القرن التاسع عشر، قصر الدوبارة، وهو المقر الرئيسى لنساء محمد على، قصر النيل.. وهو القصر الذى بناه محمد على باشا لابنته الأميرة نازلى، بجوار حدائق وزرايب قوصون، سُمى القصر باسمها ثم تحول اسمه إلى «قصر النيل» مع الوقت.

لم ينس الروائى أيضا أن يُلقى الضوء على تاريخ مصر الحافل بالبيوت الأثرية مثل: بيت عبد الرحمن كتخدا، بيت إبراهيم بك الكبير، وبيت الشوبكى باشا.


5- الحافية من المستشفى إلى الكباريه

يختتم مكاوى الكتاب بقصة الراقصة سامية جمال أو «زينب خليل محفوظ» التى صعدت على درج النجاح بعد سلسلة من الإخفاقات والانكسارات، توفى والداها لتنتقل إلى بيت أختها، فتضطر لأن تعمل كممرضة فى أحد المستشفيات وتعود لتعمل كخادمة فى البيت، وعقب طرد زوج أختها لها، يٌلقى القدر فى طريقها الراقصة بديعة مصابنى التى دفعتها إلى عالم الرقص بل اختارت لها اسما فنيا يليق بالنجومية.

كانت أكبر مشكلة تواجهها فى الرقص هى الرقص بحذاء لأنه كان يعرقل حركتها، فاقترحت عليها زميلتها الراقصة هاجر حمدى أن ترقص حافية، ومن هنا أطلق عليها محمد بديع سربية لقب «الراقصة الحافية»، تزوجت من متعهد حفلات أمريكى ثم من بليغ حمدى، وأخيرا تزوجت رشدى أباظة لمدة 18 عاما وأنجبت منه ابنته قسمت.

استمتعت بكل كلمة قرأتها فى الكتاب وكل معلومة اقتنصتها من بين سطور الحكاية.. إنه كتاب بحق يستحق أن يقتنيه كل بيت لأنه ببساطة يحمل تاريخ مصر بين دفتيه.