د. رشا سمير تكتب: من أنا؟!

مقالات الرأي



امرأة بلا هوية


أنا تلك المرأة المجهولة فى حياة كل رجل عظيم.. امرأة من شأنها أن تدفعه إلى الأمام أو تقوده إلى الهلاك..

هى نفس القصة تتكرر كل يوم.. تتغير الأزمنة وتتبدل الأشخاص وتبقى الأحداث دوما هى القاسم المشترك فى كل التفاصيل.

إسمى!..لا يهم أن تعرفوه..إننى مجرد فتاة عادية من بين آلاف الفتيات.



حياتى!..ليس بمقدورى أن أفصح عن تفاصيلها، قد تبدو مُملة ولكن دقائقها قد تغير وجه التاريخ.

قدرى!.. جزء منى عاش بالأمس، وجزء لازال يحيا بينكم، والجزء الأكبر سوف يظل أبدا كالنقش على جدران المعابد الفرعونية.

قصتى!.. إسمحوا لى أن أسردها عليكم، فهل تسمحون لى بأن أبدأ الحكى؟.

التقيته أول مرة فى سوق المدينة، مر طيفه الجميل أمامى مثل الحُلم، ناعم عذب التفاصيل، شاب فتى فى الثامنة عشرة من عمره، يرتدى زى الفرسان ويمتطى حصانه الأبيض، حاملا سيفا نصله الحاد يلمع بالبطولة فى ضوء الشمس فيكاد أن يشطر أشعتها الذهبية إلى شطرين.

مر أمام الواقفين مثل الريح فانحنى له الجميع واخفضوا الرؤوس حتى لا تقطفها سيوف الحراس.

همست بصوت خفيض فى أذن صديقتى وعيناى لازالت تتعلقان بطيفه.. سألتها: « من هذا الشاب؟».

ردت صديقتى وقد علا الاستغراب وجهها: «هل تسخرين منى؟ هذا هو الملك فيليب المقدونى زوج الملكة أوليمباس التى جاءت من أبيدوس لتحتل عرش البلاد، معروفة بتسلطها وقوة شخصيتها، كما أنها ليست على وفاق مع الملك».

عدت أسألها بخبث شديد: «لا أعنى الملك فيليب، أعنى الشاب الآخر»

لم ترد ولكنها ابتسمت نصف ابتسامة لم أفهم مغزاها فى وقتها..

مرت دقيقة بين شغفى لألمح وجهه من جديد وبين عينانا التى تلاقتا فى نظرة مست شغاف قلبى..وعلها مست قلبه هو الآخر.. أو ربما تهيأ لى كذلك!.

مر عامان نسيت فيهما لقائى بهذا الفارس الذى طارد خيالى فى الليالى الباردة، وأصبحت أنا له مجرد لحظة لا يتذكر ملامحها.. واستيقظت فى أحد الأيام على هرج ومرج لم تعتده المدينة الهادئة، فعرفنا أن الملك فيليب أصيب بطعنة فى حفل زواج ابنته من خالها ملك أبيدوس، شقيق الملكة أوليمباس على يد أحد حراسه وفاضت روحه إلى بارئها..

اهتز كيان العائلة التى هى قلب الحُكم.. وقبل أن تنفلت زمام الأمور..تم تنصيب الفارس الفتى ملكا على مقدونيا.. فأصبح الإسكندر هو ملك مقدونيا فى العشرين من عمره!

جمعنا القدر مرة أخرى، وأنا أقف بين الحقول أرعى أغنامى وأرقص على موسيقى الرياح التى تعزفها سنابل القمح فى المرج الواسع، التقيته مرة أخرى شاهرا سيفه وممتطيا حصانه الأبيض.

وقف أمامى ليحجب عنى أشعة الشمس التى سقطت فوق تاجه فتبعثرت إلى ألف خيط من حرير..كانت المسافة فى تلك المرة أقرب، فارتعدت أوصالى وأنا انحنى أمامه..

«مولاى»

قال بصوت يشبه حسيس النيران حين تخبو فى خجل:

« لا تنحنى أمامى يا سيدتى الجميلة..أنت إذن تلك الفتاة التى ظل طيفها يطاردنى منذ تعلقت عيناى بك فى السوق القديم.. هل تذكرين؟»

إلتقطت أنفاسى بصعوبة ورأسى قد أثقله عذب كلماته.. فعاد يقول:

«هل تؤمنين بالعشق من النظرة الأولى؟»

لم أجرؤ على الرد..فعاد يقول بنفس الجسارة:

«أنا أؤمن بالأقدار وبالسهم الذى تُلقيه ليسكن الأفئدة..لقد قررت أن أتزوجك»

علت الابتسامة وجهى.. وطار عقلى من السعادة، ملك البلاد يطلبنى للزواج.. لكنه عاد وألقى بحجر فى وجهى حين قال:

«سوف يظل زواجنا سرا، فأمى الملكة أوليمباس لن توافق على أن تكون زوجتى واحدة من عامة الشعب، ولو علم أحد خصومنا لاستغل زواجنا سلاحاً ضد المملكة».

هل أفرح لأنه اختارنى؟ أم أحزن لأنه يرانى امرأة لا تليق بمقامه الملكى؟. «سيدى ومولاى.. أنت لا تُحبنى، ولكنك تُحب زهوك فى صورتى..أنت قد ملكت البلاد حقا ولكنك لا تملك من عليها..الحُب الحقيقى يعطى صاحبه القدرة على مواجهة العالم كله دون خوف ولا خجل..عفوا سيدى، اتركنى لحياتى واذهب لحياتك.. فنحن أبعد من أن نلتقى وأكثف من أن نمتزج».

ركب حصانه وتركنى ألملم أشلاء الحُلم وبقايا كرامتى التى بعثرتها دماؤه الملكية..

مرت الأيام وأنا أحاول نسيان لطمة الزمان لى.. وكل يوم تترامى إلى سمعى أخبار الإسكندر..

لقد سار مخترقا نهر الدانوب وعبره ليحرق أحد القُرى الفقيرة هناك.. هاهو يضرب من جديد بلاد الإغريق، قضى على مدينة طيبة، موطنى الصغير وأتى على كل صغيرة وكبيرة فيه..

سألت نفسى وأنا أتابع أخباره: كيف تحول هذا الشاب من مجرد شاب له حُلم إلى شخص يعتريه كل عنف الدنيا وبطش صولجان القوة..وهل لازال فى قلبه حقا مكانا للحُب أو للرحمة؟

جاءنى الجواب فى قصة روتها لى سيدة مُسنة ذهبت تشتكى إليه وتعترف بدخول أحد ضباطه إلى منزلها لينهبه ويهددها بسلطته، ثم سألها عن مكان الذهب فأخبرته بأن كل كنوزها مخبؤة فى بئر على بعد خطوات من البيت، سار خلفها، فقادته إليه ثم قذفته فيه، تعاطف الإسكندر معها وأمر بالعفو عنها بل وبرد ممتلكاتها وحريتها إليها..

عجبت لأمر هذا الشخص..كيف أصبح فى قلبه مكانا يتسع للخير والشر معا؟.

فى عصر أحد الأيام طرق جنود الإسكندر بابى ليخبرونى أن ملك البلاد يطلب رؤيتى، ترددت قليلا، لكن شغفى لرؤيته تغلب على ترددى فى دقيقة واحدة..

دخلت إلى بلاطه الرحب ودقات قلبى تغطى على وقع أقدامى من شدة توترى..إستقبلنى بنفس الإبتسامة الواثقة الحالمة التى علت شفتيه منذ رأيته أول مرة.

« مولاى»

«لا تخاطبينى بهذا اللقب من جديد..بل أنت مولاتى..لم أنسك يوما حتى وأنا أحمل السيف وأحارب، سوف أتزوجك هذه المرة أمام العالم كله وسأعلنها فى وجه الجميع»

«بقدر سعادتى بهذا العرض السخى يا مولاى إلا أن القدر لازال يأبى أن يجمعنا..كيف أتزوج رجلا هاجم بلادى وقتل أهلى وسفك دماء أحبائى».

« إذن أنت من طيبة!..الحرب يا عزيزتى مكسب وخسارة..قاتل ومقتول».

قالت بهدوء يشوبه انكسار المرأة العاشقة حين تنهزم أمام مشاعرها: « استميحك عذرا يا مولاى فأنا لم ولن أكون أبدا مقاتلة ضمن صفوف جيشك، ولا أعى سوى قانون الإنسانية، فهو القانون الوحيد الذى يخضع به قلبى»

رد محتدما غاضبا: « أنا أستطيع الآن أن أتزوجك رغما عنك، أو حتى آمر بقتلك لو أردت ذلك».

«نعم.. تستطيع أن تقتلنى وتريحنى من عذاب قلبى وضميرى، لكنك لو تزوجتنى لن أكون لك جسدا إلا وأنا جثة هامدة بين يديك»

«سوف أتزوج من هى خيرا منك ألف مرة.. أغربى عن وجهى»

بعد شهر واحد، سمعت المنادى يجوب البلاد معلنا عن خبر زواج الإسكندر من روكسانا ابنة ملك سمرقند.. ظل الإسكندر على رأس الإمبراطورية الفارسية ست سنوات، حتى بلغ عامه الواحد والثلاثين.. تزوج مرة أخرى من فتاة فارسية اسمها «دارا» ولم يفرط فى زوجته الأولى.

جاءنى من جديد ليخبرنى إنه لم يستطع أن يتخلص من حبى ولم ينسنى برغم كل الجفاء الذى قابلته به، وأخبرنى بأنه قرر أن يبنى مدينة بأكملها على أجمل شواطئ العالم ويهديها إلى، لنقضى معا على ضفافها ما تبقى لنا من العُمر معا..

عجبت لأمر هذا الرجل الذى أحب امرأة لمجرد إنها رفضته وعجبت لأمر نفسى لأننى تعلقت به.. طلبت منه أن ينسانى لأن وجودى بين زوجاته وأبنائه هو باطل سيُبنى على باطل.

قبل أن يتركنى ويرحل، إلتفت إلى والدموع تترقرق فى عينيه وقال هامسا: «أنت الحلم الغائب فى حياتى.. أنت العشق الذى سكن ضلوعى.. أنت...»

لم يُكمل الجملة..لكنه أسرع صوب الباب واستدار مرة أخيرة وقال بصوت اختنقت حروفه:

«سوف تعرفين باقى هذه الجُملة فى حينها»

لم أكن أعرف أن تلك المرة سوف تكون آخر لقاء بيننا.. فقد مات الإسكندر وهو بعد فى عامه الثالث والثلاثين عقب حفل صاخب فى بابل اشتد فيه الشراب، وبعد أن انتهى من بناء مدينة الحُلم.. «الإسكندرية».

مدينة أبهرت العالم، ولم يعرف أحد سرها سواى.. حزنت حزنا شديدا عليه، على إنسان أحببته بكل جوارحى ومنعنى كبريائى من الإنكسار أمامه. لماذا عقدت العزم على أن أحقق له أمنيته الأخيرة؟ لا أعلم..

فقد لملمت أشيائى وقررت أن أذهب لأعيش فى الإسكندرية.. سوف أقضى ما تبقى لى من العُمر فى البقعة التى اختارها لتجمعنا ولم يمهله القدر.

وقفت أمام بوابة المدينة وقد استوقفتنى الكلمات المحفورة عليها..

الآن فقط عرفت معنى آخر جملة قالها لى قبل أن يرحل..لقد آن أوان أن أعرف باقى الجُملة..

تسمرت أمام الكلمات ألتهمها بعينى: «إلى الحُلم الغائب فى حياتى.. إلى العشق الذى سكن ضلوعى ولم يتركنى حتى فى ليالى الصمت.. إلى جزء من قلبى عاش بعيدا عنى.. إلى امرأة هى كل أقدارى وبعض من لمحات حياتى..

إليك يا حبيبتى.. خاتما لم ترتديه، وقصرا لم تسكنيه، وحُلما لم تحققيه..

إليك يا حبيبتى.. مدينة بنيتها لتخلد ذكراك، وتكتب أزقتها وحوانيتها وشواطئها ،عُمرا لم تمنحينى فُرصة أن أقضيه بين أحضانك».

انتهت كلمات الإسكندر.. وانتهت قصتى معه.. وبقيت الإسكندرية حُلما يتوارثه الأجيال.. أجيال تعرف اسم المدينة ومكانها وجمالها..ولكنها لا تعرف من أنا؟!..

فأنا سوف أبقى أبدا، تلك المرأة المجهولة فى حياة كل رجل عاشق، امرأة تدفعه للحُلم دون أن تجرؤ على سكناه.

سوف أبقى أبدا.. امرأة بلا هوية..