د. رشا سمير تكتب: "المولودة".. حُلم حققته نادية كامل لأمها

مقالات الرأي



الرواية أقرب إلى السير الذاتية


النبش فى قبور المجهول ليس سوى ميلاد أكيد لذكريات الماضى، التنقيب عن حكايات انزوت فى صوان الأيام يغزل خيوطا من فضة عن آمال وأحلام، ربما كانت أو لعلها عادت.

رائحة ذكرى الحواس ومذاق الصور القديمة ولون الأحداث، هو التاريخ المكتوب لكل البشر، هكذا قررت نادية كامل أن تلتقط بعض تلك الصور والأحداث من ذاكرة أمها، لتنسج منها حروفا وتصنع من الحروف سطورا وتبنى من الصفحات كتابا، عن ماض عاشته فى شارع عشماوى بقلب مصر.

استرقت السمع إلى حواديت أمها فغزلت منها سيرة ذاتية دسمة فى رواية من 551 صفحة، تحكى عن تاريخ اليسار ونبض مصر القديمة وشوارع إيطاليا واعتقال الأفكار.

التهمت عيناى سطور رواية «المولودة»، الصادرة عن دار «الكرمة» للنشر، التى كتبتها المخرجة نادية كامل.

إحقاقا للحق، دار الكرمة للنشر التى تأسست عام 2013 استطاعت تحت إدارة الشاب المجتهد سيف سلماوى، أن تحقق نجاحا ملموسا، وأن تجد لنفسها مكانا متميزا وسط دور النشر الكبيرة.

الدار لها رؤية محترمة، وإصداراتها مختلفة، لأن لأغلبها قيمة حقيقية، وهو ما أصبحت تتغاضى عنه أغلب دور النشر الجديدة من أجل تحقيق ربح مادى!.

من «مولانا» و«رحلة دم» لإبراهيم عيسى، مرورا بـ«العالم عام 2050» لجلال أمين، وحتى «كل هذا الهراء» لعز الدين شكرى فشير، حققت دار الكرمة المُعادلة الصعبة، وهى القيمة الأدبية الحقيقية وراء الكتاب المطبوع، فاستطاعت أن تقف فى سنوات قليلة قدما إلى قدم بجوار دور النشر الكبيرة فى مصر.


1- فى سرداب الذكريات

«بعد موتها وجدت نفسى وحدى أمام مهمة الكتابة، كان على أن أستلهم سر السرد من صوتها فى كيانى، وميض الخيوط الحريرية- ذاكرتها الوجدانية، الأحداث فى حوار قلق مُربك مع الزمن..صوت ماما، «الحدوتة» التى روتنى بها على مر العُمر»»

تروى نادية كامل قصتها من خلال قصة أمها، أو كما عاشتها بعيون والدتها، تحكى بصوتها وتكتب بصمتها وتقص علينا ذكريات عاشتها وهى تتلمس الحكى فى صوت أمها، أو وهى تفتش بين أشيائها، قصة تمنت الأم لو كتبتها، ولكن القدر لم يمهلها.. فقررت الابنة أن تستكمل البناء السردى.

نادية كامل لمن لا يعرفها هى مخرجة مصرية، ولدت فى القاهرة عام 1961، درست الكيمياء والميكروبيولوجى قبل أن تتجه للسينما، وعملت كمساعدة إخراج لعطيات الأبنودى ويوسف شاهين ويسرى نصر الله، ألفت وصورت وأنتجت الفيلم الوثائقى «سلطة بلدى»، الذى لاقى استحسان القراء.

تبدأ نادية الرواية بكلمات عامية بسيطة تقول فيها:

«يراودنى الآن منظر ماما وراء ركام التفاصيل على المكتب، كالفلاحة بجانب جاموستها: ورثها ورصيدها وهمها وجاه دنيتها وتركتها.. بدأت تروى لى الحدوتة كما نحفظها، على نغمة «كان يا مكان يا سعد يا إكرام بنت صغيرة اسمها مارى اتولدت فى بيت فقير فى شارع العشماوى بالقرب من جامع كخيا».


2- من إيطاليا إلى القاهرة

ولدت مارى إيلى روزنتال عام 1931، وكانت بحسب اعتقاد الأسرة واعتقادها هى شخصيا سبب الفقر الذى أصاب العائلة، حيث فقد والدها الذى كان يشغل منصباً محترماً فى شركة «سيمنز» الألمانية وظيفته، بعدما أغلقت الشركة مكتبها فى مصر، بسبب الأزمة الاقتصادية التى اجتاحت العالم عام 1929 وأصبح عاطلا.

تحكى مارى أيضا عن والدها الذى أسس شبكة الكهرباء بمدينة بنها ثم انتقل للعمل فى سيمنز، واضطرته الظروف ليعمل كهربائياً فى البيوت مع الخواجة «ماريو صوفيا».

الحكاية تستمر على لسان الابنة نادية، على الرغم من أن صوتها يخفت كلما تبحرنا فى الصفحات، حتى أنه لم يعد مسموعا فى خضم الأحداث التى ترويها الأم.

إذن فالراوى العليم هنا ليس سوى الابنة التى قامت بتقديم أمها على خشبة المسرح الأدبى وتركت لها حق السرد، حتى لو أصبحت هى «المُلقن» الذى يعطى ظهره للجمهور تحت «الكمبوشة» ولكنه مازال يعرف متى يتحكم فى ضحكاتهم وبكائهم.

تحكى نادية عن مصر التى عاشتها كل بنات جيلها، مصر الأماكن والروائح والأزقة القديمة،

مصر فى ثوب شملا وشيكوريل، مصر من محل زكى السماك والسبتية وجامع أبو العلا، مصر بولاق وسينما أولمبيا، مصر فى مدرسة الفرنسيسكان وبيت جابريللا.

تأخذنا نادية إلى كيف انضمت إلى المنظمات الشيوعية، وهو الوقت الذى حدثت فيه الوحدة بين منظمتين شيوعيتين، هما: حركة مصرية بقيادة هنرى كوريل، واسكرا أى الشعلة بالروسية بقيادة هلال شوارتز، ليفرز الاتحاد منظمة واحدة أسموها «حدتو».

كانت مارى تقوم بتوزيع المنشورات إلى أن تم القُبض عليها وأودعت السجن مع مجموعة من الشيوعيات معظمهن من الأجانب المتمصرات، وهنا تروى لنا مارى ظروف السجن والمعاملة والمقاومة التى كابدوها حتى حصلن على حريتهن وحقوقهن.


3- ما بعد السجن

بعد خروجها من السجن تعرفت مارى على اليسارى المصرى ألبير أرييه، ومن باب الإعجاب والانسجام، أدخلها هذا الشاب إلى عالم الثقافة والشعر، فتعرفت على الشاعر فؤاد حداد الذى طلب منها مساعدته فى شراء قطعة قماش هدية لحبيبته التى تزوجها بعد ذلك.

وتعرفت أيضا على كمال عبدالحليم وجمال كامل وحسن فؤاد وأحمد بهاء الدين وزوجته ديزى، هنا انطلقت مارى تحكى عن شخصيات مهمة فى تاريخ مصر، شخصيات عرفتها عن قرب مثل سيزا نبراوى ويوسف إدريس ويوسف حلمى وتحية كاريوكا وصلاح حافظ.

الحقيقة أن كتب السيرة الذاتية أو المذكرات كما نطلق عليها باللفظ الدارج هى بمثابة بيت العنكبوت، الذى يغزله بمهارة ويجمع أطرافه ليصنع نسيجا متجانسا، فالسيرة الذاتية هى نسيج الأماكن والأشخاص.

فطالما يقابل الكاتب أشخاصاً لهم بصمة فى التاريخ وحين يكتب عنهم يتراءى للقارئ تلك الزاوية المظلمة التى لم يكن يعرف عنها الكثير من قبل، وهو الحال أيضا مع الأشخاص، هكذا كانت «قصة سنغافورة» بقلم: لى كوان يو «سيرة المنتهى»، بقلم: واسينى الأعرج «مذكرات أميرة مصرية»، بقلم: نيفين عباس حليم، وغيرهم.

بعد سنوات تسقط مارى فى براثن قضية جديدة، فحُكم على مارى وسعد بالسجن لمدة خمس سنوات أخرى بتهمة الشيوعية، وكأن السجن أصبح قدرها دون أن تدرى ولا تخطط، بعد خروجهما هذه المرة قررا الزواج، فتعرفت مارى على عائلة سعد وخاله فتحى رضوان الوطنى حتى النخاع..كانت العقبة الكبيرة فى سبيل إتمام هذه الزيجة هى الدين، ولكن تحت الإصرار تم الزواج ووافقت الكنيسة.

فى أثناء الوحدة مع سوريا، وضعت مارى مولودتها الأولى نادية كامل.. بعد معاناة وسنين من القمع استطاعت مارى أخيراً أن تحصل على الجنسية المصرية، وسافرت مع زوجها إلى إيطاليا لزيارة العائلة للمرة الأولى.

انغمست مارى، التى تغير اسمها فيما بعد إلى نائلة كامل، فى الحياة الثقافية المصرية فى الستينيات وأصبحت تكتب بصفة منتظمة فى مجلة حواء حين كانت تحت رئاسة تحرير أمينة السعيد، وعاد زوجها سعد كامل صحفياً بالأخبار، واستمرت الحياة مع شلة اليسار بجميع أطيافها، ثم وضعت ابنتها الثانية دينا.


4- الكتاب ما له وما عليه

العمل يؤرخ بشدة للتاريخ اليسارى والمجتمع اليسارى فى مصر القديمة ومشاكل ظهوره للنور، وأود أن أسجل هنا إعجابى بغُلاف الكتاب، الذى يتمتع ببساطة وأناقة وشياكة فى اختيار الألوان المتمشية مع فكرة الحقبة الزمنية القديمة.

كما أن الغلاف يحتوى من الداخل على رسومات نوهت دار النشر على أنها من الأرشيف الخاص لعائلة نادية كامل، وهى بحق فكرة مبتكرة تستحق التحية، لمصممى الغلاف هبة خليفة وأحمد عاطف مجاهد.

أكدت نائلة كامل فى أكثر من حكاية أنها لا تتذكر التواريخ بالتحديد، ولا تتذكر الرابط بين الحدث التاريخى والنتائج التابعة له تاريخيًا، وتخبر ابنتها – نادية – أن والدها يتذكر أكثر منها، أو أنه يهتم بالحدث السياسى التاريخى وتبعاته والربط بينهما بشكل أكبر.

ومن هذا المنطلق تؤكد نادية أن الكتاب ليس سردا تاريخيا وأن هذا السرد ليس له أى علاقة وطيدة الصلة بالتاريخ أو بالتواريخ التى عادة ما كانت تغفلها فى صفحات الكتاب، الكتاب مجرد حالة من الحكى، وكأنك تجلس مع شخص يحكى لك لقطة من هنا وأخرى من هناك دون أن يسمح لك بالمقاطعة أو الجدال.

نقطة الضعف الوحيدة بالرواية من وجهة نظرى كروائية هو السرد باللغة العامية وعدم الاستعانة باللغة العربية الفصحى لا فى الحوار التاريخى القديم ولا حتى حين يأتى السرد على لسان القدامى، مما أفقد الرواية فرصة أن تصطف بين أعظم كتب السير الذاتية فى التاريخ. فمن واقع قراءاتى أقر وأعترف بأن اللغة العربية الفصحى تعطى ثقلاً وقيمة أكبر للأعمال الأدبية خصوصا لو كانت تتناول حقباً زمنية قديمة..كما أن اللجوء إلى المصطلحات الأجنبية الكثيرة المكتوبة باللغة الإنجليزية أحدثت نوعاً من الربكة للقارئ، لكن الكتاب حتى لو اختلفت الأذواق مازال تجربة تستحق القراءة.