د. رشا سمير تكتب: نقرأ لنعيش مرتين

مقالات الرأي



فى معرض تونس الدولى للكتاب


فى تلك البقعة الخضراء، أرض أشجار الزيتون، حيث يمتزج جمال الطبيعة بعبق التاريخ، وتغفو الجبال بشوق بين أحضان جنيات البحر، وترتدى الصحراء رمالا ذهبية بلون الشمس، وتتحول الطبيعة إلى لوحة من الفسيفساء، أو أغنية تعزفها أوتار الحرية، تبدو تونس كالعروس بفستانها الأبيض، وطرحتها الدانتيل.

بدعوة كريمة من وزارة ثقافة دولة تونس، والروائى التونسى الفائز بجائزة البوكر شكرى المبخوت مدير المعرض، كان لى شرف الحضور والمشاركة فى ندوة ثقافية بمعرض تونس الدولى للكتاب الذى انتهت فعالياته منذ أيام وهو المعرض الثقافى والأدبى، الذى ينظم سنويا منذ 1982 فى قصر المعارض بالكرم فى تونس العاصمة.

الحقيقة أن معرض تونس للكتاب صغير الحجم، لكنه كبير الأهمية، فهو إثبات قاطع بأن شعب تونس المتحضر الراقى برغم كل الصعوبات الاقتصادية، ورغم كل العثرات التى وقعت فيها الدولة عقب الثورة، مازال شعبا مُقبلا على القراءة، قادرا على المشاركة بقوة فى المشهد الثقافى، حتى لو كانت المشاركة بإمكانيات ضعيفة، إلا أن اللجنة المنظمة وعلى رأسها الروائى شكرى المبخوت، والمحترم السيد سهيل شيملى، وكل اللجنة المنظمة قامت بمجهود كبير فى حدود الإمكانيات المتاحة لوضع برنامج يشمل كل النواحى الثقافية.

كما استعان السيد سهيل شيملى، بمجموعة من طالبات وخريجى الجامعات للقيام على متابعة الجدول الزمنى، ومشاكل الضيوف، وتوفير سبل الراحة لكل المدعوين.

الإقبال الجماهيرى على المعرض، كان ملحوظا فى أيام عطلات المدارس والجامعات، فكان إقبالا هائلا يمتاز بحضور لطُلاب المدارس والشباب على عكس ما توقعه الكثيرون، حتى لو كان الإقبال مرتبطا بشراء الكتب الفرنسية فلا بأس لأنها اللغة الأكثر شيوعا فى تونس.

هذا الإقبال ذكرنى بمعرض كتاب القاهرة الدولى، على الرغم من اختلاف المساحة الكبير.


1- نقرأ لنعيش مرتين

عنوان المعرض هذا العام هو عبارة عن جُملة بديعة، أو بصمة حملتها كل الكتيبات واللافتات..الجُملة هى (نقرأ لنعيش مرتين)..

كتب شكرى المبخوت افتتاحية المعرض هذا العام يقول: "ليست الطيور وحدها هى التى تبشّر بحلول الربيع فى تونس، إذ يشاركها معرض تونس الدوليّ للكتاب فى الاحتفال بمقدم فصل النور العذب الجميل، والفكر الوقّاد، والإلهام المتجدّد، وبهجة الإبداع، وفتح المسالك نحو الأجمل والأرقى".

إنّنا حين نقرأ نعيش مرّتين.. إذ لا يستوى الذين يأخذون الكتاب بقوّة فيطالعون والذين لا يطالعون فيظلّون فى منزلة العيش البيولوجيّ الفقير رمزا ومعنى.. نقرأ لأنّنا نُحب الحياة، فنجتهد لنعرف أنفسنا، وندرك رهان وجودنا فى الكون.

نقرأ لأنّنا نحلم بعالم أفضل، ونعمل على تغيير واقعنا وتحقيق أحلامنا.

نقرأ لأنّنا نتشوّف إلى حرّيتنا فى دوحة الكتب الوارفة.

نقرأ لنعيش مرّتين بل مرّات مع كلّ كتاب جديد نلتقى فيه بإخوتنا فى الإنسانيّة فنشاركهم ثمرات عقولهم ونحاورهم فى صمت المتأمّلين فنحاور أنفسنا فى مرايا مدادهم".


2- المرأة على رأس الندوات

المرأة فى تونس هى محط أنظار جميع نساء الوطن العربى، وتونس هى من أكثر البلدان التى تحدت كل الأعراف، ووقفت فى وجه الرجعية الفكرية، لإعطاء النساء حقوقهن، وعليه فقد تم تغيير قوانين الميراث والزواج الثانى، ووقفت تونس فى مهب كل الانتقادات، قادرة على رفع راية النساء عالياً.

ومن هنا اهتم معرض الكتاب أيضا بأن تكون هناك ندوة يومية بعنوان (نساء بلادى نساء ونصف)، وكان لى شرف أن أشارك بإحدى هذه الندوات كمتحدثة مع مجموعة من الكتاب على رأسهم الروائية روز الحسن من سوريا، وواسينى الأعرج من الجزائر، وسهير المصادفة من مصر، وآمال مختار من تونس، التى أدارت الجلسة، فى ندوة بعنوان (المرأة تكتب عن المرأة..أى خصوصية)..

الغريب أن الإقبال على الندوات لم يكن كبيرا، وفى بعض الندوات كانت القاعات شبه خاوية لكن امتازت ندوتنا هذه بحضور غفير، ومشاركة فعالة من الجمهور، لكن وللأسف فإن أغلب الندوات التى تتعامل مع الجندرة والأقلام النسائية، تنتهى باشتباك بين الأديبات، والحضور بسبب الاضطهاد والمجتمعات الذكورية، وهو ما لا أراه حقيقيا، فقد اتهمت الروائية التونسية آمال، والمصرية سُهير، الأدباء الرجال أنهم ضد أدب المرأة، وأنه غير مقروء.. وهو فى الحقيقة ما أراه مجرد شماعة، لأن الأدب أدب بغض النظر عن نعومة أو خشونة القلم، وأنا شخصيا كتب عنى ووقف بجانبى الكثير من الأدباء الرجال فى بداية حياتى، منهم الأديب جمال الغيطانى، ولم أشعر أبدا بهذا الاضطهاد الأدبى الذكورى، بل العكس صحيح، وهو ما ذكرته بالندوة.


3- الأطفال هم الأمل

لاحظت أيضا أنه كان هناك اهتمام واضح من القائمين على المعرض بأدب الأطفال، وبتثقيف الأطفال بوجه عام، حيث كانت رحلات المدارس تأتى كل يوم بحافلات كبيرة تحمل الأطفال، فى محاولة مهمة لدفعهم إلى أحضان الثقافة.

كما أنه على هامش المعرض كان هناك جزء مخصص لعقد ورش عمل للأطفال، باستخدام خامات لصنع أشياء مفيدة، وامتاز المعرض أيضا بورش الحكى التى يشارك فيها مجموعة من كُتاب روايات الطفل.

كانت ضيفة المعرض كاتبة الأطفال المصرية الموهوبة سماح أبو بكر عزت، التى التف حولها الأطفال فى حميمية شديدة، وهى تروى لهم حواديت سطرتها بذكاء شديد، وموهبة تدل على أن (ابن الوز عوام).

تحدثت معها وهى تحكى أمامى بكل حب وحماس، كيف التقطت صورة صبى صغير تعيس من قلب شوارع تونس وهو يبيع علب المناديل، وبعد حوار قصير معه حفظت الصورة وخزنتها فى ذاكرتها، لتبنى عليها قصة (حمادة صانع السعادة) عن الأطفال الذين فقدوا المحبة والأمان، بسبب قسوة الزمان.


4- كتاب أثار الجدل

تحت عنوان (كتاب مثير للجدل) أقيمت ندوة يوم الأربعاء 11 إبريل، وهى الندوة التى أثارت جدلا حقيقيا، وكانت نسبة الحضور فيها طاغيًا حتى اضطر الحاضرون إلى الوقوف لعدم توافر أماكن للجلوس من شدة الزحام.

الندوة كانت لمناقشة كتاب (صحيح البخارى نهاية أسطورة) لكاتب مغربى هو رشيد إيلال، وهو الكاتب الذى تلقفته الأصوات المتشددة فى المغرب وتونس، بالرفض والتنديد والوعيد وطبعا الاستنكار..

الكتاب عبارة عن إعادة النظر فيما كتبه العديد من المفكرين والباحثين فى كتب الصحاح (البخارى ومسلم)، من منظور نقدى معتمدين فى ذلك على مقاربات مختلفة، وآخر هؤلاء الدارسين هو المغربى رشيد إيلال، الذى قرر أن يصدر مؤلفا ينزع فيه عن البخارى صفة الأسطورة، ويثبت فيه بالدلائل والوثائق المصورة داخل الكتاب ضعف الأحاديث التى استندت إليه.

بدأ الكاتب حديثه مفندا الآراء التى كتبها متحديا أى من المتبحرين فى الدين، بأن يأتوا بدلائل تفوق دلائله، أو تعضد موقف المؤيدين عن رجل توفى بمئات السنين قبل جمع الأحاديث، وذكر أن الرسول (ص) رفض أن تُجمع الأحاديث فى حياته، لأنه كان يخشى أن تصبح هى المرجع، حيث المرجعية الوحيدة للقرآن الكريم، وهنا هاجم الكاتب مجموعة من رجال السلفية المتشددة متهمينه بالفسوق، والخروج عن الآداب العامة، واحترام الدين الإسلامى، وكادت الندوة أن تنتهى بمعركة لولا لباقة الكاتب الذى احتوى الموقف.


5- وتبقى الكلمة

فى النهاية وعلى الرغم من هجوم الكثير من الأقلام على المعرض، ووصفه بسوء الإدارة، وضعف التنظيم، إلا أننى أراه محاولة جيدة للإبقاء على التراث الفكرى والثقافى بدولة من الدول التى صنعت الحضارة، والحقيقة أيضا أنها محاولة حتى لو كان بها بعض الهفوات، إلا أن الحفاظ على إقامة المعرض ومحاولة صموده وسط المعارض العربية الكبيرة، هى نقطة إيجابية تُحسب للقائمين عليه.

فالكلمة كانت وستبقى أبدا هى السفير الحقيقى للأوطان وهى الواجهة المشرفة لأى دولة تبحث عن الارتقاء.