د. رشا سمير تكتب: 20 عامًا على رحيل الدمشقىي صانع أبجدية الياسمين

مقالات الرأي



قرر أبناء سوريا أن يجعلوا من جنازة شاعرهم العظيم نزار قبانى جنازة شعبية لا مثيل لها


عشرون عاما مضت على آخر شاطئ رسوت عليه وشيدت فوق رماله قلعتك الأخيرة..

عشرون عاما مضت منذ ارتحلت وتركت وراءك أراملك متشحات بالسواد..

عشرون عاما مضت منذ نحيت القلم جانبا وأغلقت دفاترك القديمة وأغمضت عينيك.. عشرون عاما مضت بعد أن ختمت جواز سفرك الدبلوماسى بختم آخر أرض قررت أن تسكن إليها وترتاح.. أرض الياسمين.. سوريا.

اليوم قررت أن أجلس فى حضرتك وأكتُب عنك فى ذكراك.. قررت أن أُلملم أزهار الياسمين التى كنت تجدلها بقلمك أطواقا وتُلقيها تحت أقدام النساء، ألملمها لأنثرها على قبرك يوم 30 أبريل أو دعنى أقول.. 30 نيسان.. شهر الربيع الذى تورق فيه الزهور وتولد فيه أبيات شعرك.. الربيع الذى شهد ميلادك وسقطت أوراق أشجاره يوم وفاتك حزنا عليك.. كأن الربيع يومها قرر أن يودعك مرتديا ثياب الخريف.

بعد أيام تعاودنا الذكرى العشرون لوفاة شاعر الحرية والمرأة وعشق الأوطان.. السفير الدمشقى الذى خلع ملابس السفراء وارتدى القلم سلاحا فى فتوحاته ضد الأوطان العربية المُمزقة والرجعية الثقافية، الشاعر الذى ركب الكلمات سفينة وحمل معه على متنها آلاف النساء ليمنحهن حرية التعبير وكسر الأعراف..

إنه الشاعر الذى أمضى عُمره فى خوض معارك منحته الخلود بين صفحات الدواويين..

إنه نزار قبانى.. العاشق الدمشقى.

يوم وداعه بالزهور:

كان اليوم مختلفا فى الطرف الشرقى من حى المالكى بدمشق.. ذاك الحى الراقى الذى تتجمع فيه السفارات وبيوت الأثرياء.. جلست السيدات فى حديقة الجاحظ المُطلة على جامع بدر متشحات بالسواد يبكين بحرقة.. إنهن يبكين رحيل قائد ثورات تحرير النساء.. الرجل الذى منحهن الحرية بسن القلم.

عندما اقترب موعد صلاة العصر كانت الساحة قد امتلأت بجموع البشر الغفيرة..

وقفت العربة التى كان من المفروض أن تحمل الجثمان فى انتظار انتهاء الصلاة وسط حراسة مشددة وعدد لانهائى من رجال الأمن والاستخبارات، فالرجل الذى كان سلاحه القلم استطاع أن يبث الرعب بحروفه فى وجه كل من يحملون السلاح!..

هنا يقرر الشباب تحدى النظام، فيتلقفون النعش ويطيرون به بعيدا.. يقذفونه من يد إلى أخرى.. كل من حمل دواوينه قرر اليوم أن يحمل جثمانه..

حاول رجال الأمن الانقضاض عليهم، دون جدوى.. فقد قرر أبناء سوريا أن يجعلوا من جنازة شاعرهم العظيم نزار قبانى جنازة شعبية لا مثيل لها..

بدأت الجنازة من أمام المسجد سيرا على الأقدام لمدة ساعتين تتقدمهم ابنته هدباء، وامتلأت الشرفات بالبشر يقذفون على النعش الزهور وينثرن حبات الأرز، والنساء يطلقن الزغاريد مع الصوت الهادر: لا إله إلا الله..

إنها المرة الأولى التى تشارك فيها النساء بالجنازات بمثل هذه القوة والتواجد المخيف.


1- بالألم يغزل الكلمات

نزار قبانى.. ابن توفيق قبانى أحد رجال الثورة السورية وصانع الحلوى الذى تأثر نزار بخطواته.. فكانت حلاوته تتغلب على ضراوة الواقع.

«أم المعتز» فقد كانت بحسب ما وصفها نزار، هى خير نساء الأرض ومالكة مفاتيح الجنة.. كتب يصفها ويمتدحها ويغزل طفولته بين يديها بمغزل من العشق..

تزوج نزار من سيدة سورية تُدعى زهرة وأنجب منها توفيق وهدباء وزهراء.. ثم تزوج حُب عمره العراقية بلقيس التى أنجب منها عُمر وزينب.. ولا يخفى على أحد قصته مع الشاعرة اللبنانية كوليت خورى التى روتها فى رواية بعنوان «أيام معه».

طالما فاجأت الحياة نزار بمصائب أثقلت قلمه وجعلته يقطر الدم بقلم حزين.. وفاة أخته وصال ورحيل أمه التى كان متعلقا بها.. ثم مقتل زوجته بلقيس التى كان يعشقها وكأنه طفلها المدلل، وأخيرا الضربة التى أصابته فى مقتل وهى وفاة ابنه توفيق وهو لم يتجاوز السابعة عشر من عمره..

المؤسف حقا أن الألم فى حياة أى كاتب هو المُلهم الأكبر له ليسطر ويحكى ويُخرج مشاعره الفياضة على الورق..


2- فى وصف الشعراء

ترك الحقيبة الدبلوماسية من أجل الكلمات.. فكتب يقول مبررا فعلته:

«إن الشُعراء-السفراء الذين يتوهمون أنهم إذا قدموا أوراق اعتمادهم إلى الملكة إليزابيث أو إلى الرئيس نهرو أو إلى الرئيس شارل ديجول أو إلى الخديوى إسماعيل سوف يدخلون الجنة.. هم واهمون.. لأن الجنة الحقيقية هى جنة الإبداع.. ولأن مجد الشعر أهم بكثير من مجد حرس الشرف والعربات المذهبة والجياد المطهمة التى تحملهم إلى القصور..

القصيدة الجيدة التى يكتبها الشاعر هى ورقة اعتماده إلى الإنسانية كلها.. أما الأوراق الأخرى إلى أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة.. فهى كتابات على الريح سوف تمحوها الريح!».


3- العاشق الدمشقى يكتب عن بيروت

ابن دمشق الذى كتب عن نفسه ليقول: أنا الدمشقى ولو شرحتم جسدى لسال منه عناقيد وتفاح، قرر أن يكتب عن بيروت.. فبيروت التى عاش على أرضها طويلا واحتضنته بكل الحب أصبحت جزءا من وجوده.. فكتب عنها يقول:

««كانت بيروت فى مرحلة ما قبل الحرب الأهلية سيدة المدائن بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. كانت الكتابة فيها عُرسا يوميا يشارك فيه البحر والجبل ورائحة الصنوبر.. فقد كانت مساحة الحُرية فى لبنان أكبر من مساحة أوراقنا ودفاترنا وأكبر من مساحة أحلامنا وتوقعاتنا.. كنا نكتب عن زرقة البحر، فيلتقط قصائدنا الصيادون على شواطئ جزيرة قبرص.. ولأن بيروت كانت أكبر من الحرية نفسها تفجرت!.. ولأنها أسرفت فى عرض جمالها وأنوثتها وتقاطيع جسدها الجميل فى منطقة تحكمها الذكورة والعادات الجاهلية والحرمان الثقافى.. دلقوا عليها البنزين وأحرقوها حية.

لبنان الحقيقى هو لبنان الذى يقرأ الشعر، لا لبنان الذى يحمل الكلاشينكوف».


4- شرارة الشعر الأولى

لم يحلم نزار يوما بأن يصبح شاعرا ولكنه وجد نفسه دون أن يدرى مزروعا فى قلب الأغنية العربية.. الشرارة الأولى انطلقت من بكين، عاصمة جمهورية الصين الشعبية التى عمل فيها دبلوماسيا عام 1958.. لم يكن سعيدا بالعمل فى الصين فأصبح محاصرا باللون الأصفر فى كل مكان.. لون الشيوعية.

فكر طويلا ماذا يفعل ليكسر وحشة اللون الأصفر؟.. فقرر أن يكتب قصيدة حُب وردية..

وخرجت خربشاته عن المطر لتقول:

«أيظن أنى لعبة بيديه؟.. . أنا لا أفكر فى الرجوع إليه.. . اليوم عاد.. كأن شيئا لم يكن وبراءة الأطفال فى عينيه.. حمل الزهور إلى، كيف أرده؟.. وصبايا مرسوم على شفتيه».

ارتعشت القصيدة بين يديه، فخرج إلى الشارع فرحا كالطفل يبحث عن صينى واحد يقرأها له، فلم يجد أحدا ليسمعه، خافوا منه وظنوا أنه يوزع منشورات ضد النظام الشيوعى!

عاد إلى منزله والفرحة مازالت تجتاح مشاعره لا لأهمية القصيدة بل لأن حماسه لها كان يشبه حماس الأم التى وضعت طفلها.. وفى تلك اللحظة قرر أن يكون الاحتفال بمولد تلك القصيدة مفردا.. هو ونفسه!


5- شكرا لأنك اخترت الشعر

فى عام 1954 جاء رجل مغربى إلى دار القنصلية السورية فى لندن بشارع كينسينجتون بالاس جاردنز، حيث كان نزار قبانى يُدير القنصلية، وقعَ نزار له على التأشيرة، فعاد مرة أخرى طالبا مقابلته.. استغرب نزار أكثر حين أخبرته السكرتيرة، أن الرجل سألها عما إذا كان هذا الذى وقع التأشيرة هو نزار قبانى الشاعر نفسه أم لا؟!.

دعاه نزار للجلوس.. ولكن الرجل الأسمر الطويل رفض ووقف فى منتصف الغرفة وفى عينيه شهوة واضحة للقتال.. وفجأة دون مقدمات قال بلهجة تغلب عليها التوتر والانكسار:

«يا سيدى الشاعر، ولا أقول يا سعادة القنصل، لأن كل الألقاب الأخرى المضافة إلى اسمك كشاعر لا تهمنى.. قل لى بالله عليك، ما الذى تفعله وراء هذا المكتب؟ هذا عمل يقوم به أى موظف من العصر العثمانى أو أى كاتب عرضحالات.. أما أنت، فشاعرنا وصوت ضميرنا والناطق الرسمى باسم أحلامنا وهمومنا العاطفية والقومية.. أتوسل إليك باسم الأجيال العربية أن تترك هذا المكان فورا وتبقى عصفورا يوقظ الشعوب من غيبوبتها، ويغنى للحرية من المُحيط إلى الخليج».

خرج الرجل دون كلمة وداع.. ذهب دون أن يذهب.. لأن كلماته ظلت تطارد نزار قبانى لمدة 12 عاما حتى ظهر له مرة أخرى وهو يلوح له بمنديله وقتما كان على ظهر السفينة فى ميناء برشلونة منتظرا الرحيل إلى بيروت..

وقف وعلامات الانتصار واضحة على وجهه على الرغم من الدموع التى ملأت عينيه.. وحين بدأت السفينة تتحرك، تبعثرت أصداء كلماته فوق الرصيف وهو يقول:

«شكرا لك أيها الشاعر.. شكرا لأنك إخترت الشعر».

وختاما.. لك ألف سلام:

«خمسون عاماً.. وأجزائى مبعثرةٌ.. فوق المحيط.. وما فى الأفق مصباح

تقاذفتنى بحـارٌ لا ضفـاف لها.. وطاردتنى شيـاطينٌ وأشبـاح

أقاتل القبح فى شعرى وفى أدبي حتى يفتـح نوارٌ.. . وقـداح

ما للعروبـة تبدو مثل أرملةٍ؟ أليس فى كتب التاريخ أفراح؟

والشعر.. ماذا سيبقى من أصالته؟ إذا تولاه نصـابٌ .. . ومـداح؟

وكيف نكتب والأقفال فى فمنا؟ وكل ثانيـةٍ يأتيـك سـفاح؟

حملت شعرى على ظهرى فاتعبنى ماذا من الشعر يبقى حين يرتاح؟»

رحلت سيدى وبقيت الكلمات.. رحلت بعد أن منحتنا الحرية أطواقا من الياسمين.. رحلت بعد أن تنبأت بوفاة العرب.. فسلاما عليك يا ابن دمشق أينما كنت..

سلاما سيدى.. ألف سلام.