د. رشا سمير تكتب: من الميدان إلى نوبل.. تاريخ من التحرش

مقالات الرأي



المجتمع يسمح للرجال باحتلال الشارع.. وأقنع المرأة بأنها الطرف الأضعف فى المعادلة دائمًا


انتقلت كالفراشة من الزهور إلى الميادين.. تركت الظل لتلتحف بالسماء الرحبة.. كسرت الأصفاد لتبحث عن حريتها.. حلت ضفائرها وقالت: لا مزيد.. خلعت حذاءها ولم تبحث عن الأمير ليرده إليها بل قررت أن تسير حافية..

كلما اقتربت من القمر احترقت بضيائه.. وكلما ابتعدت عن النور حرقتها الألسنة.. كلما طالت عنان السماء امتدت إليها الأيدى لتقذفها بالطوب..

هذه هى المرأة.. المرأة فى كل زمان ومكان.. المرأة فى الشرق والغرب.. من اليمين إلى اليسار.. من بلاد تركب الأفيال إلى بلاد هزمتها الشمس.. مجرد إنسان يبحث عن حريته وكيانه.. إنسان يبحث عن الاحترام..

توارت المرأة طويلا خلف الحرملك.. وضعها الرجال فى أقفاص الإماء ليتطلعوا إليها بشغف القناص، متلذذين بضعفها، منقضين عليها وقتما يحلو لهم بمخالب زائفة، وهى فى حالة صمت.

تحملت الصمت طويلا.. ثم قررت أن تعترض.. قررت أن تبوح.. وأخيرا قررت أن تهجم عليهم بشراسة وتتحول من مجرد حمل وديع إلى أسد يزأر بكل قوة..

طالما تعامل الرجال مع المرأة لكونها كائنا ضعيفا وهشا.. من هنا ظهر فعل «التحرش».

إلى أن كسر النساء حاجز الخوف ورفعن أصابعهن فى وجه الرجال وصرخن:

«Time’s Up.. لن نقبل المزيد من التحرش»!.

لم تكن مجرد دعوة لكنها كانت بمثابة صحوة.. صحوة الجنس الناعم.

حين انطلقت دعوة من قلب هوليوود تحمل هاشتاج بعنوان Me Too.. أخرجت كل ممثلات هوليوود ما فى جبتعهم من قصص لم يتصورها أحد.. قصص أدانت مخرجين وممثلين وكتاب سيناريو عظماء، بعضهم لعب دور الأب الحانى، وآخر كان المخرج الذى احتضن الوجوه الشابة، وهذا زوج ورب أسرة له تاريخ طويل من الاحترام..

الدعوة جعلت عشرات النساء تعترف وتحكى دون خوف.. ثم أصبح الهاشتاج أيقونة، والأيقونة تحولت إلى قضية عامة.


1- من الفن إلى الأدب

لم تستغرب الأوساط الفنية وجود تلك الحالات الكثيرة من التحرش الجنسى داخل أروقة الاستوديوهات وخلف الكاميرات، أما أن تنتقل العدوى إلى الأدب، فهذا كان الضربة القاضية بالنسبة إلى كل الأعراف والأوساط المتحفظة.

فقد أكدت الأكاديمية السويدية إلغاء جائزة نوبل للأدب لهذا العام، للمرة الأولى منذ عام 1943، بسبب العديد من الاتهامات والقضايا التى وجهت نحو الأكاديمية، والتى «شوهت» سمعة الجائزة، على حد قولهم.

انتشرت مؤخرا الكثير من التقارير التى تؤكد حدوث انتهاكات جنسية، وفضائح مالية، لتقرر الأكاديمية إلغاء الجائزة لهذا العام، على أساس أنها ليست فى وضع يسمح باختيار فائز، وستكون هذه هى المرة الأولى، منذ الحرب فى عام 1943، التى لم يتم فيها تسليم الجائزة المرموقة.

بدأت الأزمة عندما جلبت الأكاديمية السويدية مُحامين للتحقيق فى ادعاءات 18 سيدة، ضد «جان كلود أرنو»، وهو زوج «كاتارينا فروستنسون» التى تعمل كعضو فى الأكاديمية، حيث وجهت له اتهامات بالتحرش والإيذاء الجنسى.

وعلى أثر تلك الفضائح، تقدم 3 أعضاء باستقالاتهم، هم كلاس أوسترجرين، كجيل إسبارك، وبيتر إنجلند، وهذا يعنى أنه لا يوجد سوى 11 عضوًا نشطًا فى الأكاديمية، والقواعد تتطلب أن يتم انتخاب أعضاء جدد من قبل 12 عضوًا.. وقد وصلت الأزمة إلى ذروتها بعد قرار السكرتير الدائم للأكاديمية «سارة دانيوس» بالتنحى يوم 12 أبريل، مما دفع الملك كارل السادس عشر جوستاف، للتدخل، ووعد بإصلاحات لتمكين الأكاديمية من الاستمرار.


2- التحرش بين جيلين

على الرغم من أن التحرش لم يكن من سمات جيل الستينيات والسبعينيات، ذاك الجيل الذى كانت نساؤه ترتدى «المينى جيب» وبلوزات بلا أكمام، ويجلسن فى مدرجات الجامعة بجانب زملائهم من الشباب دون خوف من تحرش ولا حتى من نظرة جارحة، ويرتدن حفلات الرقص فى النوادى كنوع من التحضر، هذا الجيل يرى أن تردى الأخلاق هو السبب لما نحن فيه الآن، لأن الفقر والملابس لا علاقة لهما بالتحرش، التحرش جريمة كاملة تبدأ بأخلاق الأسرة وتربية الأفراد فيها.

هذا هو رأى جيل مضى، أما رأى جيل اليوم، فقد استمعت إليه من ابنتى ذات الثمانية عشر عاما.. حيث قالت لى بكل ثقة:

«مشكلة التحرش فى مصر لها شقين.. شقها الأول: هو مجتمع يسمح للرجال باحتلال الشارع!.. بمعنى أن الرجل له حق أن يقوم بأى تصرف لائق أو غير لائق فى الأماكن العامة دون خوف من نقد ولا شبهة فجور.

والشق الثانى: هو مجتمع أقنع المرأة بأنها الطرف الأضعف فى المعادلة دائما.. فهى لا تمتلك سوى جسد يجب أن تدافع عنه والرجل أيا كان وضعه أو مستواه أو مكانته، هو الطرف الأقوى دائما فى تلك المعادلة.. حتى إن السيدة التى تم التحرش بها فى ميدان التحرير وقت الثورة، كان أول اتهام واجهها هو: وماذا أتى بها إلى الميدان؟.. والأخرى التى تعرضت للتحرش فى الجامعة، كان أول سؤال واجهته هو: يا ترى كانت لابسة إيه؟!».

هذا يا سادة هو الفرق بين الجيلين.. جيل صمت وابتلع الاتهامات.. وجيل وقف فى وجه الاتهام ورفضه.


3- وشهد شاهد من أهلها

بعد واقعة طرد «هارفى واينشتاين» أحد أكبر منتجى الأفلام وأكثرهم تأثيرا فى الولايات المتحدة، من جميع المناصب والوظائف التى شغلها، على خلفية اتهامات وجهتها له عشرات النساء بالتحرش بهن واغتصابهن، من بينهن ممثلات شهيرات مثل أنجلينا جولى وآشلى جود وجوينيث بالترو.

قررت أن تخرج الممثلة الفرنسية كاترين دينوف عن صمتها، مما أدى إلى صدمة آلاف النساء من ضحايا التحرش الجنسى، فقد أقرت الممثلة الفرنسية دفاعها عن حق الرجال فيما أسمته بمغازلة النساء المشروعة أو إظهار الاهتمام بدون أذى!

وكانت دينوف من بين 100 امرأة فرنسية كتبن رسالة مفتوحة، حذّرن فيها من التزمت الغريب الذى اندلعت شرارته واضحة بسبب فضائح التحرش الجنسى الأخيرة.

كما حملت الرسالة أيضا استياء شديد اللهجة من موجة الإدانة التى طالت العمل السينمائى وهى موجة من وجهة نظرها تحمل الافتراء فى طيها.

كان ذلك عقب إصدار حملة «افضح تصرف الخنزير» فى فرنسا، التى أكد الرئيس ايمانويل ماكرون من خلال تبنيه لها أنه سيعمل على تشديد القوانين المتعلقة بمضايقة النساء والتحرش بهن.


4- تعددت الأشكال والتحرش واحد

تعددت أشكال التحرش والفعل واحد، طال التحرش الجميع، حتى إن هناك دعاوى تحرش أطلقها بعد الرجال ضد النساء، اتهموهن فيها بالتحرش الجسدى والفعلى برجال فى محيط العمل والزمالة!

النسبة الأكبر للتحرش كانت فى محيط العمل، حيث يقضى الموظفون ساعات طويلة داخل غُرف مغلقة، وعادة ما يكون التحرش من المدير بمرؤسيه من الجنس الناعم، حتى لو كان فعلا شفويا بمجرد الكلام أو حتى اللمس غير المقصود.

لم تسلم التلميذات أيضا فى الحرم الجامعى والمدرسى من مضايقات سخيفة ومقايضات تصل فى بعض الوقت إلى التلميح بالرسوب أو النجاح حسب كفاءة الطالبات فى التجاوب مع المدرس المريض.

أما فى محيط الأسرة وخصوصا فى المناطق الشعبية التى تكتظ فيها الأجساد داخل الغرفة الواحدة، انتشر زنا المحارم والتحرش بين الأب وبناته، والأخ وأخته، وأحيانا الأم وابنها!.. وهو فى رأيى أكثر حالات التحرش مرضا وتقززا.


5- أغرب دعاوى التحرش

أغرب واقعة تحرش هى قضية قرر أن يقوم برفعها أحد الرجال ضد صديقه الصدوق.

ما قام محاميه بسرده فى محاضر التحقيقات أن موكله انفصل عن زوجته منذ عام، وبعد عام ونصف العام اكتشف أن زوجته كانت على علاقة بصديق عمره منذ سنوات طويلة تعود إلى عمر ابنهما البالغ خمس سنوات!.. وبالفعل تزوجته بعد الطلاق، لكن الزوج المخدوع قرر أن يعاقب صديقه الذى فتح له بيته وكان رفيقه فى السفر والسهر، حتى إنه كان يتوسط له لدى زوجته وقت الشجار، وهو ما اعتبره الزوج نوعا من التحرش المستتر، فمن المؤكد أن صديق عمره أبدى إعجابه بزوجته مما اعتبره تحرشا لفظيا، وإنه كان يسمح لصديق عمره أن يُقبل زوجته كلما التقيا كنوع من الحميمية والود، وهو ما اعتبره الزوج فى قضيته التى رفعها تحرشا جسديا أدى إلى طلاقهما.

لم تحكم المحكمة بعد فى تلك القضية التى من المؤكد أنها ستُعرف فيما بعد بأنها أغرب قضية تحرش فى تاريخ البشرية.

*****

لا تزال قضايا التحرش تطارد الرجال وستظل دون شك هى ظلهم للأبد.. طالما هناك رجل وغريزة وامرأة.. لكن اليوم أصبح الرجل بحُكم القوانين الجديدة وبفضل شجاعة النساء وقدرتهن على البوح دون خوف من نظرات المجتمع، يُراجع نفسه ألف مرة قبل أن يُقدم على هذا الفعل البغيض.. فالرجل الذى كان أقصى عقوبة ينالها قديما هى أن يفقد شعره بسبب حلقة زيرو، هو نفس الرجل الذى قد يواجه عقوبة بسبب التحرش تصل إلى حد السجن المؤبد!.

نعم.. Times Up لكل النساء العالم..

فقد انتهى وقت الصمت.. انتهى وقت الضعف.. وحان وقت الثورة.. ثورة النساء.