د. رشا سمير تكتب: بدايات المحبة فى التراث الإسلامى والمسيحى

مقالات الرأي




 فى الأوقات التى تعانى فيها المجتمعات من الفوضى، وسطوة أصحاب السُلطة، لا تجد العلاقات الإنسانية من ينظمها.

فى حقب زمنية غابت فيها العقيدة، خلف القوى المُهيمنة بالصولجان، يقع المجتمع فى قبضة الطُغاة، يظلمون ويمنحون وفقا لأهوائهم.


فى مجتمعات كان الفقير فيها ذليلا، والغنى فوق الجميع، فى مجتمعات الأصنام والدنانير والمقايضات والطغاة، نزلت الأديان.

اختار الله سبحانه وتعالى، بشرا من بين الناس، اختصهم بالنبوة، بالرسالة، ثم اختصهم بإقامة دولة العدل.

هكذا جاء «إبراهيم» ليحطم الأصنام بمعوله، وجاء «موسى» ليشق البحر بعصاه، وجاء السيد المسيح ليشفى الأعمى، وجاء «نوح» ليبنى سفينته، ويخلق حياة جديدة حيث ترسو عقيدته، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم، ليختم الأنبياء حاملا رسالة سلام ومحبة، وعدل للعالم بنزول القرآن عليه.

أرسى الأنبياء معالم الأديان، تكبدوا القهر والظلم والتعذيب لتصل الرسالة، وتركوا من بعدهم أجيالا من البشر تاهت بينهم معالم الرسالة، فطغوا واقتتلوا واغتابوا وظلموا، نسوا أن الأديان جاءت بالعدل والسماحة.

هكذا جاء زمان انفلتت فيه أواصر الأخلاق، وماتت الرحمة فى قلوب الناس، هكذا ظهرت الحروب، وأشهر الطُغاة سيوفهم فى وجه الإنسانية، ظهرت الأعلام السوداء المكسوة بدماء الكراهية، ومات الملايين من جراء بشر التحفوا بالأديان، وهم لا يرتقون إلى مستوى تعاليمها.

هذا هو ملخص ما حاولت أن تقوله الدكتورة ليلى تكلا، فى كتابها (التراث المسيحى الإسلامى)، الصادر فى 211 صفحة، وهى سيدة قبطية مصرية تعمل بالسياسة، كما أنها أول سيدة تنتخب لرئاسة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب المصرى، وهى حاصلة على جائزة النيل فى العلوم الاجتماعية، وعضو حالى فى لجنة ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان.

قام بكتابة مقدمة الكتاب الدكتور أحمد كمال أبو المجد، السياسى والمفكر الإسلامى.

1- أصل الحكاية:

تحكى ليلى تكلا، أن قصتها مع هذا الكتاب بدأت منذ كانت فى الثانية عشرة من عمرها، حين وجدت كتابا فى مكتبة أبيها للأب (إبراهيم لوقا) بعنوان (المسيحية فى الإسلام)، وما لفت انتباهها أن الأب لوقا اختار سلك الكهنوت، وكرس نفسه لخدمة العقيدة التى اختارها، والوطن الذى يُحبه، آمن بالمسيحية وتعاليمها السامية، واحترم فى نفس الوقت العقائد الدينية كلها، كان يعبر بإيمانه بالعمل من أجل كل إنسان مريض أو محتاج، أو يمر بأزمة ما، بغض النظر عن انتمائه الدينى، ولم يكن ذلك مستغربا فى ذلك الحين أو استثناء، بل كان أسلوب التعايش القائم على المحبة، والاحترام المتبادل.

وفى عام 2005 وقع لها حادث أصابها بكسور، قضت بسببه وقتا طويلا فى المستشفى شهورا طوالا، جعلها أكثر حساسية وإنسانية، وقتها فى سكون المرض لمست كيف أن تعاليم الأديان ومبادئها تمد الإنسان بالصبر والإيمان، فالمريض أيا كانت ديانته أو توجهه، فهو فى الأول والآخر إنسان يرفع يديه إلى الله فى وقت المحنة، فى هذه المرحلة كتبت د.ليلى تكلا تقول:

«استعاد الذهن كتاب الأب لوقا الذى ظل كامنا فى الوجدان واللاشعور، فوجدت نفسى أمسك القلم لأخط أول سطور هذا الكتاب، وبدأت من فراش المرض أنشر سلسلة من المقالات حول هذه القضية لأبين للناس ما بين العقيدتين من تقارب يجمع بينهما، وهكذا بدأت الكتابة، وكلما أمسكت بالإنجيل أو القرآن، وجدت من روائع القيم النبيلة ما يدفعنى للمزيد من القراءة ومحاولة الفهم.

2- الحرب باسم الدين:

سواء كنت مسلما أو مسيحيا، فلا تجعل للفكر والقلب مكانا للتعصب والكراهية والرفض، إن الفروق بين المسيحية والإسلام أقل مما نظن، والاختلاف بينهما لا يبرر العداوة والقتل والتكفير.

لقد أصبح علينا اليوم أن نعبر تلك الفجوة من سوء الفهم حتى لا يسقط الكثيرون صرعى، وتتسع مسافة الخلاف والاختلاف، الواقع يؤكد أن كلتا العقيدتين بريئة مما يلصق بها من اتهامات.

لقد آن الأوان أن نتخلص من ثمار ما زرعته الصهيونية فى عقولنا من دعوة إلى التنافر والتناحر، وأن يتقبل بعضنا البعض، ونتذكر أن كلتا العقيدتين تؤمن بالتعايش والسلام وتقبل الاختلاف الذى هو سُنة الحياة.

هذا هو ما كنت أنا شخصيا أراه منهجا يجب أن يُدرس فى المدارس، فطالما ناديت بأن تكون هناك حصة عن أخلاقيات الأديان والدعوة المتشابهة فى حصة تجمع المسلم والمسيحى معا، وهو فى الحقيقة ما قررت الدولة اليوم أن تتبناه ضمن خطة تطوير التعليم، فأصبح الحلم حقيقة.

إن الصراع الإسلامى المسيحى الذى خطط له الصهاينة طويلا، أصبح له جزء ثان اليوم، وهو الصراع السنى الشيعى، محاولة لا تنتهى لإحداث شقاق فى منطقة الشرق الأوسط.

3- السلام والصدام:

عاش الكون حروبا مريرة، وعانت البشرية من الكثير، فأعيدت تشكيل الخريطة السياسية للعالم وللعلاقات الدولية، لتُصبح فى العالم قوتان عظيمان تتصارعان على السُلطة، فكان الصراع بين الرأسمالية والشيوعية، واستمرت الحرب الباردة بينهما، فكلاهما يدعى الديمقراطية، متصورا أن مفهومه وصورته عنها هو الأفضل للإنسان.

قامت الحروب هنا وهناك، صراع أطراف غير محددة وغير معروفة تماما، حدث تقسيم متعمد بين الأديان الثلاثة.

هنا يطرح السؤال نفسه: هل بين العقيدة المسيحية واليهودية ما يبررما نراه من تداخل وتضامن ووحدة الثقافة؟ وهل بين العقيدتين المسيحية والإسلامية من الاختلاف والخلاف ما يبرر ذلك الصدام الذى يؤكدونه؟!.

إن الإسلام يكرم السيد المسيح والعذراء مريم، ويضعهما فى مكانة خاصة، ومع ذلك مازالت قوى الغرب تشعل فتيل الفتنة بين المسيحية والإسلام، كما أنه لا يوجد أى اتفاق بين العقيدة المسيحية واليهودية، وذلك التعاطف الذى يُبديه بعض المسيحيين فى الغرب للصهيونية، جاء وانتشر من أجل قيام واستمرار دولة إسرائيل، أى لأسباب سياسية واستراتيجية، واستغل ما تعرض له بعض اليهود على يد النازية.

إنه اتجاه سياسى لا دينى يُستخدم لدعم دولة إسرائيل، ومساندة إسرائيل ليست أيضا هدفا دينيا، إنما هو هدف اقتصادى سياسى استراتيجى يتصل فى المقام الأول بمصالح أمريكية.

 

4- المفكرون والمستشرقون:

لقد صرح برنارد لويس فى نظرياته أن الخطر القادم هو الإسلام تحديدا.

وهنتنجتون الذى أكد أن أساس اختلاف الحضارات هو التاريخ واللغة والتقاليد، يقول أيضا: (لكن أخطر العوامل هو الدين، لأن كل حضارة تستند إلى رؤية دينية، وأن الصراع الحضارى القادم هو صراع دينى).

أما فوكياما فقد جاء بمقولته عن (نهاية التاريخ) التى تؤكد استقرار النمط الغربى، وبالتحديد الأمريكى فى الفكر والحضارة الذى هو أفضلها جميعا، لأنه الوضع الطبيعى الذى سيئول إليه العالم، وهو الذى سوف يتفوق على غيره من الثقافات والعقائد..

على الرغم من كل ذلك فدعونا نقول إن الأديان علاقة بين الخالق والمخلوق وكل ماهو مقدس، وذلك المقدس لا يمكن أن يكون طرفا فى صراع، والأديان تدعو للسلام بين الناس وقبول الآخر.

إن الإسلام على سبيل المثال عقيدة تتقبل جميع الأديان السماوية، وإسلام المسلم لا يكتمل إلا إذا اعترف أن الأديان السماوية الثلاثة منزلة من عند الله سبحانه وتعالى.

الدين الإسلامى بحسب ما جاء بكتاب د.ليلى تكلا، لا يمنع بناء دور العبادة للمسيحيين، بل يكفل لهم الحق فى الحرية الدينية، وهناك العديد من الآيات القرآنية الكريمة التى تُعطى غير المسلم حرية العقيدة، وتؤكد حق المسيحيين فى حرية العقيدة.

جاء فى سورة البقرة (لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).

جاء فى سورة يونس (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

جاء فى سورة النحل (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ).

يشهد التاريخ أن هناك علاقات ودية إسلامية مسيحية بدأت مع الرسول نفسه، قبل نزول القرآن، واستمرت تعبر عن نفسها فى أكثر من صورة ذكرت د.ليلى بعضها مثل:

- جاء فى السيرة النبوية أن أول من تنبأ بنبوة (محمد) صلى الله عليه وسلم منذ صباه كان الراهب النصرانى بحيرى أثناء رحلة له إلى الشام مع عمه أبو طالب.

- فى شبابه وفى رحلة أخرى للشام جلس (محمد) تحت شجرة فى مقر الرهبان، كان معه ميسرة غلام خديجة، نظر راهب إليه وقال: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبى.

- تزوج النبى وهو فى الخامسة والعشرين من السيدة خديجة التى كان ابن عمها ورقة نصرانيا وكان أول من شاركته خديجة نزول الوحى.

- عندما حارب المشركون النبى وأتباعه، طلب الرسول من أتباعه الهجرة إلى الحبشة قائلا لهم: «إن بها ملكا لا يظلم أحداً، فيها فرج مما أنتم فيه».