د. رشا سمير تكتب: الفساد فى عصر محمد علي

مقالات الرأي



الفساد فى الكون كله هو الآفة التى تنخر فى كيان الدول فتُسقط إمبراطوريات وتهدم قلاع وتقتلع أشجار العدالة الإجتماعية من جذورها..

الفساد فى تعريفه الدقيق هو اللهو والإنحلال وعدم إحترام القوانين والأعراف وزوال الأخلاق.

أما الفساد فى مصر..فحدث ولا حرج!.

هو صورة مختلفة..كلمة لها ألف مُبرر..هو المنظومة الوحيدة المتكاملة..هو الخطة الخمسية الأكيدة التى نجحت عن جدارة..هو المؤسسة الوحيدة المتفوقة بإمتياز..وهو البنية الأساسية المتغلغلة فى نفوس كل البشر والتى تقوم عليها كل العصور..

الفساد فى مصر هو تاريخ طويل..هو الأغنية الوحيدة التى تناغم فيها كل أفراد الأوركسترا..

الفساد فى مصر هو ماضى وحاضر وأدعو الله من قلبي ألا يكون له نصيب فى المستقبل.

 
حكاية كتاب:

لفت نظرى وهو قابع فى رف بعيد فوق رفوف المكتبة..كتاب غلافه أحمر اللون عليه صورة حاكم مصر العظيم مؤسس عصر النهضة الحديث..كتاب يتطلع على إستحياء باحثا على يد تلتقطه..إمتدت يدى بعد أن أستوقفنى عنوانه المثير (الفساد فى عصر محمد علي) صادر عن المجلس الأعلى للثقافة فى 266 صفحة من القطع الكبير.

الكتاب يتناول الفساد الذى كان متفشيا فى عصر محمد علي باشا..الرجل الذى أبدل وجه مصر!.

إذن فالفساد فى مصر له سلالة وتاريخ عريق.

بالقطع..لكن وماذا بعد 169 عاما على وفاة هذا الحاكم العظيم؟ هل لازال الفساد مستشريا؟.

الحقيقة أن الفساد أصبح مستفحلا ومستوحلا ومتفشيا!.

الفساد فى مصر ليس فقط فساد مالى ولا إدارى ولكنه فساد أخلاقى وإجتماعى ونفسي..فساد كل شئ وأى شئ..فساد ليس سببه الحكام فقط بقدر ما هو بسبب الأشخاص والنفوس.


صور الفساد:

الفساد فى مصر الآن هو صراع بين البشر، صراع تدنوا فيه إلى أحط المستويات..صراع على السبوبة والمنصب والمال..صراع على المناصب والكراسي والأرزاق.

الفساد فى مصر له ألف صورة.

هو رئيس كل مؤسسة فاشل يجلس فوق كرسي يبدو فوقه مثل القزم لأنه لا يستطيع أن يملأه بوجوده الفعلى تاركا أذنيه للشللية والمحسوبية وإلتفاف حزمة من المستنفعين حوله يبثون سمومهم فى طريق كل محترم أو شريف فى خطة ممنهجة للقضاء على الشرفاء..حتى تم تجريف البلد تماما من كل الكفاءات وهاهى النتيجة تعثر وفشل فى إختيار أعضاء البرلمان والمحافظين والمسئولين..بإختصار الفساد هو إختيار فاشل للمسئولين يترتب عليه إنهيار الدولة يوما بعد يوم.

الفساد هو إهدار مال عام من قبل موظفين الأساس فى تعيينهم هو الواسطة والمحسوبية.

الفساد فى مصر هو السبوبة التى يجرى ورائها الجميع فيسيئون لإسم الوطن العظيم ويجذبونه إلى أسفل.

الفساد هو تجار يتلاعبون بالأسعار ويتاجرون فى قوت الشعب دون خوف من ردع ولا عقاب.


الفساد هو كل معلم قصر فى تعليم طُلابه ليستدرجهم إلى الدروس الخصوصية.

الفساد هو إتحاد الكرة المسئول عن إهدار أموال الدولة والذى تسبب بشكل مباشر فى هزيمتنا النكراء فى كأس العالم بكل إستهتار، هو لاعبين ندهتهم نداهة الشهرة والإعلانات فأنستهم أنهم يحملون إسم مصر ولابد من عقابهم دون رحمة.

هذا هو الفساد فى بعض صوره اليوم فى مصر وعودة إلى الكتاب..
 

ما قبل محمد علي:

الكتاب الذى بين أيدينا اليوم هو بحث وثائقى للدكتور رزق نوري الباحث بمركز تاريخ مصر المعاصر بدار الوثائق المصرية..وهو مجهود يجب أن نشكره عليه ومحتوى شيق لتاريخ طويل يستحق القراءة.

فى نهاية القرن السابع عشر الميلادى بدأ الضعف يسرى فى إدارة الدولة المصرية مما شجع موظفي الإدارة على ممارسة أفعال الفساد الإدارى مؤديا إلى حدوث أزمة إقتصادية طاحنة..وفى عام 1691 شهد ديوان الروزنامة إختلاسات كبرى قام بها رئيس الديوان.

لم يكن إختلاس الأموال هو المظهر الوحيد بل قام الموظفون بإختلاس الحبوب من الشون الحكومية..حتى أن فساد كبار الموظفين كان بدعم وتأييد النُخبة الحاكمة التى نظرت إلى مصر بإعتبارها مُباحة لهم ولأتباعهم.

حتى أن المؤسسة القضائية فى العصر العثمانى لم تسلم من أشكال التجاوزات، فأصبح القادر من المتخاصمين يستطيع شراء ذمة القاضى ويحصل على الحُكم لصالحه!.

ومع تراجع سلطة البشوات الأتراك وسيطرة المماليك على المناصب الإدارية تدهور الجهاز الإدارى للدولة سريعا.


نظرة الوالي:

كان أول القرارات التى أصدرها محمد علي بعد توليه حكم مصر من واقع إدراكه أن الإصلاح الإقتصادى والإدارى مرهون بقدرته على السيطرة التامة على الإدارة، هو تحجيم دور قدامى موظفى الإدارة.

كما قام بإلغاء نظام الإلتزام الذى وضع أسوارا بين الدولة وبين الفلاح.. فكان الملتزم هو الوسيط بين الدولة والفلاحين حتى أصبحت سُلطة الملتزمين أقوى من سُلطة الحكومة فى الريف..وبهذا الإجراء أصبحت العلاقة مباشرة بين الشعب والحكومة لأول مرة منذ ثلاثة قرون.

سعى محمد علي أيضا إلى السيطرة على الإدارة الصناعية للدولة بإحتكارها مستفيدا من الظروف المُحيطة بالصناعة فى تلك الفترة مثل إستفادته مثلا من الشكاوى التى تقدم بها الحرفيون إليه يطلبون العون فى التخلص من رؤسائهم فى الطوائف ويطلبون إنضمامهم للعمل فى الحكومة.. ورغم إحتكار الصناعة إلا أنه حافظ على طابع الإنتاج الحرفي، فاستمر الحرفيين بمهنهم البدائية فى عملهم بعد أن زودهم بالمواد الأولية التى يعيدونها إليه بعد تصنيعها مقابل أجور تُدفع إليهم.

كما أنشأت الدولة عددا من المصانع..ثلاثة مصانع لنسج الصوف فى بولاق ودمنهور وفوه..وآخر للحرير فى الخرنفش ومصنعا للسكر عام 1816، وأنشأ أيضا فى القاهرة مصنعا للحبال بعد بناء ترسانة بولاق.

وفى إطار سعييه لتطوير الإدارة بالمصانع قام بإستقدام الخبراء والفنيين وفتح مصانع للأجانب الوافدين إلى مصر..وبنجاح الدولة فى هذه المرحلة فى بسط نفوذها الإدارى على القطاعين الزراعى والصناعى، والقضاء على نفوذ الكوادر الإدارية القديمة كانت قد هيأت المؤسسات الحكومية للمرحلة الثانية والتى قامت فيها الدولة بإعادة هيكلة وتنظيم الإدارة.


المرحلة الثانية:

لا شك إن إعادة بناء المؤسسات الإدارية والإقتصادية فى دولة تسعى نحو النمو الإقتصادى هو ضرورة مُلحة، فكانت سياسة محمد على تسير فى خطين متوازيين، بينما يتوسع فى شبه الجزيرة العربية والسودان وبلاد الشام، كان يقيم المصانع ويحفر الترع ويستصلح الأراضى الجديدة من أجل زيادة موارد الدولة.

كانت إستراتيجية الدولة فى إعادة بناء وهيكلة الإدارة تقوم على ثلاث مرتكزات وهى:

سن القوانين- التنظيم الإدارى- وتنظيم العلاقة بين الأهالى والموظفين.

كان الوالي يسعى إلى الإستفادة من الخبرات المحلية فى الأقاليم فإذا ما صادفته مشكلات إجتماعية وإقتصادية أو إدارية كان يسعى لعقد مجلس مؤقت..وهو مجلس يُعقد من أهل الخبرة لمناقشة قضية محددة وإيجاد حلول لها.

قام محمد على بتفعيل اللوائح والقوانين التى زادت من إختصاصات مديري الأقاليم بما يحقق السرعة فى إنجاز الأعمال والتنبيه عليهم بعدم إرسال الإستفسارات إليه عما يجب أن يفعلوه طالما أن بأيديهم لوائح وقوانين تنظم أعمالهم.

وإدراكا من الباشا بأهمية وخطورة بعض الوظائف الكبرى، لم يكن الوالى ينفرد بإتخاذ قراره دون الرجوع إلى أهل الخبرة لمساعدته فى تعيين الكبار مما خلق مناخا للنقاش والحوار أثناء عملية التوظيف.


أسباب وتداعيات الفساد:

حددت الدراسات والوثائق أسباب الفساد الإدارى فى عصر محمد علي بعدة نقاط محددة وهى:

إضطراب الإدارة بسبب ضعف القائمين عليها..التحالف مع أصحاب النفوذ والمحسوبية مما يترتب عليه قتل الكفاءات..أساليب جباية الضرايب، فعندما كانت الحكومة تريد جباية الضرايب كانت توجه أوامرها للنظار الذين يتعرضون للعقاب فى حال تهاونهم وبالتالى فهم يصبون غضبهم على مشايخ القرى الذين يقومون بدورهم فى معاملة الفلاحين المساكين.

كما أن تذبذب قيمة العُملة لوجود خليط من العملات مثل العملة التركية والمصرية والأجنبية جعل هناك تفاوتا كبيرا أدى إلى إضطراب واضح.

ترتب على هذا الفساد الإدارى عدة مظاهر منها الإختلاس والرشوة والسرقة والتزوير وبالتأكيد الفساد الأخلاقى.

وأخيرا تأتى الإنتفاضات كجزء من نتائج الفساد على المستوى الإجتماعى..وعليه فقد شهدت البلاد فى هذه الفترة عدة إنتفاضات والتى كانت تبعية متوقعة لفساد الإدارة.

بداية ثار الفلاحون فى الوجه البحرى عام 1823 ضد التجنيد والضرائب الباهظة، وفى الشهور الأولى لعام 1824 إندلعت أعمال عصيان فى الصعيد، وعندما وُزعت أموال على المُحرضين حدث إنقسام داخل صفوفهم واختفى زعيمهم.

أما أطول إنتفاضة فى الريف فهى تلك التى وقعت فى أبيار بالمنوفية فى أواخر عام 1844 وتزعمها عمدة "الفرستق" ويدعى حسب الله الديهى وجمع حوله مئات الفلاحين بعد أن إمتنع عن دفع الضرائب وهاجم شون الحكومة واستولى على ما بها من غلال وبعد عدة سنوات تم القبض عليه وسارعت الحكومة بشنقه.

هذا الكتاب الوثائقي هو تأريخ لمرحلة هامة إزدهرت فيها مصر على يد حاكم قوى وأسقطها الفساد.