د. نصار عبدالله يكتب: السيف والنار فى السودان "2"

مقالات الرأي



مازلنا مع كتاب «السيف والنار فى السودان»، لسلاطين باشا، وهو كما ذكرنا ضابط نمسوى عمل فى خدمة الحكومة المصرية التى عينته حاكما لدارفور، وعاصر خلال حكمه لها عددا من الأحداث الهامة من بينها ثورة سليمان بن الزبير، ثم بعد ذلك ثورة المهدى التى تعد إحدى اللبنات الأولى لتلك الحركات التى تستهدف إحياء الخلافة الإسلامية بالقوة المسلحة، وكتاب سلاطين باشا الذى مازلنا نتكلم عنه يعد من أهم الشهادات التاريخية الحية التى تؤرخ للسودان فى تلك السنوات الحافلة بالقلاقل والأحداث والتى لا يكتفى فيها المؤلف بذكر الوقائع السياسية بل يتطرق أيضا لوصف سائر جوانب الحياة السودانية فى تلك الحقبة والتى ربما ما زال جانب كبير من مورثوتها باقيا إلى الآن!!، ومن بين تلك الموروثات الخلافات بين القبائل خاصة ما ينتمى منها أو بالأحرى ما يزعم أنه ينتمى إلى أصول عربية وتلك التى تنتمى إلى أصول زنجية خالصة ومن أمثلة هذا الخلاف ما يذكره سلاطين باشا من خلاف قبائل الجعالين والدناقلة من ناحية وبين تلك القبائل الزنجية التى كانت تسكن فى مديرية بحر الغزال والذين كانوا مجموعة مختلفة من القبائل، كل منها مستقلة عن الأخرى حتى جاءهم عرب الدناقلة وعرب الجعالين فاتحين لمناطقهم بغية الاتجار بهم كعبيد، لكن سرعان ما اشتعل الخلاف بين الجعالين والدناقلة أنفسهم رغم أنهما كلاهما من أصول عربية فيما هو مفترض وقد جاءوا إلى أرض الزنوج لكى يتخذوا منهم عبيدا، فالجعالين ينسبون أنفسهم إلى عباس عم النبى ويفخرون بهذا النسب ويباهون الدناقلة به، ولا يكتفون بهذا بل إنهم يزعمون أن الدناقلة ما هم إلا سلالة عبد يدعى دنقل، وقد ارتفع هذا العبد فى ظروف معينة إلى أن أصبح حاكما للنوبة، وأسس بلدا أسماها دنقلة التى أصبحت فيما بعد موطنا لسكانها من الدناقلة الذين ظلوا يؤكدون ويفخرون بنسبهم العربى، لكن الجعالين لا ينفكون يذكرونهم بأنهم أحفاد العبد دنقل ويعاملونهم من ثم بمنتهى الاحتقار والازدراء، وعندما زار القائد الإنجليزى: «جوردون» مدينة دارفور للمرة الثانية وتحقق من أن تجار الأبيض السودانيين يبيعون الأسلحة والبارود للثائر سليمان، وكانوا بالطبع لا يتعاطفون معه إلا لما ينالونه منه من الربح!، حيث كانت الذخائر ترسل بواسطة الجلابة أو صغار التجار بين الأبيض وبحر الغزال، وكان هؤلاء يربحون منها ربحا عظيما، إذ كان ثمن البندقية ذات الأنبوبتين يتراوح ما بين ستة إلى ثمانية عبيد، وكان ثمن صندوق الخرطوش عبدا أو عبدين!!، وقد حاول الموظفون فى الأبيض وقف هذه التجارة الآثمة، لكن المصاعب التى كانت تواجههم كانت تفوق ما لديهم من الإمكانات المحدودة!، حيث كانت قبائل العرب الرحل تسكن المراكز الواقعة بين كردفان وبحر الغزال، وكان من بين هذه القبائل العربية قبائل قوية مثل قبائل الرزيعات والحوازمة والحمر والمسيرية، وكان من السهل على التجار الجلابة أن يخرجوا قوافل صغيرة تختبىء فى الغابات الكثيفة التى لم يكن يسكنها أحد، وإذا اتفق أن موظفا مصريا التقى بهم، فإنه كان عليه أن يوازن بين أن يتلقى رشوة مناسبة ويتركهم، أو أن يتلقى انتقامهم!، وفى الغالب فإنه كان طبعا يختار الرشوة!، ولأن جوردون كان يعرف كل ذلك فقد أمر بوقف التجارة بكل أنواعها بين بحر الغزال والأبيّض، وأمر كذلك التجار بترك المراكز الواقعة جنوب الأبيّض والطوبشة وطريق دارة، وحصر تجارتهم فى الجزء الشمالى والغربى ما دامت الحرب دائرة فى بحر الغزال. كما أمر المشايخ العرب بأن يقبضوا على التجار الجلابة ويرسلوهم بالقوة إلى دارة وطوبشة وأم شنجة والأبيض وألقى عليهم تبعة وجود الجلابة فى بلادهم بعد تاريخ معين، وانتهز العرب هذه الفرصة وأخذوا ينهبون الجلابة، بل إنهم أخذوا أيضا ينهبون التجار الوادعين الذين عاشوا بينهم زمنا طويلا والذين لم يكن لهم أى دخل فى تجارة العبيد أو تجارة أى مهربات ،بل إن سلب شيوخ العرب للجلابة قد تجاوز تجارتهم بل أخذوا كل شىء يملكونه ،وساقوهم كالبهائم وهم تقريبا عراة يعدون بالمئات إلى دارة وطوبشة وأم شنجة، وكان هذا عقابا عظيما لهم على مساعدتهم أعداء الحكومة، وللحديث بقية