بطرس دانيال يكتب: المحبة لا تموت أبداً

مقالات الرأي

بطرس دانيال
بطرس دانيال


يقول الشاعر أحمد رامى: «الحُب كشجرة ورد... كلما ذبلت زهرة انبثق برعم». كم هى مُعبِّرة حكاية الطفلة الصغيرة التى كانت تعبر جسراً مع والدها، وعندما خاف الأب على ابنته من السقوط، قال لها: «امسكى بيدى جيداً حتى لا تقعِ فى النهر». فقالت له: «لا، لن أفعل ذلك، ولكن امسك أنت بيدى»، هذه العبارة جعلته يسأل فى ذهولٍ: «هل هناك فرق بين أن تمسكِ بيدى أو أمسك أنا بيدكِ؟» أجابت الطفلة بكل ثقة: «نعم، هناك فرق كبير، فإذا أمسكتُ أنا بيدك، من المحتمل أن أفقد توازنى نتيجة الخوف وتنفلت يدى فأسقط فى النهر، أما إذا أمسكت أنت بيدى فلن تدعها تفلت من يدك أبداً!». نتعلم من هذه الأمثولة أن الذى يُحِب حبّاً صادقاً يثق فيمن يُحب، تاركاً له حياته بكل طمأنينة، وهذا ما نفعله مع الله عندما نضع حياتنا بين يديه واثقين به. فالمحبة فضيلة عظيمة، بل أعظم الفضائل، كما أنها خيرٌ لا يوازيه أى شيء، لأنها تخفف دون سواها كل ما كان عبئاً ثقيلاً بالنسبة لنا، وتبدّل مرارة الحياة إلى عذوبةٍ وحلاوة. ويحثنا السيد المسيح قائلاً: «وصيتى هي: أحِبُّوا بعضكم بعضاً كما أحبَبتُكم. ليس لأحدٍ حُبٌّ أعظمُ من أن يبذل نفسه فى سبيل أحِبَّائه» (يوحنا 15: 12-13). فالمحبّة تاج كل الفضائل وأقوى من الخوف، لأن مَن يخاف أو يشك فى الآخر، لم يُحب قط، فالمحبة الحقيقية تطرح الخوف خارجاً، والمحبة المطلوبة منّا هى المحبة الصادقة فقط، ومما لا شك فيه أن الله يُحبّنا جميعاً بالرغم من ضعفاتنا وعدم استحقاقنا. والمحبة لحنٌ عذبٌ، ننصت إليه حتى ننسى همومنا وتهدأ نفوسنا ونحيا فى سلام. فالمحبة لا تموت أبداً، من المؤكد أننا خُذِلنا فى حُبّنا وصداقاتنا، ولكن كل ما قمنا به بإخلاص فى محبتنا يظل أبداً، تكفينا أمانة الحُب التى تُعبّر عن شخصنا وجوهرنا ومعدننا، فإذا اشترى أحدُنا مجوهرات وكانت مزيفة، أهذا يعنى أن كل المجوهرات هكذا؟ بالطبع لا، ولكن ما نفعله هو اتخاذ الحذر والحيطة عندما نشترى مرة أخرى، فالمحبة هى من الله، إذاً لن تموت أبداً، ومهما حدث لها ستنهض مرةً أخرى مع التمييز بين ما هو حقيقى وما هو مزيّف. فالمحبة ليست لها مصالح أخرى، ولا تُعطى إلا ذاتها، كما أنها تنتصر دائماً حتى على كل ما هو مستحيل، ويقول الشاعر الإيطالى دانتي: «المحبّة التى تحرّك الشمس والنجوم»، لأنه بدون الحُب يصبح كل ما نفعله مملاً، حتى الأعمال البسيطة التى لا تكلّفنا وقتاً أو جهداً أو مالاً، نراها مُتعبة وشاقة، فكل شيء بدون حُب يتحوّل إلى عبءٍ ثقيل لا يُحتمل، وواجبٍ مفروضٍ علينا يطاردنا فى كل لحظة. بينما بالحُب يتحوّل كل شيء إلى سعادة وسرور، حتى أننا لا نشعر بالوقت أو التعب فى كل ما نقوم به. فالمحبة الحقيقية لا تضع مقاييس الربح والخسارة مع مَنْ تُحِب، لأنها هى الجوهرة الوحيدة التى تزداد قيمتها بالقسمة والتوزيع. وبناءً على ذلك، تحتاج المحبة الصادقة إلى وقتٍ لتصل إلى مرحلة النضج يوماً بعد يومٍ، فالزمن يُعطى الفرصة لآفاقٍ أشمل وثراءٍ عظيم. كم من الصداقات والزيجات أصبح مصيرها الفشل والصراع لأنها بُنيت على أساسٍ هش؟! لكن الوقت يمنح الشخص فرصة التغيير للأفضل، وفى هذا الصدد يقول الفيلسوف E. Eriksson: «من الممكن اعتبار أن الحُب أولاً وَهمٌ ثم خداع ثم تكريس. وكل فترة من هذه لها أهميتها القصوى، لأنها تمر بعدّة خطوات واحدة تلى الأخرى... إذاً يجب علينا أن نمر بجميع المراحل، وننتقل من المرحلة الأولى للثانية بفعل السنين وثقل الأشياء ومحدودية الأشخاص وأخطائهم، وبعد ذلك ننتقل من الثانية إلى الثالثة بعد مسيرة من الحكمة والنضج الداخلى المبنى على الصبر الذى يساعدنا على تخطّى مرحلة الخوف من الآخر». نجد هنا رداً على الحال الذى وصلنا إليه فى عالم السرعة حتى فى الحُب الذى لا نعطيه وقتاً كافياً للتعرف على الطرف الآخر حتى نقبله بما هو عليه، لكن الحُب ينضج مع اكتمال هذه المسيرة ... فى المرحلة الأولى نجد سعادتنا فى حُب التملّك، وفى الثانية نشعر بألم التخلّى، بينما فى الثالثة نصل إلى غبطة العطاء. ونلخّصها هكذا: أخذ ثم تخلّى ثم عطاء. وكلها تعبّر عن نمو الحُب الذى ينتقل من شهوة التملّك إلى حُب العطاء. ونختم بالقول المأثور: «إذا كانت الحياة زهرة، فالحُب رحيقها».