د. نصار عبدالله يكتب: ذكريات أكتوبرية

مقالات الرأي



شاء لى قدرى أن استدعى إلى التجنيد بالقوات المسلحة فى 6 يناير 1968.. كانت مدة الخدمة العسكرية الإجبارية لحملة المؤهلات العليا عاما واحدا، لكن لا أحد كان يتم تسريحه إذ ذاك، وهكذا فعندما حل عام1969وهو العام الذى كان يفترض أن يتم فيه انتهاء خدمتى وجدت نفسى على ضفة القناة أشارك فى حرب الاستنزاف ضد العدو الإسرائيلى.. مازلت إلى يومنا هذا أذكر يوم 9مارس 1969 عندما كانت القذائف الإسرائيلية تنصب على مواقعنا ونحن داخل دشمنا المحصنة فى قرية سرابيوم.. حين جاءنا من نعى إلينا الفريق عبدالمنعم رياض فى موقع مجاور، وأصبنا جميعا بالذهول، فلقد كانت له مكانة خاصة فى قلوبنا جميعا، خاصة أولئك الذين كانوا منبهرين لا بكفاءته وشجاعته فقط، ولكن بإيمانه الشديد بأهمية العلم، وهو ما جعله رغم رتبته العسكرية الرفيعة ينتسب إلى كلية العلوم لدراسة الرياضيات البحتة وإلى كلية التجارة لدراسة الإدارة.. ولعلى لا أكون مبالغا إذا قلت إننا لو كان لدينا من بين قياداتنا السياسية والعسكرية الكثيرون من أمثال عبدالمنعم رياض لما حدثت النكسة أصلا!!،.. أعود الآن إلى ذكريات تلك الحقبة حيث انتهى عام 1969 وجاء عام 1970 الذى انتقلت فيه إلى بورسعيد، وشاهدت تلك المدينة للمرة الأولى فى حياتى، وكانت خالية من السكان تقريبا، ومع هذا فما زلت أ ذكر أنها كانت فيها دار للسينما كانت مازالت تعمل رغم التهجير، وقد شاهدت فيها فيلما جميلا ما زلت أذكر مشاهده إلى الآن اسمه: «القلب صياد وحد» بطولة آلن آركن وهومأخوذ من رواية بهذا العنوان من رواية للمؤلفة الأمريكية الشهيرة كارسون ماكالرز، كما كان هناك محل سوبر ماركت ما زال مفتوحا، وأذكر أنى اشتريت منه جبنا روميا، وقد تعتق الجبن الرومى نتيجة لتقادم العهد به وهو ينتظر الزبائن فكان أشهى جبنة رومية ذقتها فى حياتى. بعد خدمتى فى بور سعيد خدمت فى أماكن أخرى إلى أن نقلت فى النهاية إلى وحدة تحمل فى نجع حمادى، وتحديدا إلى قرية تدعى ِهوْ (بكسر الهاء وتسكين النون) وهى القرية التى توجد بها محطة محولات نجع حمادى حيث كانت مهمتنا تأمين محطة المحولات بعد أن كانت فرقة كوماندوز إسرائيلية قد نجحت فى الإغارة على المحطة وإحداث أعطاب جسيمة بها، وفى وحدتى الجديدة تعرفت على المقدم عبدالرحمن نصر الذى قال لى والمرارة تقطر من شفتيه: إنه شقيق صلاح نصر.. وأن هذا هو حال الدنيا: يوم لك، ويوم عليك!.. أخيرا وفى 1/7/ 1973 تقرر تسريحنا من القوات المسلحة فتنفسنا الصعداء، وأحسسنا أننا قد أدينا واجبنا مضاعفا حتى وإن كانت لحظة تحرير الأرض المغتصبة لم تبدأ بعد، وأنه قد آن الأوان لجيل يأتى بعدنا فيكمل ما بدأناه.. لكن تصورنا هذا لم يكن صحيحا.. ففى 6 أكتوبر 1973 كنت فى جمعية الأدباء عندما كانت الكاتبة فتحية العسال تمسك راديو ترانزستور فى يدها قائلة: سمعتوا البيان ده.. كانت المارشات العسكرية فى الخلفية بينما صوت المذيع يعلن البيان الآتى: قام العدو فى الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر اليوم بمهاجمة موقعنا فى منطقتى: الزعفرانة والسخنة، فى خليج السوبس بواسطة تشكيلات من قواته الجوية بينما كانت بعض من زوارقه الحربية تقترب من الساحل الغربى للخليج، وتقوم قواتنا حاليا بالتصدى للطائرات المغيرة.. قلت على الفور: البيان ده فيه حاجة مش عادية.. أكيد حاجة كبيرة هتحصل النهاردة.. قالت فتحية: إيه اللى خلاك تقول كده؟ قلت: حاجات كتيرة أولها إن الصيغة التى تعودنا عليها تنتهى بالعبارة الآتية: «وتصدت لها دفاعاتنا الجوية وأجبرتها على الفرار!! أما هذا البيان فيقول بأن قواتنا تواصل التصدى، وهذا معناه على الأرجح أن قواتنا البرية قد تحركت وأنها قد بدأت العبور! ضحكت وهى تقول أنت لسه بتحلم!. قلت لها أيوه! (لم أقل لها طبعا أننا قد تدربنا على العبور طويلا فى منطقة الخطاطبة، ولم أقل لها أيضا إن هناك خطة جاهزة للعبور اسمها الخطة200) وعدت إلى منزلى مسرعا لأتابع الأخبار، عندما وصلت إلى المنزل كانت هناك برقية عاجلة فى انتظارى: «قدم نفسك فورا إلى وحدتك».. أدركت حينئذ أن استنتاجى كان صحيحا.. لكن الذى لم أكن قد فطنت إليه حتى تلك اللحظة أن تسريحنا فى 1/7/1973 كان جزءا من الخداع الاستراتيجى لإسرائيل وإيهامها بأن الحرب ليست وشيكة الوقوع.