د. نصار عبدالله يكتب: ذكريات سميحة أيوب "1"

مقالات الرأي



كنت أتصور أن سميحة أيوب ممثلة قديرة فحسب،...صحيح أنها كممثلة تنتمى إلى ذلك المستوى الذى لا يجود الزمان بمثله كثيرا، لكن موهبتها كما كنت أتصور تكمن أولا وأخيرا فى أنها محض ممثلة مقتدرة بشكل استثنائى!، ولقد ظل هذا التصور راسخا فى وجدانى إلى أن أتيح لى مؤخرا أن أقرأ ذكرياتها التى صدرت مؤخرا عن الهيئة العامة للكتاب والتى سبق أن طبعت أكثر من طبعة لكننى للأسف لم يقدر لى أن أقرأ إلا طبعتها الأخيرة، حينئذ فقط عرفت أنها كاتبة مقتدرة أيضا وأن بوسعنا أن نضيف اسمها ونحن مطمئنون إلى اسم فنانة قديرة أخرى أبدعت فى النصف الأول من القرن العشرين فى فن التمثيل كما أبدعت بعد ذلك فى الكتابة...، ألا وهى: فاطمة اليوسف، وإن كانت الأخيرة قد تفرغت تماما للكتابة الصحفية بعد أن أنشأت واحدة من أهم المجلات التى لعبت دورا كبيرا فى حياتنا الفنية والصحفية والسياسية على حد سواء وأعنى بها مجلة «روزاليوسف»، ولقد كتبت السيدة روزاليوسف مذكراتها أيضا منذ ما يقرب من ستين عاما ثم أعادت الهيئة العامة للكتاب طبعها منذ سنوات قليلة، وعندئذ أعدت قراءتها بعد أن كنت قد قرأتها للمرة الأولى فى صباى، ثم كتبت عنها بعد إعادة طبعها على مدى ثلاث حلقات متوالية فى هذا المكان من جريدة «الفجر» فى شهر يوليو من العام الماضى ( 2018)،. ونعود الآن إلى الذكريات الممتعة التى كتبتها سميحة أيوب بقلم تنبئ عن رشاقته وسلاسته سطوره الأولى التى تمضى على نفس المستوى من الرشاقة والسلاسة حتى سطوره الأخيرة!، وهو ما يؤكد بوضوح شديد أن سميحة أيوب ليست ممثلة قديرة فحسب، ولكنها كاتبة قديرة أيضا!.. والحق أن القارئ الذى لم يقدر له لسبب أولآخر أن يقرأ المقدمة.. ربما يظن لدى قراءته لتلك الذكريات أن الذى كتبها لابد أن يكون كاتبا محترفا، لا حرفة له إلا الكتابة، وأن دور صاحبها أو بالأخرى صاحبتها يقتصر فقط على أن تسرد على مسامعه الوقائع والأحداث، لكى يعيد هو صياغتها بعد ذلك طبقا لمتطلبات الكتابة التى تجمع بين الجاذبية والتماسك، لكن هذا الظن يبدده ما ذكرته المؤلفة نفسها فى المقدمة من أن الأستاذ رجاء النقاش قد عرض عليها أن تحكى له ذكرياتها ثم يكتبها هو، وهو العرض الذى اعتذرت عن قبوله فى حينه،..وحسنا أنها اعتذرت (وليس هذا تقليلا من موهبة رجاء النقاش ككاتب يندر أن يكون له فى أسلوب كتابته الأخاذة نظير)، ولكن اعتذارها ذاك قد أضفى فى الحقيقة على عملها المكتوب بعدا مطلوبا وضروريا فيما أتصور، ذلك أن الذى يملى ذكرياته لكى يصوغها سواه أيا ما كان مستوى الصائغ، إنما هو فى الحقيقة يشرك ذاتا إنسانية أخرى لكى تطبع بالضرورة بصماتها هى إلى جانب بصماته هو!، وبالتالى فإن الصورة الإنسانية الخالصة لصاحب الذكريات لا تقدم نفسها إلى القارئ كما يريدها صاحبها بالضبط مهما كان مستوى الدقة والأمانة والموضوعية التى قد يتسم بها الصائغ للمادة الأولية، فما بالنا إذا كان صاحب الذكريات نفسه يتسم بالقدرة على الكتابة المتماسكة التى تفيض بساطة وصدقا، مثلما فعلت المؤلفة التى روت فى كتابها الذى نعرض له هنا، روت مسيرتها الطويلة التى تقاطعت فيها سيرتها الشخصية والعاطفية فى كثير من المواضع مع سيرتها الفنية، كما تقاطعت تلك السيرة كذلك مع مسيرتها الإدارية، حيث ألقى على عاتقها عددا من المسئوليات المهمة التى نهضت بها نهوضا ربما ما كان لغيرها أن ينهض بها وأن يخوض من أجلها المعارك التى خاضتها وأن ينتصر فى نهاية المطاف ثم تتمخض إنجازاته فى النهاية عن تلك الثمار التى ما نزال نجنى منها الكثير إلى الآن!، وفى نفس الوقت فإن السيرتين: الفنية والإدارية معا، تتقاطعان مع سيرة الوطن بأكمله وما توالت عليه من موجات الصعود الثقافى والسياسى التى جعلته فى حقبة معينة (ونقصد بها حقبة الستينيات على وجه التحديد) جعلته تلك الحقبة فى أعلى العليين، ثم موجات الانتكاس التى هبطت به بعد ذلك سياسيا وثقافيا وفنيا (ودائما ما يتلازم ما هو سياسى مع ما هو ثقافى صعودا وهبوطا)..هبطت به تلك الانتكاسات إلى درك سحيق ما زلنا نعيش آثاره إلى الآن، وللحديث بقية.