د.نصار عبدالله يكتب: الأبنودى.. ذلك الحضور الدائم

مقالات الرأي



هذا العام.. كان الشاعر عبدالرحمن الأبنودى حاضرا فى معرض الكتاب كعادته فى كل عام.. .ربما كان فى هذا العام ـ رغم رحيله عن عالمنا - ربما كان أشد حضورا، فإلى جانب حضوره الفنى الدائم من خلال أشعاره الباقية أبدا.. إلى جانب ذلك هناك أيضا ما يمكن أن نسميه بحضور الغياب ـ أعنى إحساسنا برحيل صاحب هذه الإبداعات عن عالمنا ، وهو إحساس يمثل أمامنا ونحن نتلقى هذه الإبداعات ، وبهذا يصح فيما أتصور أن نقول: «إن للغياب حضورا) وهو ما تمثل بشكل واضح فى الاحتفالية التى أقيمت فى معرض القاهرة الدولى مساء أول أمس الثلاثاء 5/2/2019 والتى شارك فى الإعداد لها مؤرخ الأدب والصحافة والثقافة العربية: الناقد المعروف الأستاذ شعبان يوسف جنبا إلى جنب مع أسرة الأبنودى الصغيرة: أعنى زوجته الإعلامية المعروفة نهال كمال وابنتيه آية ونور ، أما أسرته الكبيرة فهى بدون مبالغة مصر كلها التى سجل بشعره الرفيع آمالها وآلامها وأشواقها.. بل إنها فى الواقع العالم العربى بأكمله، وربما تجاوزت أسرته الكبيرة هذا النطاق ـ وقد تجاوزته بالفعل من خلال ترجمة أعماله إلى لغات أخرى ومن بينها الإسبانية التى تربط بينها وبين العربية وشائج كثيرة تمتد عبر مخزون التراث الوجدانى الذى يجمع ما بين العرب / وبين ما يسمى على مدى قرون عديدة ببلاد الأندلس ولم يكن غريبا والحال كذلك أن تكون واحدة من أشهر قصائد الأبنودى وأحبها إلى قرائه وأعنى بها الخواجة لا مبو مات.. بل إنها كانت من أحبها إليه شخصيا كما عرفنا ذلك من خلال حديث الأستاذة نهال فى الندوة ، لم يكن غريبا أن تكون هذه القصيدة مستوحاة من الجو الإسبانى رغم أنه لم يزر إسبانيا فى حياته، وقد بدأت الاحتفالية بتقديم موجز ومركز قدم به الأستاذ «شعبان يوسف» موضوع الاحتفالية إلى الحضور الذين فاق عددهم عدد الحاضرين فى أى ندوة أخرى أقامها المعرض هذا العام (فى حدود ما شهدته على الأقل) ، ثم بدأت بعد ذلك وقائع الاحتفالية التى تمثلت فى قراءات شعرية من بعض دواوينه، ألقتها ابنته آية من خلال أداء شديد الشبه بأداء الأبنودى نفسه حال حياته ، وبالإضافة إلى تلك القراءات التى أشهد لآية الأبنودى أنها قد أحسنت اختيارها فى حدود ما سمح به وقت الاحتفالية ، وإن كنت أتمنى لو أن اختياراتها كانت قد تضمنت «الأرض العيال» وبوجه خاص ما كتبه الأبنودى حين كتب فى ذلك الديوان يقول: الليل جدار.. إذا يدن الديك من عليه.. يطلع نهار.. وفى رأيى المتواضع، وهو بالمناسبة رأى أعترف بأنه لم يطرأ على ذهنى إلا فى هذه الأمسية بالذات رغم طول مصاحبتى لأشعار الأبنودى.. وتحديدا.. عندما استمعت إلى أداء لأغنية: عدى النهار، وقد أداها عزفا على العود مطرب سورى بديع سمعته فى هذه الاحتفالية لأول مرة لكننى سوف أسعى مستقبلا إلى البحث عنه ومواصلة سماعه وأعنى به الأستاذ نور بازى باش، إذ أنه من خلال أدائه قد ذكرنا بأداء فناننا الراحل (والباقى أيضا) عبدالحليم حافظ الذى كان يمثل هو والأبنودى فى وجداننا المصرى والعربى ثنائيا فنيا بديعا بين شاعر قومى ومطرب قومى.. أما الرأى الذى انبثق فى ذهنى وأنا أتابع الاحتفالية فهو أن «الليل جدار» هى البذرة الأولى التى أنبتت وأنضجت فيما بعد «عدى النهار» والتى أصبحت كما ذكرت الأستاذة نهال كمال واحدة من كلاسيكيات مرحلة ما بعد الهزيمة التى لحقت بنا فى عام 1967..أما الذى يجعلنى أربط بين القصيدتين فهو أن استشراف المستقبل فى كلا القصيدتين يكاد أن يكون واحدا.. فمهما كان الليل يضغط علينا ويقف جدارا حائلا بيننا وبين تحقيق أحلامنا ، فإنه لا بدأن تجىء لحظة نسمع فيها الديك وهو يؤذن لطلوع الفجر.. ومن ثم مجىء النهار الذى حسبناه قد عدى.. ولقد كان جدار الليل متمثلا فى الهزيمة الكارثية التى لحقت ببلادنا فى عام 1967 فإذا بالنهار: ما قدرش يدفع مهرها !.. غير أن بشائر النصر، أو فلنقل «أدان الديك الذى تكلم عنه الأبنودى كان متمثلا فى تلك الوجوه التى ظلت متشبثة بأرضها ولم تغادرها مع «هوجة التهجير» وهو ما سجله الأبنودى فى ديوان: وجوه على الشط من موقع معاشاته الفعلية لتلك الوجوه خلال حرب الاستنزاف والتى مهدت الطريق إلى العبور الذى هو فى حقيقة الأمر عبور من الظلمة إلى النور (أو هذا على الأقل ما يفترض أن يكون) ، لولا «الموت على الأسفلت».. وهو آخر المجموعات الذى خطتها أنامل هذا الشاعر العبقرى.