سليم صفى الدين يكتب: الذات والإله

ركن القراء

بوابة الفجر




بدا قلقا، حائرا، يتحرك بسرعة غير محسوبة، وحركات غير مفهومة، عصبيا على غير عادته، انحى ليلتقط مفاتيح شقته التى سقطت منه، والتى أصبح مهددا بالطرد منها بعدما توقفه عن سداد إيجارها لمدة نصف عام، بعد معاناه وضع المفتاح فى كالون الشقة ودخل، أغلق الباب بعنف شديد ومضى إلى حجرته التى تحتوى على سرير ومكتب صغير، وعدد من كتب التفسير والمصاحف المختلفة، ثم خرج منها إلى الحمام، فتح الدش ووقف تحته بملابسه، عيناه مغمضتان، وغضبه دفين، خبط رأسه فى الحائط بعنف وصرخ بكل ما فيه "آآآآآه".

الجو بارد للغاية، لكن حرارة جسده حالت دون شعوره بأى شىء، خرج إلى الصالة الواسعة جدا، والخاوية على عروشها، فهى تحتوى على ترابيزة وكرسيين وبقايا طعام، سقط بجوارها ملتصقا بالحائط كأنه يحاول النفاذ بداخله، انكمش على نفسه وراح فى النوم، بريق الصباح أيقظ جسده المهترئ، فتح عينيه بصعوبة بالغة، وشعر بالبرودة، قام بعد مقاومة شديدة لجسده الذى استباحه البرد ليلة كاملة، بدأ ينزع ملابسه عن جسده وهو ينازع كأنه يخلع جلده عنه، ما إن خلع آخر قطعة حتى باحت بواطنه بتنهيدة "آآآه" كأنه كان ينازع أمراضه النفسية، وأسئلته التى لا جواب لها، وثوابته التى تهتز داخله.

فتح حنفية الدش، وجلس تحتها، جسده ينفض من البرد، ويداه تحتضنان قدمه بقوة.. كاد يدخل بعضه فى بعضه من شدة الضمة، مضى وقت طويل، المياه تغرقه، والبرد يطعن جسده، والحزن يئن ببواطنه، أسئلة تترامى، وأخرى تطرح عليه، ذكريات من الطفولة، وألم من حاضر مُر، من أنا؟ ولما أنا هنا؟ لا جديد، لا إجابة.. قام من مقعده بعد أن أعد عددا من فناجين القهوة على فترات، ويعود ليشربها فى مكانه، وأكمل ما تبقى من علبة السجائر التى اشتراها بالأمس، كل هذا وهو داخل الحمام، يقوم خلف شباكه المطل على أرض فضاء، ينظر من زجاجه الشفاف إلى البراح، يدخن ويشرب القهوة، ثم يعود ليدخل بعضه فى بعضه، وهكذا... حتى نفد البن والدخان. 

خرج وقد بدا على جسده الأبيض بعض التجاعيد من أثر الماء، شعره البنى مخلوط على بعضه وقطرات الماء تتساقط منه، ووتده مستسلم رخو، لا يريد أن يدق بأرض أخرى.. أمسك بهاتفه وظل يبحث عن طبيب نفسى، حتى وجد ضالته فى طبيب درس فى لندن، حجز موعدا من خلال "احجز لى" فى الغد، ثم استلقى على الأرض، يداه مفتوحتان مسترخيتان إلى جانبيه، وقدماه مضمومتان.. مهزوما ومقاوما فى الوقت نفسه، ينظر إلى السماء بغضب شديد، فجأة انتفض وأمسك بهاتفه، وقدم ميعاد الحجز لليوم بدلا من الغد، دخل حجرته وأطبق يده اليُمنى على عضوه حتى انتفض، أغمض عينيه ودارت الدنيا به، الأسئلة تترامى أمامه بسرعة تدليكه لعضوه حتى يبوح بأسراره، هو لا يتخيل أنثى، بل يضاجع الواقع الأليم، أخيرا أفرغ عضوه ما لديه، وألقى بجسده على السرير فى وضع مصلوب.

قام بصعوبة بالغة ودموعه الساخنة تتساقط زخات، فتح حنفية الدش، وانخرط تحت الماء ببكاء مسموع الصوت، يزلزل الجسد ويُنهك الروح والأعصاب، خرج من تحت المياه، جفف جسده دون اهتمام، وشعره ما زال مبللا، ارتدى بنطلونا جينز فاتح اللون وتيشيرت أبيض وجاكيت احتضن جسده حتى مؤخرته، أغلق الجاكيت عليه ليدفئه فى الوقت الذى ينتفض فيه جسده بفعل ما حدث به على مدار ليلة كاملة.

الساعة دقت الرابعة، نزل من شقته متجها إلى الطبيب النفسى الذى لم يفكر يوما فى زيارته، ليس لعدم إيمانه بالطب النفسى، إنما لإيمانه بأن الدين يشفى، والرقية الشرعية تطيّب النفس والروح، والاستماع إلى القرآن يهدئه، ومهما ضاقت الظروف فالله المدبر سوف يتولى كل شىء.. الآن أَدرك: "أضعت وقتا طويلا ولم يدبر الله لى أمورى"! عندما عُرِض عليه العمل بشركة جديدة بمبلغ مالى رائع على أن يترك شركته، قام وصلى ركعتى استخارة، فوجهتْه صلاته إلى البقاء فى شركته، التى فُصل منها بعد علم الإدارة بتفاوضه مع الشركة المنافسة، ولم يشفع له أنه اختار البقاء، باع أثاث منزله، ولم يتبق غير سرير ودولاب وترابيزة وقطعة أنتريه وحيدة، رفضته شركات كثيرة كانت فى يوم تتمنى أن يعمل بها، حتى الشركة التى رفض عرضها، عندما ذهب إليها ليطلب العمل بمقابل نصف الراتب والامتيازات التى عرضتها عليه، عومل بجفاء وتعالٍ وقيل له: "حنرد عليك"!

قضى عمرا بين جدران المساجد مصليا، وليالى رأسه منكفئ على سجادته يدعو ربه "أعزنى بالذل إليك"، اليوم يسأل: "كيف يأتى العز من الذل؟"، وقف أمام كشك، اشترى سجائر وبسكويت وبيبسى، أكل وشرب أولاً، ثم بدأ يلتهم السجائر ليجتاح الدخان صدره الملىء بالقلق والخوف.

وصل إلى عيادة الطبيب النفسى، نزع سماعة الأذن عنه وقال: "مين هنا؟"، أجابته سيدة ممتلئة: "أنا، اتفضل"، قال: "أنا حاجز من خلال (احجز لى).. حدخل إمتى؟"، أجابت: "نص ساعة"، رد: "ماشى، ممكن أدخن؟"، أجباته: "ممكن، فى البلكونة"، علق: "شكرا، شكرا".

وقف فى البلكونة التى تطل من الطابق الخامس على ميدان التحرير، ينظر إلى السيارات والناس ويدخن بشراهة، مر وقت والدخان لم ينقطع عنه، والموسيقى تدوى فى أذنيه، عابس الوجه قلقا.. جاءت من خلفه السكرتيرة، خبطت على كتفه الأيسر، فانتفض، قالت له: "آسفة، بس ده دورك"، قال: "فين؟"، أجابت: "آخر الطُرقة شمال".

مضى حتى وصل إلى الباب، طرق عليه ودخل، جلس أمام الطبيب دون أن ينظر إليه أو يحييه، أشعل سيجارة وانخرط فى البكاء، وبدأ يقاوم حالته التى يرثى لها حتى يستطيع الكلام، توقف جسده تماما عن الحركة ولم يعد يشرب سجارته التى تتآكل بين السبابة والوسطى، وجهه عابس بالكامل، تتساقط منه قطرات دموع وعرق -رغم البرد- ولعابه سال حتى سقط منه دون وعى، اعتدل الطبيب فى جسلته وقدم إليه علبة مناديل كى يمسح عرقه ولعابه، أمسك بعدد من المناديل، ومسح وجهه جيدا، وأشعل سيجارة أخرى وقال: "أنا ما أعرفش انا هنا ليه، بس انا عارف إنى مريض، مريض بالوهم والخبل والدروشة، عمرك شفت حد يتعب يسمع قرآن؟ مال القرآن ومال التعب النفسى؟ مال ربنا ومال شغلى؟ أنا ربنا دمر لى حياتى عشان صدقته!". 

قاطعه طبيبه: "صدقته ولّا اخترت وقلت إن ده اختياره؟".

رد بسرعة: "مش فارقة بقى.. عارف المضحك فى الموضوع إيه يا دكتور؟ إن فيه احتمال ما يكونش فيه إله أصلا! يعنى أنا عمرى كله راح فى الهوى، إنت مصدق اللى بقوله؟ أنا عايز شغلى، وعايز حبيبتى، عايز سنينى اللى راحت أونطة"، بكى بصوت مسموع وعال وبعنف قوى وقال: "أعمل إييييييييييه؟".

أمسك طبيبه بالقلم، وكتب مجموعة من الأدوية، سأله عن حالته المادية، وعندما أجاب "زفت"، ابتسم وقدم له العلاج من عيادته، وقال له: "العلاج ده تمشى عليه النهار ده وبكرة، وأشوفك يوم الخميس الساعة 5، وأوعدك كل حاجة حتكون أفضل، ثِق فىَّ"، أجاب وهو مهزوم تماما، مستسلم للغاية: "أتمنى، أتمنى".

مر الوقت سريعا وجاء الخميس، لا يأكل إلا عندما يشعر بالتعب الشديد، جسده يرفض الطعام ولا يقبل بغير الدخان والبُن، لبِس ببطء شديد، وتحرك بثبات غير عادى، كأن خطواته مبرمجة، نزل والسيجارة فى يده ويحمل كوبا مصنوعا من الورق بداخله قهوة أعدها قبل أن يخرج.

حذاء أبيض وبنطال جينز ساموى اللون، وجاكيت أزرق مغلق حتى رقبته، لا يظهر ما تحته، وصل إلى العيادة فلم يجد أحدا غير السكرتيرة التى استقبلته بابتسامة، وقالت: "اتفضل الدكتور والباقيين جوه"، تعجب من كلمة "الباقيين"، لم يكترث ومضى نحو ما أشارت إليه، طرق على الباب ودخل، حجرة بيضاء اللون، واسعة جدا، نورها خافت، موسيقى "فيفالدى" كانت تعبقها. نظر إليه الطبيب مبتسما وقال: "تعالى، عامل لك مفاجأة"، ابتسم بخفة ودخل دون أى كلام، الحجرة احتوت على 5 أفراد كان هو سادسهم، فضلا عن الطبيب الذى أعد لهم جلسة استماع.

الطبيب توسط الجلسة، وكان هو أمامه مباشرة، وعن يمينه شابان، وعن يساره شاب وفتاتان. بدأ الطبيب الجلسة قائلا: "مسموح بالتدخين، وقبل أى كلام أحب أؤكد لكم إن الجلسة دى هى الأولى من نوعها فى عيادتى، مش عايز حد يخاف، مسموح باستخدام الألفاظ الخارجة، كل حد يتكلم بالطريقة اللى هو عايزها"، وأشار إليه: "اتفضل".

تكلم هو، وتكلم المرضى الآخرين أيضا، محور مشكلاتهم تدور حول النزاع بين الذات والإله، أنا وهو، من يعيش حياة الآخر، هل نعيش نحن بالإله أم يعيش هو بنا؟ كان هذا هو السؤال الذى رمى به الطبيب مرضاه، وأتبعه: من خلق من؟ الإنسان أوجد الإله، أم نحن من خلقناه؟ المشكلة الحقيقة أنكم كلكم، رغم اختلاف تفكيرهم وأفكارهم ودينكم وإيمانكم بالإله من عدمه، تقحمونه فى كل شىء، الحب والجنس والعلم والطب والعمل، كل شىء تنظرون إليه من وجهة نظر الإله التى أعدها فى الأساس أناس عاديون "زيهم زينا"!

فى الإسلام مثلا وجهة نظر الإله يتبناها قادة الأزهر والسلفيون، وفى المسيحية الكنسية بقيادة البابا، حتى الملحدة الوحيدة التى حسمت أمرها بخروج الإله من دائرة حياتها، استبدلت بالإله مجموعة من الأشخاص يوجهونها، أى من قداسة الإله فى كل الأمور إلى قداسة بعض المفكرين فى الأمور ذاتها!

المشكلة الحقيقية أنكم غير مؤمنين بأنفسكم، قرار شغل "أصلى ركعتين" أو أصلى للرب فى الكنيسة، أو آخذ رأى المفكر الفلانى، قرار حب، حلال ولا حرام، أو يمنعنى نفس المفكر "اللى طمعان فى جسمى لنفسه"، فيحول بينى وبين حب عمرى. ونظر إلى إحدى الفتاتين على يساره قائلا: "زى ما وصفتيه إنتِى".

قام من كرسيّه وبدأ فى حركة دائرية حولهم وقال أنثاء حركته: الحقيقة أنتم مرضى بـ"الكفر بالذات" وليس الكفر بالإله، "مفيش إله يفرق معاه إيمان وكفر، إنما الإله الحقيقى لو اعتبرنا وجوده، يفرق معاه حياتنا تكون قيّمة واختيارتنا تكون حرة، وأن لا نضر وإنما نتكامل، ولو مش موجود، فالمهم أن تكون اختيارتنا حرة، وحياتنا قيّمة... نفس الكلام يعنى، آمنوا بأنفسكم، قالها بابتسامة عريضة جدا باسطا يديه نحوهم، واختتم كلامه: نتقابل الخميس الجاى".