د. أحمد ماهر يكتب: الابن الغير شرعي للعولمة

ركن القراء

د. أحمد ماهر
د. أحمد ماهر


هل البشر في خطر؟

لم يتوقع إنسان أن تعيش البشرية أحد أفلام هوليوود كـ (contagion) على أرض الواقع لتواجه البشرية كلها عدو واحد، وهو فيروس قادر على حصد الأرواح دون تفرقة بين فقير في أفريقيا أو ولي عهد بريطانيا في أوروبا، أو سواء كانت دولة متقدمة أو نامية، على اختلاف النظمة سواء ديمقراطية أو أوتوقراطية أو دكتاتورية.

ومن خلال تلك الأزمة العالمية التي تتسم بالسيولة والتطور السريع تكشفت قدرات إدارات الدول ومستوى استيعابها للصدمة في اختبار شديد القسوة لكل الأنظمة في العالم، فبينما طالب الرئيس الأمريكي ترامب شعبه بالاستعداد للأيام السوداء، وأعلن أنه لن يمول منظمة الصحة العالمية و إنها تتآمر عليه، وصرح رئيس الوزراء البريطاني جونسون بأن نودع أحبائنا وان القادم أسوء وكذلك كان تصريح الأمين العام للأمم المتحدة، وانتهاء بدعوة رئيس الوزراء الإسباني أوروبا إلى اقتصاد حرب.

ولقد أظهرت تلك الأزمة أن العولمة التي سيطرت على العالم منذ التسعينات بتدفق رؤوس الأموال والتكنولوجيا والمنتجات والسلع والبشر والشركات المتعددة الجنسيات قد انتجت وليد غير شرعي (كوفيد 91) لينتقل عبر البشر إلى جميع أنحاء العالم مستغال قدرته الهائلة على الانتشار بواسطة البشر، ليصيب العولمة في مقتل، وأصبح انكفاء الدول على نفسها والانعزال المحلي وايقاف مظاهر العولمة، هو السبيل لتقليل انتشار الجائحة، مما سيفرض في المستقبل واقع جديد تتسابق فيه الدول لتوطين التنمية والتصنيع الكامل لمنتجاتها مما سينافس تسلسل التوريد والذي ساد حول العالم، وقد يعيد الشعوب إلى هويتها بعيدًا عن العولمة التي قد تظل موجودة و لكن بشكل مختلف عما نعيشه االن من ظهور دور أكبر للذكاء الصناعي وتبادل التكنولوجيا وإحلالها بديال عن البشر واستمرار العمل والتعلم عن بعد بصورة أكبر.

ولقد بدأ لكل واعي بالخريطة السياسية وخريطة التحالفات أن العالم ما بعد كورونا سيؤثر على تلك التحالفات الحالية ويصيغ تحالفات أخرى تبنى على أساس التعاون المشترك وتبادل الخبرات الإدارية والسياسية والإقتصادية والاجتماعية، وذلك بعد انكشاف الحلفاء الغربيين وظهورهم في حالة من الضعف والخذالن، بل وتخاطف المساعدات من بعضهم البعض والمقدمة من الدول المانحة كالصين وروسيا، ولقد استغلت الصين ذلك الأمر بما لديها من خبرات و قدرات ووعي سياسي بتقديم مساعدات  بلغت 50 طنًا لإيطاليا ومستلزمات طبية أخرى وأطباء وأجهزة تنفس صناعي وكذلك صربيا وإسبانيا، وذلك ـشعر الشركاء في الاتحاد الاوروبي بالعزلة داخل الاتحاد نفسه مما جعل الرئيس الصربي يعلن أن (الاتحاد الاوروبي هو حكاية خرافية) وقد تنبه ترامب متأخرًا أن الصين وروسيا استغلوا الفراغ السياسي الأمريكي في أوروبا، فقدم مساعدات لكل من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، و العراق في الشرق الأوسط، كما قدم مليار دولار لأخذ احتكار لقاح ألماني بعيدًا عن الإدارة الألمانية، بالإضافة لحظر السفر للإتحاد الأوروبي دون إشعار مسبق للأوروبيين، وكذلك تجميد انتقال قوات ـمريكية إلى الشرق الأوسط في مناطق عملياتها.

كل ذلك صنع شعورًا بعدم اليقين حول قدرة الولايات المتحدة من التعاون الجدي مع الاتحاد الاوروبي، وكذلك بقاء الاتحاد الاوروبي متماسكًا بعد انتهاء أزمة  كورونا، خاصة في وجود الشعبويين ودعاة الانغلاق والمطالبين بإلغاء منطقة شنغن من الساعين الى السلطة.

ولقد كان العالم يعول على منظمة الامم المتحدة في التنسيق بين جهود الدول وتوحيدها لإنقاذ البشر من تلك الجائحة، ولكنها بدت ضعيفة وظاهرة كلامية أكثر منها كفاعل دولي مؤثر.

وحتي الدول السبع العظام اختلفوا في توحيد بيان مشترك نتيجة إصرار وزير الخارجية الأمريكي على تسييس الأزمة واستخدام عبارة الفيروس الصيني أو فيروس ووهان.

وربما كانت نقطة الضوء الوحيدة في دعوة رئيس مجموعة العشرين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد  العزيز لعقد قمة افتراضية لمواجهة الأزمة واتفقوا على ضخ 5 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي لمواجهة الأثار  الاقتصادية الاجتماعية والمالية للجائحة.

خاصة بعد تحذير منظمة العمل الدولية من زيادة البطالة في العالم و أن 50 مليون شخص سيفقد وظيفته،
وكذلك انخفاض دخل العاملين وخسارة الأسواق المالية 6 تريليون دولار.

وخفضت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توقعاتها للنمو خلال 2020 إلى النصف، وأعلن صندوق
النقد الدولي دخول العالم رسميًا في حالة ركود اقتصادي بنسبة تصل إلى (1.5-%) .

أما الولايات المتحدة فستحقق تكلفة متوقعة للمال المهدر تصل إلى 7.1 تريليون دولار أمريكي عام 2020 حسب دراسة الجمعية الوطنية الأسترالية، وكذلك الصين التي تكبدت خسائر تصل الى 143 مليار دولار أمريكي في الربع الأول من هذه السنة.

ويبدو أن المصائب على الاقتصاد العالمي لا تأتي فرادى، فمن تداعيات الجائحة احتدام صراع نفطي بين المملكة السعودية وروسيا حول تخفيض إنتاج النفط والتي رفضها الجانب الروسي مستمرًا في انتاج النفط كما هو، مما جعل السعوديون يخفضون سعر البرميل إلى 10 دولار أمريكي منذ ابريل 2020 مع زيادة معدلات الإنتاج إلى 12.8 مليون برميل يوميًا، وغزو أسواق شركات النفط الروسي مما استدعى الرئيس الأمريكي إلى اتفاق على جلسة للسيطرة على معدلات الإنتاج ورفع سعر البرميل لتأثر النفط الأمريكي الصخري بهذا الصراع.

ومع تبعات تأثر كل دول العالم بتلك الأزمة الوبائية وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية قد تتزايد الأزمات الأمنية مع تزايد أعداد الغير قادرين على دفع فواتيرهم و شراء غذائهم حول مستوى العالم.

وفي تلك الفوضى الاستراتيجية التي أنهت عصر و بدأت عصر جديد ستتأثر فيه مكانة دول كبيرة على المستوى الدولي والإقليمي، وقد يسرع ذلك في نقل التوازنات الدولية ناحية الشرق بعد أن اثبتت الصين وكوريا الجنوبية، وكذلك الهند حسن إدارتهم للإزمة والاتجاه للتعافي منها، و،ن الصين هي  القادرة على جر عربة الاقتصاد العالمي وإنعاشه مستقبلًا، "فكما تولد الأزمات الرجال العظام تولد أيضًا الأمم العظيمة".

أن تلك الأزمة لا مخرج منها سوى بالتعاون بين الدول و خاصة الدول الكبرى كالولايات المتحدة والصين وروسيا, لتنسيق الجهود بينهم لصالح البشرية والمنتصر في تلك الأزمة الكارثية هو الأكثر قدرة عل الإدارة والاحتواء والتوازن، والخروج بمكاسب محلية و دولية سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، وكما يولد الخير من رحم الابتلاء فأن جائحة كورونا قد تساعد قريبًا على تطوير وعي انساني مشترك واقتراب نفسي أكثر بين الشعوب.