د. رشا سمير تكتب: جسر التواصل الإنساني

مقالات الرأي



ونحن على أعتاب شهر رمضان الكريم، أيام مباركة وحالة من الصفاء النفسى الذى نسعى إليه كل عام لغسل كل ما علق من شوائب فى النفوس لعام مضى، ها نحن اليوم نستقبل الشهر الكريم فى ظروف استثنائية.. ونحن على أعتاب فرحة الشهر الكريم والتى ربما يشوبها اليوم حالة من القلق غير المعتاد، أتساءل.. هل سترتفع دعواتنا لتصل عنان السماء ويجيبها العلى القدير وتنتهى الأزمة فلا يبقى منها سوى ذكريات باهتة مثل تلك التى حدثت عقب اجتياح الطاعون للعالم فى القرن الماضى أو مثل التى خلفتها الحروب والويلات فى عقول وقلوب البشر فى كل بقعة بالأرض؟!. تتداعى الكوارث وتمر الويلات بعد أن تترك فينا علامة، فعادة ما يختلف البشر ممن يعاصرون الكوارث بعد مرورها، فقد تكسرنا الهزائم أو نستقوى بها.. فهل ستحدث هذه الأيام فارقا أم سنعود كما كنا ومن حيث أتينا؟.. إلى دنيا اللهو والعبث والمسافات البعيدة من جديد؟..

هناك بالفعل عدة مسائل تستدعى التأمل والوقفة مع النفس.. فالمحنة هذه المرة لم تستثن أحدًا، محنة جمعت البشر من كل جنس ودين ولون على كلمة واحدة هى.. يارب.

أنستنا الدنيا فى خضم صراعاتنا اليومية على المال والجاه والأوهام الكثيرة، واجباتنا الاجتماعية، أنستنا كيف نُعبر عن حبنا للأهل والأصدقاء، أنستنا الحضن الدافئ الذى كنا نُلقى فيه همومنا، حضن الأهل والأحبة والأصدقاء.. أنستنا الكثير من النعم التى تصورنا أن وجودها التلقائى لا يعنى زوالها يوما.. أنستنا أننا بشر!.

اليوم لو سألت أى شخص عن أكثر شىء افتقده فى فترة الحظر لرد فورا دون تفكير: «حُضن أمى». حاولنا جميعا فى بداية الحظر أن نبتعد عن ذوينا واكتفينا بالهاتف إذ ربما نشكل لهم خطورة بنقل العدوى دون قصد، ولكن بعد فترة وجيزة (وأنا هنا أتحدث عن نفسى أولا) لم نستطع، لأن الموت الحقيقى بالنسبة لأى أم وأب هو عدم استطاعتهم رؤية أبنائهم وأحفادهم لفترات طويلة، وإحساسهم بالبُعد عنهم مع قصر المسافات.. ولو سألتهم، هل الموت الأقصى هو الكورونا؟ لأجابوك بأن موتهم الحقيقى هو الوحدة فى غياب الأبناء وهم يقطنون الشارع القريب!.

فى عصر النسيان والجرى أيضا، نسينا أبناءنا.. فأصبح كل ما نفكر فيه هو كيف نؤمن مستقبلهم ماديا ونسينا الأهم: جسر التواصل الإنسانى، نسينا كيف نحتضنهم لنُشعرهم بالقُرب، نسينا أن نستمع إليهم وإلى مشاكلهم التى تبدو لنا تافهة، وأن نُشركهم فى مشاكلنا حتى لو بدت لهم سخيفة.. وجاء الحظر ليجمعنا بهم من جديد فى غرفة واحدة وتحت سقف واحد، وجود إجبارى، بدا فى أوله وكأنه نكبة، ثم تطور الأمر وأصبحت النكبة عادة والعادة مُلتقى أحببناه..

عشنا تفاصيل حياتهم وأصدقائهم ومشاغلهم البسيطة، تحدثنا وضحكنا وعدنا إلى لعبة السُلم والثعبان ببساطتها ومشاهدة أفلام إسماعيل ياسين معا، فضحكنا.. معا.

أصبحنا نأتنس بهم ونستمع إليهم، نشاركهم الرأى حتى لو لم يرق لهم، ويشاركوننا وقفة المطبخ، أخيرا جمعتنا موائد الطعام من جديد وكأن رمضان جاء قبل موعده بشهر..

نختلف؟.. طبعا، ونتفق؟.. أحيانا، ولكن فى النهاية نعبر معا، تشابكت قلوبنا دون أن تتشابك أيدينا لنعبر معا أيام من الملل والخوف والجزع..

سقط من أصدقائنا من سقط، والتفتنا فى لحظة لنجد من كانوا أمام عيوننا بالأمس، قد رحلوا، تاركين وراءهم رسالة صوتية وصورة وألف ذكرى.. لُمنا أنفسنا على لقاءات اعتذرنا عنها كان من الممكن أن تخلف ذكريات أكثر، وكلام كثير ربما لو قلناه لقصرت المسافات ولكن.. دق الناقوس ليذكرنا أن هناك من الأصدقاء من بقوا.. وربما آن أوان أن نتواصل معهم أكثر، ونقترب أكثر.. آن أوان أن نمد جسرا من المحبة معهم فربما يرحلون غدا.

عرفنا صلاة الغائب والدعاء من القلب بدلا من ارتداء الخواتم الماسية والأسود الزائف والذهاب إلى سرادقات العزاء بقلوب جافة من أجل اللقطة التى تبتعد كثيرا عن صدق المشاعر!. ببساطة شديدة.. تعلمنا قيمة الفقد.. فقد ما اعتدنا عليه.. وما تصورنا يوما أنه موجود للأبد واستيقظنا لنجده قد غاب.. تعلمنا معنى أن نفقد الطمأنينة.. أن نفقد الأحباب.. أن نفقد الأمل.. وأن نفقد الشمس.. فى فترة ما لم يكن هناك صور على مواقع التواصل الاجتماعى سوى للسيارات الفارهة والساعات الثمينة وآخر صيحات الملابس.. كانت مواقع التواصل الاجتماعى محاولة (للتنطيط) للتباهى والمنظرة الكاذبة، وفجأة أصبحت صور الأزهار والسماء والطبيعة هى البطل لكل كاميرات الهواتف المحمولة، فقد أصبحنا أخيرا نرى جمال الأشياء التى كانت موجودة يوما ما أمام أعيننا ولكن غابت طويلا عن نفوسنا. توطدت علاقتنا بالقرآن والإنجيل، بعدما كانت علاقة موسمية.. فرفعنا معا أيدينا إلى السماء، من كافة الطوائف والأديان ودعونا بقلوب تبحث عن الخلاص وقلنا: يارب.. يارب. أدعو الله أن تنتهى هذه المحنة فلا يبقى منها غير تلك الجسور التى امتدت بيننا والدعائم الإنسانية التى بنيناها بالمحبة.. اللهم تقبل منا يارب العالمين.