د. نصار عبدالله يكتب: ميلينا وإيناس

مقالات الرأي



رغم أن عددا لا يستهان به من النساء قد تولين وزارة الثقافة سواء فى منطقتنا أو فى غير منطقتنا من بلاد العالم، إلا أن عددا قليلا منهن، هن اللاتى يمكن وصفهن بأنهن من الفنانات المبدعات، وعددا أقل بكثير من هؤلاء المبدعات هن اللاتى يمكن وصفهن بأنهن محترمات بكل ما فى الكلمة من معنى. وعلى رأس الفنانات المحترمات تأتى الممثلة اليونانية الراحلة ميلينا ميركيورى التى أدركت إبان توليها الوزارة فى مطلع تسعينيات القرن الماضى مدى عمق الروابط التاريخية والثقافية التى تربط بين العالم العربى عموما ومصر خصوصا من ناحية وبين اليونان من ناحية أخرى فقررت إنشاء جائزة للشعر العربى تحمل اسم الشاعر اليونانى الذى عاش طيلة حياته فى الإسكندرية وارتبط اسمه بها كما ارتبط اسمها به ألا وهو قسطنطين كافافيس، ومنذ عصر وزارة ميلينا ميركيورى أصبحت تلك الجائزة تمنح فى كل عام لثلاثة من الشعراء أولهم من مصر وثانيهم من بلد عربى آخر وثالثهم من اليونان، وقد كانت ميلينا تحرص دائما على حضور الاحتفال بتلك المناسبة لكى تقوم بنفسها بتسليم الجائزة للفائزين (قدر لى شخصيا أن أحصل على الجائزة فى منتصف التسعينيات من العام الماضى لكننى رغم إعجابى الشديد بفن ميلينا الرفيع لم يقدر لى أن ألتقى بها أو أن أصافحها فى الاحتفال الذى كان مقدرا له أن يقام إذ ذاك، لأن ميلينا للأسف الشديد كانت قد غادرت الحياة بعد إصابة بمرض السرطان لم تصمد أمامها طويلا)، أما ثانى الوزيرات المبدعات اللاتى يمكن للمرء أن يصفهن وهو مطمئن بـأنهن محترمات قدر ماهن رائعات فهى الوزيرة المصرية إيناس عبدالديم التى أبهرت كل من استمع إليها من المصريين وغير المصريين وهى تعزف على الفلوت، والتى استطاعت من خلال الحفلات التى شاركت فيها فى عدد من المدن الأوروبية والأمريكية الكبرى أن تحصل على أرفع الألقاب العالمية فى هذا المجال، ويبقى أن أقول إنه كما كان لميلينا ميركيورى بالإضافة إلى فنها الرفيع دور كبير فى مجال النضال السياسى ضد أنظمة الحكم اليمينى فى اليونان مما مهد السبيل لفوز الحزب الذى تنتمى إليه وهو حزب التحرر الإشتراكى، كما كان لميلينا دور فى انتهاء حكم اليمين فى اليونان، فقد كان اصطدام إيناس بجماعة الإخوان المسلمين هو الشرارة الأولى التى انطلقت منها ثورة 2013 التى ترتب عليها إنهاء حكم جماعة الإخوان فى مصر، ذلك أنه عندما تولى الدكتور علاء عبدالعزيز منصب وزارة الثقافة مكافأة له على مقال كتبه فى مديح الرئيس السابق محمد مرسى، وكان ذلك المقال هو المقال الوحيد الذى كتبه علاء عبدالعزيز فى حياته بأكملها (إلى حد أنى أطلقت عليه فى حينها لقب: «وحيد المقال»، وقد انتشر هذا اللقب بين المثقفين انتشارا كبيرا).. عندما تولى الدكتور علاء عبدالعزيز منصب وزارة الثقافة أصدر قرارا بإنهاء ندب الدكتورة إيناس عبدالدايم كرئيس لدار الأوبرا المصرية، وقد رد العاملون بالدار على هذا القرار بالتظاهر السلمى لكن الوزير لم يعرهم اهتماما، وعندئذ، وتحديدا فى 4 يونيو 2013 تجمع عدد كبير من المثقفين فى مقر وزارة الثقافة وقرروا الاعتصام المفتوح إلى أن يقوم الوزير بإلغاء قراره، وقد حاول الوزير أن يقوم بهجمة مضادة فقام بجمع عدد من أصحاب المظالم فى الوزارة لكى يقوموا بمظاهرة مؤيدة لقرار الوزير، لكن عدد المثقفين كان كبيرا وآخذا فى التزايد المستمر مما اضطر أصحاب المظاهرة المضادة إلى الفرار، وأطرف ما فى الأمر أن الوزير نفسه كان واحدا من الذين لجئوا إلى الفرار دون أن يقوم بإلغاء القرار، وربما كان هذا قرينة أو لعله كان دليلا على أن القرار كان مملى عليه بحيث لا يملك إزاء من أملاه عليه إلا السمع والطاعة، ولقد استمر اعتصام المثقفين فى التصاعد وأخذ ينضم إليه يوما بعد يوم عدد متزايد من جماهير المصريين الذين يرفضون هذا التوجه الجديد لأخونة القيادات فى المواقع المختلفة، تلك الأخونة التى إن جازت فى موقع ما فإنها يستحيل أن تجوز فى الأوبرا بالذات، وإلا فهل هناك من بين أفراد تلك الجماعة من قدر له أن يشهد ولو مرة واحدة فى حياته عرضا واحدا من عروض الأوبرا؟.. وقد استمر اعتصام المثقفين قائما فى مقر وزارة الثقافة من يونيو حتى 30 يونيو حين تحول هذا الاعتصام المحدود بمبنى الوزارة والشوارع الجانبية إلى مظاهرات عارمة شملت كل أرجاء مصر.. وهكذا كانت الثورة.