د.نصار عبدالله يكتب: فى سوهاج: كيف تحولت مبادرة «حياة كريمة» إلى النقيض تماما؟

مقالات الرأي




على مدى الشهر الماضى فوجىء الكثيرون من أهالى سوهاج بأعداد من العمال تعتلى أسطح منازلهم دون سابق استئذان وتبدأ فى نصب السقالات، ثم تبدأ فى طلاء الجدران الخارجية، بألوان زاعقة قبيحة المنظر...ولمن لا يعلم فإن أغلب مبانى سوهاج ذات لون داكن ربما بفعل الزمن لكنه أكسبها طابعا مميزا ذا قيمة أثرية إلى حد كبير، وقدتبددت هذه القيمة بطبيعة الحال نتيجة لما أصابها من الألوان الزاعقة، لكن هذا لم يكن هو كل ما حدث ذلك أن اعتماد العمال على السقالات الخشبية العتيقة المربوطة بحبال غليظة، واستخدامهم لتقنيات بدائية جدا للطلاء أدى إلى إتلاف عدد كبير من الأجهزة التى يستخدمها الناس فى حياتهم اليومية بدءا من تقطيع أسلاك التليفونات ومرورا بخلع أو تحطيم أطباق الاستقبال الفضائى وانتهاء إلى تدمير مواتير المياه فى بعض الحالات، فضلا عن حدوث بعض السرقات مما هو موجود على الأسطح (تعاصرت هذه السرقات ربما بالمصادفة مع الفترة التى كان يعمل فيها هؤلاء العمال!.)..بالطبع ليس لدى المواطنين وقت يضيعونه فى تحرير محاضر بأقسام الشرطة، خاصة أن خبرتهم الماضية قد علمتهم أنه لا شىء سوف يعود عليهم من تحرير محاضر لا تقدم ولاتؤخر شيئا فى معظم الحالات. الغريب فى هذا الخصوص أن القائمين على الطلاء قاموا أولا بطلاء الأحجار التى تحدد حدود أرصفة المبانى وبعد أن قاموا بطلائها لم يعجبهم اللون فيما يبدو فقاموا باقتلاعها وتركيب حدود جديدة بل أرصفة جديدة بالكامل بدلا منها. لماذا قاموا بطلائها ما داموا سوف يقتلعونها؟ على أية حال فهذا ليس سوى مثال بسيط على كيفية تبديد الموارد. إننا لانعلم بالضبط حجم المبالغ التى أنفقت أو بالأحرى التى بددت فى سوهاج (لأن الإنفاق فيما لا يقدم للناس نفعا حقيقيا لا وصف له سوى أنه تبديد للموارد)، لكنها فى أقل التقديرات عشرات الملايين إن لم يكن مئاتها...السؤال الآن هو ما دامت الدولة قد استطاعت تدبير كل تلك الملايين فلماذا لم تنفقها فيما ينفع الناس فعلا؟ لماذا مثلا لم تحاول أن توفر بعض الأدوية فى المستشفيات الحكومية بدلا من أن تلزم المرضى بشرائها؟ لماذا لم تحاول أن تصلح الأجهزة المعطلة بها أو أن تشترى أجهزة جديدة بدلا من إجبار المرضى على إجبار التحاليل باهظة التكلفة فى الخارج، لماذا لم تقدم قروضا ميسرة للمشاريع الإنتاجية الصغيرة، فهذا سوف يساهم على الأقل فى زيادة الإنتاج بدلا من تشويه المبانى ذات الطابع شبه الأثرى بألوان زاعقة، لماذا لم تقم برصف الطرق المكسرة بدلا من قيامها بإعادة رصف الطرق المسفلتة فعلا (ربما لأنها قريبة من مبنى المحافظة)، وترك الطرق المكسرة على حالها (ربما لأنها بعيدة عن مقرات كبار المسئولين)...وفى المحصلة العامة فإن مبادرة الحياة الكريمة قد تحولت على أيدى المسئولين فى سوهاج إلى مبادرة لحياة يجد فيها المواطنون السوهاجيون أسبابا جديدة للتعاسة!، وكأن الحياة التعيسة التى يعيشونها فعلا لم يكن ينقصهاغيرهذه الغمة التى حطت على رؤوسهم على غير انتظار..فى ظنى أنه لا يكفى أن يقال السيد محافظ سوهاج من منصبه ولا السادة رؤساء الأحياء بها، لأنهم قد قاموا بتحويل مبادرة حياة كريمة إلى النقيض تماما من جوهرها، بل لا بد أيضا من تقديمهم للمحاكمة نتيجة لتبديدهم موارد الدولة...ومع هذا يبقى أن نقول إنه حتى فى ظل هذا الأداء السيئ لما قاموا به هناك جوانب إيجابية لا نستطيع أن نتجاهلها، فالعمال الذين قاموا بتنفيذ توجيهات المقاول ومن خلفه المسئولون، هؤلاء العمال الذين يعولون أسرا قد وجدوا فرصة للعمل فى وقت يسوده الكساد،وهذه ميزة إيجابية، والألوان الزاعقة التى قاموا بطلاء المبانى بها سوف تخفت حتما مع أول عاصفة ترابية تهب على سوهاج وما أكثر العواصف الترابية التى تهب عليها، ومع مضى الزمن وتعاقب العواصف سوف تعود المبانى إلى لونها الذى عهدناه وهو ما يمنحنا العزاء بأن هذا التشويه الصارخ المبهرج لن يستمر إلى الأبد، هناك عامل أخير لا أدرى هل أضعه فى جانب الإيجابيات أو السلبيات ألا وهو المقاولون الذين قضموا لقمة حكومية سوف تجعل الدفء يدب فى أو صالهم بعد أن كاد يهلكهم صقيع الشتاء.