د. مصطفى السعداوي يكتب: البنت التائهة.. نهاية حزينة لليلة الكبيرة

ركن القراء

د. مصطفى السعداوي
د. مصطفى السعداوي


رواية فنية سيقت أحداثها بإبداع سوف يبقي شاهدا علي عبقرية جاهين ومكاوي، عمل فني يوضح قدرة المصريين العجيبة على تحويل أي مناسبة، ولو كانت دينية مقدسة، إلى سبب للغبطة والفرح والسرور، وهي طبيعة الشعب المصري، الحدث الأصلي وهو ميلاد سيدنا الولي صاحب المقام تحول الي كرنفال اعتاد المصريون إقامته لتكريم أولياء الله الصالحين ... تجد بائع الحمص والقهوجي ولاعب الطارة وبائع البخت وبائع الطراطير بل عروضا فنية لسيرك شعبي يصارع فيه البطل المغوار ذو الجثة الضخمة يصارع أسدا مفترسا.

طغت فرحة وبهجة المصريين على المناسبة الدينية بكل قداستها وجديتها وتحول الأمر إلى كرنفال مصري خالص يأتي إليه الناس من كل حدب وصوب (دول فلاحين ودول صعايدة، دول م الكنال ودول رشايدة).

يبدأ العمل بأغنية قصيرة للتذكير بأنها مناسبة دينية صرفة أولا (قبة سيدنا الولي دول نوروها. محلا البيارق والناس بيزوروها، قبة سيدنا الولي في الجو عالية، محلا البيارق لما نوروها) قبل أن يتوه المعنى في غمار الاحتفالات الصاخبة... وقد يلاحظ أحد أن المفردات المستخدمة هي مفردات الشارع (بيارق وليست أعلام).

ثم يهل صوت بائع الحمص (محمد رشدي) للترويج لبضاعته بصوت ساحر (حمص حمص تل ما ينقص ع النار يرقص...يرقص يرقص ويقول اللي شاف حمص ولا كلشي، حب واتلوع ولا طالشي).

ثم يتوه صوت بائع الحمص في نداءات باقي البائعين وقبلها في صوت نهيق الحمار (الذي أدخله سيد مكاوي عن طريق الكمان) للدلالة على أن أي شئ وأي إنسان أو حيوان قد يتواجد في المولد. ثم يظهر المصوراتي ليعرض على الناس أخذ صورة تذكارية في المولد (خد لك صورة ستة في تسعة).

وفي وسط هذا الصخب يتوه أحد الشيوخ الذي يسعى للذهاب إلى منطقة المتولي، فيستعين بالسؤال وأوقعه حظه العثر في أراجوز، ولم ينس فيلسوف الشارع المصري صلاح جاهين أن يبرز اتجاه الغالبية العظمى من المصريين وحبهم للفتي وربما يعتقدون أنه من العيب أن يسألهم أحد على شارع او اتجاه ويقولون لا نعرف ..وكانت النتيجة أن تاه الشيخ المسكين في وصف الأراجوز (تدخل يمينك وشمالك، شارعين وفي التالت تكسر، على اليمين واخد بالك، وتمشي على طول تتمختر، تفضل كدة تمشي وتدب، وتخش من مطرح ما طلعت، ولما تلقى مقلة لب، تعرف بانك تهت وضعت!).

ثم يطوف بنا العمل على نوعيات أخرى داخل المولد مثل بائع الفريرة، ثم مروج السيرك الشعبي البسيط، ليعلن أن فقرات العرض غير مسبوقة، وربما أراد إقناع الرواد بأن العروض تستحق أكثر مما سيدفعونه بكثير (دي فرجة تساوي جنيه، وأنه بمناسبة هذا المولد يوجد بورنامج ساواريه) كما يعلن أن هناك بنات قمرات زي الشربات لاستقطاب البالغين من النظارة، ولم ينس استقطاب الأطفال عندما أعلن أن هناك شجيع بشنب بريمة يهجم ع السبع ويركب دوغري عليه، ولاحقا يتضح أن شجيع السيرك ضخم الجثة لا يسعى فعلا إلى مصارعة الأسد، فقد ضمن على الأقل أنه تم دفع ثمن التذكرة ولا داعي للمخاطرة بحياته!.

ثم يظهر سيد مكاوي بصوته ليعلن عن بضاعته من السمك (السمك مقلي كل وبرق لي، صنف زي الفل، استخار واختار، فشة أو ممبار، ياللا سمي وكل).

ويطوف الأطفال بفضولهم المعهود لموقع آخر فيه احتفال بطهور أحد المولودين الجدد، وأن الحمد لله تم الطهور بنجاح (ياعريس يا صغير علقة تفوت ولا حد يموت، لابس ومغير وحتشرب مرقة كتكوت)، بصوت جميل من إحدى مطربات الشارع والمولد (شافية أحمد).

ثم ينتقل بنا الحدث إلى أمر آخر، وهو كلاحة بعض المصريين المفلسين والجلوس على المقهى دون أن يطلبوا شيئا، فيوزع الاسطى عمارة المفلس (إبراهيم حمودة) هو وصديقه مسعد الأكثر فلسا منه التحيات على رواد المقهى (مسا التماسي يا ورد قاعد ع الكراسي) كنوع من التزلف والنفاق حتى يتركونهما يجلسان على المقهى دون أن يطلبا شيئا، ويصدح الريس حنتيرة مغني القهوة الصعيدي (صلاح عبد الحميد) بأغنية يا غزال يا غزال، إلى أن يستفيق صاحب المقهى من نشوة الطرب وينتبه إلى أن هناك البعض لم يطلبوا شيئا (اللي حيطلب راح يقعد واللي ميطلبش يبعد) ثم يتلقى الاسطى عمارة الرسالة المستترة ويقول لمسعد (يالابنا يا مسعد نخرج شارع الترماي).

وأثناء توجه الاسطى عمارة ومسعد شارع الترماي يلتقيان بلاعب الطارة (شفيق جلال) الذي يتحداه (يقدر بقدارة على زق الطارة ويفرقع بومبة)، وقد كان الاسطى عمارة يعرف داخل نفسه أنه سيفشل بكل تأكيد في هذا التحدي، ولكنه أراد أن ينسحب بكرامة من هذا التحدي بأن (البدلة جديدة) بعد أن أكد بصوت عالي (أنا أزق الطارة وأضرب ميت بومبة، ده انا الاسطى عمارة من درب شكمبة)، وهو أحد الأماكن الشعبية في مصر، ويقع في شارع السد ويبعد عن مسجد السيدة بمسافة قريبه جدا، وأن صيت الاسطى عمارة وشهرته تمتد من منطقة القلعة إلى منطقة سويقة اللالا وهي  في حي السيدة زينب، وقد سميت بهذا الاسم نسبة للست صفية اللالا التي كانت تعمل مربية لأولاد الملوك والأمراء في هذه الحارة، إضافة إلى زاوية تسمى صفية اللالا دفنت بها ويقام بها مولد في كل عام احتفالا بها، أما السويقة فهي سوق صغير يتبضع منه الناس ما يحتاجونه، ثم يسخر منه لاعب الطارة (هههأة سعيدة يا بو بدلة جديدة).

ويسير الاسطى عمارة وتابعه مسعد ليجدا مقهى آخر فيه مغنية وراقصة تتغنى بأغنية طار في الهوا شاشي (عصمت عبد العليم) ويقضيا وقتا ممتعا إلى أن يتنبه صاحب المقهى لهما هو الآخر ليعلن بصوت حاسم (اللي حيطلب راح يقعد واللي ميطلبش يبعد) لينسحب الاسطى عمارة بهدوء مرة أخرى هو ومسعد لمكان آخر، وشخصية الاسطى عمارة هي شخصية متواجدة في المجتمع المصري.

وينتبه الجميع لقدوم بعض الذاكرين الصوفيين (ناس من بلدنا هناك أهم، روح يا ابراهيم انده لهم) ويتعانق الجميع وينشدون جميعا في حب سيدنا الولي (شفت في منام صاحب المقام ده أبهة، ويمامة حايمة عليه بتسبح ربها، ميلت فوق يده وجيت أحبها، صحوني م النوم خدت بعضي وتني جاي) ويتيه الجميع في ذكر صاحب المقام إلى أن يقطع هذه النشوة الدينية صوت امرأة (حورية حسن) تبكي على فقدان ابنتها، وتسأل المارة عليها (رجلها الشمال فيها خلخال زي ده) لينتهي المولد نهاية سيئة لكن يتغنى الجميع (الليلة الكبيرة ياعمي والعالم كتيرة ماليين الشوادر يابا م الريف والبنادر) ربما أملا في استكمال البهجة أو تيقنا بأن البنت التائهة حتما ستجدها أمها المكلومة التي تاه بكاؤها وأنينها على ابنتها في زحام المولد وصخبه!.. ومازال المولد مستمر ومازلنا نجهل مصير البنت التايهة.