د. نصار عبدالله يكتب: خريجو كلية الاقتصاد والعلوم السياسية «٢»

مقالات الرأي




شاءت المصادفة، وأنا أكتب هذه السلسلة من المقالات، أن يفوز الدكتور أحمد يوسف أحمد بجائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية، ومن ثم فإننى أنتهز هذه المناسبة لكى أتقدم بالتهنئة إلى القائمين بأمر هذه الجائزة قبل أن أتوجه بها إلى الدكتور أحمد نفسه، فقد أعاد فوزه بها الكثير من الاعتبار والمصداقية التى طالما فقدتها الجائزة على مدى السنوات الماضية بمنحها إلى الذين يقلون كثيرا فى القيمة العلمية والأدبية عن أولئك الذين لم يمنحوها، وفى رأيى وأعتقد أننى لست مبالغا فى ذلك أنها قد تأخرت عن الدكتور أحمد يوسف، عشرين عاما على الأقل، بفضل دراساته الرائدة عن القضايا المرتبطة بالمصير العربى وبوجه خاص: «الخلافات العربية» وأنه إن كان الآن جديرا بجائزة ما فى العلوم الاجتماعية فهى ليست التقديرية ولكنها «النيل» بغير شك أوعلى الأقل فهو واحد من الذين يستحقونها دون أن يقلل هذا من شأن الكثيرين ممن حصلوا عليها فعلا، سواء على المستوى العلمى أو على المستوى الإنسانى، وبهذه المناسبة فإننى أستعيد هنا ما سبق أن نشرته فى هذا المكان منذ سنوات عديدة عندما كتبت قائلا: «من بين الثوابت التى نتفق عليها ـ  نحن جيل الستينات من خريحى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية رغم اختلافاتنا الكثيرة فى النظر إلى المواقف وإلى الناس والأشياء.. من ثوابتنا أن: «أحمد يوسف أحمد» هو من أنبل وأجمل ما فينا!!..لا أعرف أحدا من زملائنا الذين عاصرونا أو حتى من الذين جاءوا بعدنا ممن عرفتهم بعد ذلك، إلا وهو يرى نفس الرأى ويشعر نفس الشعور، فمنذ تخرجه فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى أواخر عقد الستينات من القرن الماضى.. كانت سماته الفكرية تزداد مع الوقت نضجا واتضاحا، فهو قادر دائما على التمييز بين ما هو جوهرى وما هوعارض، وبين ما هو أساسى وفرعى، وهو قادر دائما على التفكير الموضوعى الهادىء المتجرد من الأهواء والانحيازات، رغم أنه  ـ مثل كل أبناء جيلنا تقريبا،  واحد من المهمومين بهموم الأمة العربية والموجوعين بأوجاعها والمتطلعين إلى مستقبل لها أفضل من الحاضر، وهو قادر دائما على العرض الواضح والمقنع لأفكاره مما جعله فيما بعد واحدا من الأساتذة المتميزين بالغى التميز فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بشهادة زملائه وتلامذته، ثم بعد ذلك أستاذا ومديرا مقتدرا لمعهد البحوث والدراسات العربية....أهم من سماته الفكرية كانت سماته الإنسانية والأخلاقية التى كانت تزداد مع الوقت تأكدا ورسوخا، فهو ينضج ويتطور.. نعم  .. لكنه لا يتحول كما فعل الكثيرون مع تحولات الريح،  بل يبقى دائما مخلصا لمبادئه وتوجهاته، قابضا على كلمته ولو كانت هى الجمر، وهو مدرك دائما لقيمته كباحث ومفكر، مترفع عن السعى إلى المناصب أو التكالب على الأضواء، ومع هذا فهو لا يبخل بجهده على المنصب العام حينما يجيئه المنصب العام دون سعى منه، لكنه لا يتعامل معه حينئذ باعتباره مكسبا أو غنيمة بل باعتباره عبئا وواجبا يتعين عليه أداؤه، وعندما يرى أن الموقع الذى وضع فيه لا يحقق الحد الأدنى من الهدف المأمول منه فإنه ينسحب منه فى هدوء ودون ضجيج أو محاولة للمتاجرة الإعلامية  بالموقف الذى أملاه عليه ضميره (على سبيل المثال  فقد استقال  فى صمت من المجلس القومى لحقوق الإنسان  عام ٢٠١٠ عندما شعر بأن التوصيات التى يقدمها المجلس لا يلتفت إليها أو لعلها لا تقرأ من الأصل!)...قليلون جدا من بين العلماء والمفكرين فى بلادنا هم من يجمعون بين امتلاك هذا القدر من الإخلاص لمبادئهم، وهذا الزهد الشديد فى المناصب والتضحية بها فى صمت شديد ودون ضجة إعلامية إذا ما كانت منطوية ولو على الحد الأدنى من التعارض مع المبادئ، وفى السنوات الأخيرة واجه الدكتور أحمد يوسف نفس المشكلة الصحية التى يعانيها الكثيرون من أصدقائنا والتى يعانيها أيضا الكثيرون من أبناء شعبنا المصرى وأعنى بها التليف الكبدى الذى استلزم فى النهاية سفره إلى باريس لإجراء عملية نقل كبد، وقد كللت العملية بعون الله بالنجاح، وعاد إلى القاهرة، لكى يواصل عطاءه الأكاديمى وكتاباته الصحفية المتميزة التى تتسم بالموضوعية والعمق والجاذبية فى آن واحد، ومن بين تلك الكتابات التى لا تنسى مرثياته لغياب الكثير من الرموز التى كان وجودها يملأ حياتنا بالأمل بأن مستقبل الأمة العربية لم يغرب بعد رغم كل ما أصاب ذلك الأمل من الانتكاسات والانكسارات، ومن بين تلك المرثيات مرثيته لجريدة السفير اللبنانية التى صدر عددها الأول فى عام ١٩٧٤ والتى كانت منذ بداية صدورها تحمل شعار «جريدة لبنان فى الوطن العربى وجريدة الوطن العربى فى لبنان» والتى ظلت طيلة فترة صدورها وفية لهذا الشعار إلى أن اضطرت إلى الإقفال والرحيل فى عام ٢٠١٦ فكان رحيلها مؤشرا لأفول مرحلة من أحلامنا يستوجب أن يتوجع من أجلها ذلك النموذج الجميل الذى إن كان نادرا فى كل الأزمنة، فهو فى زماننا  هذا أشد ندرة، وهو ما سجله الدكتور أحمد يوسف بقلمه البديع، وكم أتمنى أن يكون فوز أحمد يوسف بجائزة الدولة التقديرية ليس منطلقا فقط من مجرد استحقاقه للجائزة وهو يستحقها كما أوضحت، ولكنه إرهاص بأن مصر قد بدأت تسعى إلى استعادة دورها الرائد فى محيطها العربى، وهى أيضا تستحق!