د.نصار عبدالله يكتب: مكرم.. الأستاذ «٢»

مقالات الرأي




توقفنا فى الأسبوع الماضى عند واقعة إطلاق النار على مكرم محمد أحمد عام ١٩٨٧ من جانب فصيل من القوى الظلامية التى كان مكرم دائم الكشف لزيف دعاواها وتمسحها زورا بالإسلام، (تبين فيما بعد غير أن هذا الفصيل يطلق على نفسه: «الناجون من النار» غير أن تلك الواقعة لم ترهب الأستاذ مكرم ولم تثنه عن مواصلة كتاباته التنويرية، بل على العكس تماما فلقد قام من موقع إيمانه بأهمية الحوار العقلى بلعب دور مهم فى الحوار مع بعض السجناء السياسيين الإسلاميين وفى إقناعهم بمدى الخطأ الذى ارتكبوه فى حق مجتمعهم ووطنهم ما أسفر بعد ذلك عن قيامهم بصياغة ما عرف بوثيقة المراجعة التى هى وثيقة تاريخية بكل المعايير، أما رابع الأسباب التى تجعله جديرا حقا بوصف الأستاذ فيتمثل فى أنه نموذج نادر للصحفى الذى لم يبع قلمه قط ولم يتكسب من مهنته قط، وعلى مدى حياته المهنية بأكملها لم يتقبل هدية أو دعوة واحدة مشبوهة وجهها إليه شخص من الأشخاص أو جهة من الجهات أيا ما كانت جنسيتها أو انتماءاتها، وعندما كان فى موقع المسئولية فى دار الهلال كان يحرص حرصا شديدا على عدم التساهل مع أى صحفى يجعل من نفسه أداة لخدمة ذلك المسئول أو ذلك الأمير أو هذا الوزير، أو يصدر منه ما يسىء بأى وجه من الوجوه إلى شرف مهنته كصحفى، وفى المقابل كان يقف بكل ما أوتى من قوة إلى جانب أى صحفى يواجه أى ضغط أو يتعرض لأية مشكلة أثناء أدائه لعمله بل إنه كان يقف إلى جانب أى صحفى يتعرض لمشكلة ما حتى لو لم تكن لها صلة بعمله..ربما يأخذ البعض على مكرم محمد أحمد أنه شديد القرب من رأس النظام الحاكم وأن هذا فى حد ذاته قد يطعن فى استقلاليته كصحفى، وقد يفقده مصداقيته فى تقديم نفسه كواحد من الذين يدافعون عن الكيان المستقل لمهنة الصحفى..وصحيح أنه واحد من المؤيدين لأغلب قرارات وسياسات الرئيس مبارك كما كان من قبل واحدا من المؤيدين لأغلب سياسات وقرارات الرئيس أنور السادات، لكن الأمانة تقتضى منا مع هذا أن نسجل له فى هذا المجال أنه يختلف اختلافا جذريا عن غيره من المؤيدين فى أنه ليس واحدا من الذين يقدمون ولاء مفتوحا ويبصمون للحاكم مقدما على بياض ويقبلون سلفا كل ما يمكن أن يصدر عن الرئاسة من القرارات!!!، بما فى ذلك ما قد يتعرض منها للمساس بحرية الصحفى أو بكرامته أو بلقمة عيشه، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو ما حدث فى خريف الغضب الشهير عام ١٩٨١ عندما أرسلت مؤسسة الرئاسة إلى رؤساء مجالس الإدارات الصحفية قائمة بأسماء المغضوب عليهم من الصحفيين العاملين لديهم طالبة فصلهم أو نقلهم إلى جهات عمل أخرى، يومها سارع الكثيرون من رؤساء مجالس الإدارات إلى تنفيذ ما طلبته الرئاسة، بل إن بعضهم قد تطوعوا وأضافوا إلى القائمة أسماء أخرى حتى يبرهنوا للرئاسة على مدى ولائهم وتفانيهم فى خدمتها..شخص واحد فقط هو الذى رفض فصل أى صحفى تابع لمؤسسته، مبلغا الرئاسة بأن هؤلاء الصحفيين سوف يستمرون فى عملهم على مسئوليته، وإذا كان لا بد أن يذهبوا فسوف يكون هو أول الذاهبين معهم!!! (روى لى هذه الواقعة الأستاذ ماجد عطية الذى كان فيما روى واحدا من قائمة المغضوب عليهم)، كما يختلف مكرم عن المؤيدين الآخرين فى أنه لم يستثمر هذا التأييد قط لتحقيق منافع شخصية (بعض المؤيدين الآخرين تضخمت ثرواتهم الشخصية إلى عشرات الملايين أو إلى مئاتها فى بعض الروايات).. لم يستثمر مكرم صلته الطيبة بالحكم لتحقيق منافع شخصية ولكنه استثمرها فى أمرين: أولهما هو تحقيق كل ما يمكنه تحقيقه لمصلحة المشتغلين بمهنة الصحافة خاصة عندما يجدون أنفسهم فى مواجهة غير متكافئة مع القوى الأمنية الباطشة التى لا تختلف فى مسلكها كثيرا عن مسلك قوى الإرهاب وثانيهما هو أن قربه من النظام كمثقف يتيح له أن يقدم رؤيته الخاصة التى قد تكبح ولو فى حدود معينة جماح ما يريده الحاكم بالوطن ككل أو بجماعة المثقفين بوجه عام وبجماعة الصحفيين بوجه خاص، والواقعة السابقة التى رويناها منذ قليل مثال على ذلك.. الكثيرون من المثقفين المتعاونين مع الحكام، خاصة مع الحكام المستبدين يبررون ذلك لأنفسهم بأنهم إن لم يفعلوا ذلك، فسوف يفعله غيرهم بدون شروط أو خطوط حمراء، وسوف يطيع الحكام ولو على حساب أبناء مهنتهم، أما هم فإنهم سوف ينقذون كل مايمكن إنقاذه..الكثيرون من المثقفين يقولون لأنفسهم هذا.. لكنهم عندما تحين لحظة الاختبار ينسون خطوطهم الحمراء والخضراء ويتصرفون مثل الآخرين تماما.. وحده، ووحده فقط مكرم محمد أحمد هو الذى لم ينس هذه الخطوط، وعندما حانت لحظة الاختبار تصرف كما يليق بالمعلم والأستاذ.