د. رشا سمير تكتب: الساحل..وما أدراك ما الساحل؟!.

مقالات الرأي




كنا صغار ننتظر قدوم الصيف لنجري ونرتمي في أحضان البحر..

فصل الصيف بشمسه الدافئة وليالي الأنس على الكورنيش..الأسكندرية عروس المتوسط.

لازلت اتذكر شنطة السفر التي كنا نلقي فيها بكل شئ وأي شئ قادر على أن يدخل السعادة على قلوبنا الصغيرة..لازلت أتذكر الطريق الطويل وأغاني العندليب.

كنا أطفال ننتظر بفرحة أن تلمح عيوننا زُرقة البحر فور صعود السيارة الشارع الضيق المرتفع الذي يأخذنا إلى أول خيط البحر، لتتسلل رائحة اليود إلى أنوفنا فنرقص فرحا..

العوامة..المايوه..الجردل والجاروف..الكلو كلو..والفريسكا..

تلك كانت الذكرى السعيدة لأي طفل مصري منذ أربعون عاما مضت..

ولأن التغيير هو سمة الزمان..فقد تبدلت هذه الصورة البسيطة ورحل الحلم الجميل لمصيف هادئ إلى صخب وجنون وضجيج بلا حدود..كيف حدث هذا التغيير؟

دعونا نبدأ الحكاية من البداية...

من العجمي وإليها:

منذ سنوات طويلة، كان مصيف الغلابة ومتوسطي الدخل هو بلطيم أو رأس البر أو مرسى مطروح، وبعض الأماكن البسيطة في الإسكندرية..وفى الأسكندرية كان الخروج في المساء على الكورنيش من المندرة والعصافرة وميامي وسيدى بشر.

كان العجمي والمعمورة مصيف الأغنياء..ثم فجأة سقطت المعمورة في قبضة الفوضى..وأصبح العجمي متفردا هو مصيف أولاد الذوات.

شاطئ الفردوس كان من أوائل الشواطئ الخاصة في منطقة بيانكي، فكان حلم الوصول إلى رماله لرؤية الفنانين والمشاهير ورجال الأعمال، الذين إمتلكوا فيلات وقصور في شارع الحنفية..أشهر شوارع العجمي على الإطلاق.

حفلات السمر في ليالي الفردوس هي ما دفعت الأستاذ عادل حمودة لكتابة أولى مجموعاته القصصية (بنات العجمي) والتي حملت حكايات الأثرياء (العجميستا) وما يدور خلف تلك الأبواب المغلقة في ليالي الصيف.

هنا بدأت أولى مطاردات البسطاء للأغنياء في محاولات اللحاق بهم ومطاردة أحلامهم.

وفجأة دون سابق إنذار إحتلت العشوائيات منطقة العجمي..بناء بدون تراخيص، وشباب يقتحم الشواطئ الخاصة، وظهور كائن التوكتوك في شارع الحنفية!..

هنا قرر الأغنياء الفرار فورا بإتجاه الساحل الشمالي..من العجمي والمعمورة إلى سيدي كرير ومراقية..واستمرت المطاردات..

لتموت مراقيا وتظهر مارينا، أجمل قرية على الاطلاق من حيث التصميم في الساحل الشمالي ولازالت في الحقيقة هي الأجمل شكلا ولكن موضوعا!! حدث ولا حرج!.

مارينا نهاية الساحل الطيب:

أصبحت مارينا لسنوات هي البريمو في الساحل الشمالي..فيلات الوزراء والفنانين الذين هاجروا من العجمي إلى مارينا..

لسنوات طويلة ظلت مارينا هي وجهة الأغنياء وقصص الصيف الطويلة..

إبنة الوزير تخطف زوج الفنانة الشهيرة..الفنانة المعتزلة تخلع الحجاب على شواطئ مارينا..القبض على إبن رجل الأعمال بسبب تعاطي المخدرات..وهكذا..

مع دخول الإيجارات إلى شواطئ مارينا، باءت كل محاولات الملاك ومجلس الإدارة بالفشل أمام جيوش التتار..

حتى وصل الأمر برواد مواقع التواصل الاجتماعي هذا العام إلى تقسيم الساحل إلى ما قبل مارينا وسموه (الساحل الطيب)..ومابعد مارينا وسموه (الساحل الشرير)!.

تحولت مارينا قرية الوزراء والفنانين بسبب الإيجارات إلى مكان شعبي وزحام مربك، وعلى على الرغم من محاولات مجلس إدارة القرية لسنوات طويلة الحفاظ على قيمتها وسكانها وفرض رقابة صارمة على الأبواب جعلت الأبواب تكتظ بالزوار..إلا أن كم الإيجارات نجح في جعل المايوة على الشاطئ صورة ملفتة للنظر وتولد لدي الفتيات شعور بعدم الراحة على شواطئ مارينا..خصوصا بعد أن تحولت مارينا 4 إلى شارع خالد بن الوليد!.

الشواطئ إمتلأت بالمستأجرين في فترة العيد وما بعدها، مما جعل أصحاب الفيلات البؤساء لا يفكرون سوى في بيع أملاكهم والرحيل ولو بخسارة..

حتى لسان الوزراء أصبح إسما على غير مسمى..وكلمة السر طبعا هي..الإيجار!.

الساحل الشرير:

هكذا ظهرت هاسيندا، مراسي، أمواج، ستيلا، الدبلوماسيين (الشهيرة بدبلو)، تلال وسي شل وغيرها..

العمران ينتقل غربا..والغلابة لازالوا يحملون حقائبهم مرتحلين خلف الأغنياء في محاولة لدخول جنانهم..والله أعلم ربما تصل تلك المطاردات يوما ما إلى حدود ليبيا!.

دخول القُرى تحول هذا العام إلى بدعة جديدة للحد من إنتشار الغوغاء، فكل مالك من حقه أن يستضيف أربعة أشخاص كل يوم (وهذا بالأكثر في مراسي) إلا أنه مطبق في أغلب القرى المجاورة، ببساطة يرسل صاحب الفيلا الأسماء للإدارة، فترسل إليه كود، يرسله لأصدقائه، ليتم عمل سكان له على بوابة الدخول والسماح للسيارة بالدخول! وكأنك تتقدم بطلب فيزا!..

العادي جدا أن الشباب بدأوا يتحايلون على هذه الطريقة بطرق أخرى، مثل القيام بعمل حجز وهمي في أحد المطاعم الموجودة في القرى، وبالتالي يقوم المطعم بترك إسمه على الباب، وبالفعل يدخل الشاب متوجها إلى المطعم إلا أنه يحول وجهته إلى الشاطئ!.

ويبقى سؤال كل يوم: "حد يا جماعة يعرف حد في القرية الفلانية علشان يبعت لنا كود؟!".

لغز دخول المطاعم:

استوقفني حوار دار بين شابة تحاول الحجز في أحد مطاعم الساحل الشهيرة (وهم كثر) وبين الموظف المسئول عن الحجز..

" هاي..عايزة أحجز خمس أفراد عندكم بكرة..في أماكن؟"

يرد الرجل: " معاكم محجبات؟ شكل حجابهم إيه؟".

ويستطرد: "طيب عايز الأسماء والفيسبوك أو الإنستاجرام أكونت بتاع اللي جايين وبيشتغلوا إيه؟ ونازلين في قرية إيه؟"

إلى هنا أسقط في يدي!..وبدأت أتسائل عن الموضوع..فعرفت أن الموضوع ببساطة هو أن المطاعم وأماكن السهر اللي حبيبي طلع فيها واتشهر (الله يمسيك بالخير يا عمور)!، تحاول إنتقاء الزبون الذي سوف يأتي للعشاء..محاولة عجيبة لمعرفة معلومات عن طريق الفيسبوك وتوجهاته وأقاربه وبيئته (ده لو جاي يخطب بنت صاحب المطعم ماكنش دقق أوي كده!).

ذكرتني هذه اللقطة بلقطة صاحب مطعم أندريا الشهير حين كان يقف على الباب ويقوم بنفسه بعمل ما يسمى بالdoor selection..على الرغم من أنه من الرواد الأوائل في هذا الموضوع وتمت مهاجمته من قبل الكثيرين إلا أن هذا الموضوع أصبح هوية الساحل وعنوانه..

أنت على مزاج أصحاب المطاعم والقرى فأهلا بك..وأنت لا ترتقي لمستوى المترددين على المكان فوداعا والقلب داعيلك!.

لو سألت أصحاب المطاعم عن وجهة نظرهم لأجابوا:

" هي محاولة لجعل المترددين على المكان يشعرون بالألفة مع من يشبهونهم، وحتى لا يتسلل شخص غير مرغوب فيه ويثير المشاكل".

ولو سألت الشباب لأجابوا:

" فكرة كوول..علشان الجو يبقى لذيذ وكلنا شبه بعض"

ولو سألت العقل والمنطق لوجدنا أن هذه الطريقة هي خطة تسويق عظيمة لأماكن تبدو في ظاهرها مختلفة، ولفئة كل ما يهمها هو المظاهر الخادعة..

إن مصايف أغنى أغنياء العالم مثل كوستا دى لا سول وشواطئ كان والكاريبي وغيرهم لا يحدث فيها هذا على الإطلاق..فالكل مرحب به..والتحريات البوليسية لا مكان لها في مصيف يأتي البشر إليه للإستمتاع بأموالهم..ولكن..أهلا بكم في إمبراطورية الساحل الشمالي!. 

Generation Z شباب الساحل القادم:

شباب الساحل يبدو شباب مختلف قليلا، وخصوصا الصغار منهم الملقبين بلقب

( Generation Z) المولودين ما بين 1997 و2012.

هم يتنقلون على الطريق بالسيارات بسرعة الصاروخ، أما في أيام الحفلات ومطربين المهرجانات يتحول المشهد إلى يوم الحشر، تتكدس السيارات فوق الطريق الرئيسي، حتى يصبح أقل مشوار ساعة زمن كاملة.

وكأن محاولة الإستجمام تحولت في الساحل إلى معاناة.

الشباب الصغير لا يتحدثون سوى الإنجليزية، والعربي أصبح عربي مكسر مع الأسف أو إنجليزي صرف، وكأن الإحتلال الإنجليزي للقاهرة قد عاد من جديد متنكر في المايوه!.

الفتيات الصغيرات يتعاملن وكأنهن نساء مجتمعات، نسخة طبق الأصل من أمهات تتحدث نفس اللغة وتحمل حقائب يد أغلى الماركات والخواتم الماس في أصابعهن على الشاطئ لزوم الإستعراض!..

المنظرة الكاذبة أصبحت إرث إنتقل من الأمهات إلى الفتيات..

لا يترامى على سمعك طوال الوقت سوى حوارات حول أخر موديلات السيارات ومصايف اليونان وأخبار الفاشونيستاز والبلوجرز، ولغة تتسم بالغرابة والتفاهة الشديدة.

خلاصة القول..الساحل الشمالي مصيف مختلف..لكنه مسلي لمن يمتلك القدرة المالية والنفسية على الصمود!.