طارق الشناوي يكتب: الإنسان أصله "نمس".. شريف عرفة يمنح محمد هنيدى قبلة الحياة!

الفجر الفني

بوابة الفجر




يجيد المخرج شريف عرفة قراءة الحياة الفنية بأدق تفاصيلها، والجمهور بكل أطيافه، والنجوم بعمق مواهبهم المسكوت عنها قبل المكشوف عنها.

نموذج استثنائي للسينمائي المحترف، يقدم النغمة الدرامية والجمالية التي يحلم بها، وفي نفس الوقت يقرأ شفرة الجمهور ليصبحا على موجة واحدة.. بزاويةٍ ما، يبدو لي عرفة عقلاً بارداً منضبطاً لا يترك أي شئ للمصادفة، إلا أنه بزاوية أخرى قلب ساخن مرن يترك مساحات من الحرية تفرضها عليه اللحظة.

الرهان على محمد هنيدي بات غير مأمون العواقب بعد سلسلة من الإخفاقات الرقمية، وآخرها (عنترة بن بن بن بن شداد). داخل مصر، فقد الكثير من حضوره، بينما لا يزال خليجيًا لديه دائرة ليست قطعًا بنفس القدر، إلا أنها تُشكل حائط الدفاع الأخير. اللعب بأوراق من زمن فات يحتاج إلى مغامرة. لدينا جمهور من الشباب يمثل القوة الشرائية الأكبر، ليس من بين نجومه المفضلين هنيدي، بينما راهن شريف عرفة على أن هذا الجمهور يبحث عن الشاشة قبل النجم، وهكذا قدم شاشة جاذبة بالصوت والصورة والموسيقى والحركة والإضاءة يتوسطها محمد هنيدي، لا يشغلها بمفرده، يحيطه مجموعة من أصحاب المواهب، قدموا لنا الضحكات الموازية.. وفي النهاية أعادوا تدشين هنيدي نجمًا للشباك.

الشكل السينمائي العصري الذي تلعب فيه تقنية (الجرافيك) دور البطولة، وصل فيه عرفة للذروة على المستوى المصرى.. الشاشة جاذبة بكل المفردات التشكيلية والجمالية بـ(هارمونية) تجمع: أداء الممثلين، والموسيقى مودى الإمام، والرقصات عاطف عوض، والإضاءة أيمن أبوالمكارم، والديكور باسل حسام، والمونتاج داليا ناصر، والملابس إيناس عبدالله.. كل الأسلحة وقفت في المقدمة لتشارك في صناعة البهجة.

عالم شريف عرفة الخيالي بدأه في نهاية الثمانينيات في أولى خطواته كمخرج (الأقزام قادمون) مع رفيق رحلة البداية (ماهر عواد)، وتواصل المشوار(سمع هس) و(الدرجة الثالثة) و(يا مهلبية يا).

تغير المؤشر قليلًا في المرحلة التالية مع دخول وحيد حامد الكاتب وعادل إمام النجم الجماهيري الأول في (اللعب مع الكبار)، ظل هامش الخيال يعبر عنه شريف سينمائيًا، لنرى فيه أيضاً عالمه الخاص الممزوج بشعبية عادل وفكر وحيد، ودائماً هناك الحداثة في التعبير السينمائي.

البعض يحاول تصنيف فيلم (الإنس والنمس) في إطار سينما الرعب، لا صلة للفيلم بالرعب، لأنه يعتمد أساسًا على الاستغراق العاطفي، لتعيش كمتلقٍ تحت سطوة حالة من التوحد على الشاشة، بينما الكوميديا لأنها تخاطب العقل توقظك بين الحين والآخر من الاستغراق فتقتل مشاعر الرعب.. الرقابة منحت الفيلم تصريحًا بالعرض العام، والفيلم منسوج بروح طفولية.. مسموح للأطفال في الملاهي بدخول بيت الرعب ليعيشوا تلك اللحظات التي لا تصل بهم أبدًا إلى الهلع والصراخ، ولكن الضحك.. بطل الفيلم هنيدي يحمل وجه ومشاعر طفل، قاد الجميع إلى بيت الرعب الهزلي.

بناء الشخصية رسمه شريف في القصة والسيناريو الذي شارك في كتابته مع كريم حسن بشير هنيدى، يعمل موظفًا فى الملاهى، وتحديدًا بيت الرعب، عندما ينتقل إلى بيت حقيقي للجن حيث الرعب على أصوله، بينما يظل المتفرج مرتدياً قميصاً واقياً يمنعه من الاستغراق اسمه الضحك.

هنيدي يشع في الكادر فيضًا من البهجة، عرفة أشعله إبداعيًا، كما أنه أحاطه بمجموعة من الشخصيات أقرب إلى (الكاركتر)، مثل أمه عارفة عبدالرسول، وشقيقته دينا ماهر، وزوجها محمود حافظ، مرسومة دراميًا أحادية الاتجاه وبلا دور، وهو أضعف ما في البناء الدرامي.

الممثل الذي سرق العين هو شريف دسوقي، ينتمى إلى قبيلة الفطريين الذين يبحث عنهم عرفة، مثل الراحلين سامي سرحان ومحمد يوسف، هؤلاء يحطمون الخط الوهمي بين الأداء والمعايشة، يؤدي «دسوقى» دور والد هنيدي، الكل كان يعتقد أنه رحل عن الدنيا، ويقدمه كحبيب سابق لصابرين أم منة شلبي، ملمح أسطوري ألبسه عرفة لتلك الشخصية التى تحمل أمتعتها في (مخلة) وتتعدد اللهجات والأنماط التى نراه عليها.. عمرو عبدالجليل يؤدي دور زعيم الجن، توافقت طبيعته وطغيان حضوره مع الشخصية، كما أن صراعه الطفولي مع بيومى فؤاد ساهم في تأكيد حالة الفيلم.

منة شلبى نراها في لمحات قليلة، حضورها أقرب للفلاش السريع الذى يضىئ الشاشة، تنتمى لعالم الجن، إلا أنها أيضا تنتمى للإنس، فهي في منطقة متوسطة، عبّر عنها المخرج بالمكياج الشكلي والصوتي والحركي، فهي أقل حدة من أمها صابرين.

القصر البعيد داخل جزيرة نائية لا تنتمى لعالم البشر، يلتقي هنيدي مع حارس إلى آخر، يختار شريف أسماء الحراس الثلاثة أقرب للشتائم، ويؤدي ممثل واحد الثلاث شخصيات، وتأتي الرابعة فيدفع في تلك اللحظة بسليمان عيد، ليتواصل الضحك أكثر قبل أن يصل المتفرج لحالة التشبع، وتلك بالضبط هي الحرفية في قراءة الجمهور، ينتهى الفيلم ولا نزال نعيش أيضاً في عالم ينتمى للمساحة الفاصلة بين الإنس والجن.

رفع عرفة اسم هنيدي من قوائم النسيان، منحه دوراً في الملامح الخارجية يشبه أدواره السابقة، الشاب الباحث عن فتاة أحلامه، صدقناه هذه المرة لأن الشاشة كانت هي البطل.

ويبقى السؤال: ماذا بعد؟.. عاد التواصل الساخن لهنيدى مع الجمهور، إلا أنه إذا أراد مواصلة الحضور على الشاشة، عليه الانتقال لمنطقة درامية أخرى تتوافق مع المرحلة العمرية التى يعيشها، وربما يفعلها مجددًا مع شريف عرفة!!.

[email protected]

المقال: نقلاً عن (المصري اليوم).