حكايات المنبوذين فى الأرض

العدد الأسبوعي

بوابة الفجر


سافر إلى أمريكا بطموح وعاد خائب الأمل.. مهندس مصاب بالإيدز تطرده الشركات أثناء المقابلة بعد اعترافه بالمرض

سيدة تجبر حفيدتها المراهقة على ارتداء النقاب لإخفاء هويتها بدلًا من العار.. والأب والأشقاء لا يعترفون بوجودها ويصفونها بـ «العاهرة الصغيرة»


بين ليلة وضحاها تلونت حياتهم بالأسود، أغمضوا عينًا هربًا من الواقع فوجدوا الأخرى تفتح على طريق نهايته موت محتوم، حكم عليهم بالتعاسة، وفى ثقافة المجتمعات العربية ألصقت على جميعهم وصمة عار بدون ذنب، إنهم مرضى الإيدز، ضحايا النظرات الظالمة والمعاملة القاسية، وإن طالوا رحمة كانت دائمًا مغطاة بأسلوب الشفقة على المسكين مثلما يرفق الإنسان بالحيوان تمامًا بل وأكثر، فقد تحول إلى جرثومة متنقلة بالنسبة لعديمى الوعى فيعتقدون أن الاقتراب منهم هو جرس ينذر بالعدوى المؤدية إلى الوفاة على الفور.

رحمة السيد – اسم مستعار- ولدت مريضة إيدز بسبب عدوى بكتيرية انتقلت إلى والدتها أثناء عملية الولادة فى إحدى المستشفيات الحكومية بمحافظة البحيرة، لتتوفى الأم تاركة للطفلة مصيرا مجهولا.

تروى الفتاة التى لم تكمل عامها الـ ١٧ حتى الآن، إنها اعتادت فى كل مراحل عمرها على نمط للحياة مختلف عن أقرانها، فلم تذهب إلى الحضانة ودخلت إلى المدرسة سنة متأخرة بسبب ظروفها الصحية، كما أن ذهابها إلى المدرسة يقتصر على أيام الامتحانات فقط حيث تم تسجيلها بقسم «المنازل» لذا لم يكن لها أصدقاء مقربون مثل كل من فى عمرها.

وتستكمل «رحمة» حديثها إن أسوأ من فكرة العزلة التى فرضت عليها بلا ذنب هو أنها حرمت من فكرة الحلم وتكوين الطموح، فممنوع عليها أن تفكر بالزواج وتكوين الأسرة مثل كل الفتيات، ولم تجرؤ يومًا على اكتشاف موهبتها واختيار مسار وظيفى لتستقل بنفسها ماديًا مثل كل امرأة متعلمة، ليصبح تفوقها الذى تسجله فى كل مرحلة دراسية مجرد حبر مسجل على ورق لا يستحق أن تسعد به.

ولكن لم تكن هذه أزمات الفتاة المراهقة فحسب، فمنذ ولادتها بهذا المرض يعاملها والدها وشقيقيها على أنها عار بالمنزل، يرفضون إخبار أصدقائهم بوجودها فى حياتهم من الأساس، ويمنعون دخولها إلى المنزل، حيث اضطرت أن تعيش مع جدتها لأمها والتى أجبرتها على إخفاء وجهها بالنقاب عند الخروج إلى الشارع، لدرجة أن شقيقها الأكبر رفض أن تحضر حفل زفافه وحذرها من التواصل مع زوجته مؤكدًا عليها أنه لا يرغب فى إخبارها بوجود أخت لديه مصابة بهذه اللعنة.

وبالرغم من هذه المعاملة حاولت «رحمة» التواصل هاتفيًا وعبر مواقع التواصل الاجتماعى مع أسرتها، إلا أنهم أنكروا وجودها حتى أن شقيقها وصفها فى أحد المكالمات بـ «العاهرة الصغيرة» قبل أن يغلق فى وجهها.

وسط هذا الكم من اليأس؛ قامت الفتاة بنشر مشكلتها عبر مجموعة مخصصة للدعم النفسى، لتجد عددا كبيرا من الأشخاص يقترحون عليها الذهاب إلى طبيب نفسى أو التواصل معه هاتفيًا على الأقل لتتمكن من تخطى هذه الأزمة. ويبدو أن معاناة «رحمة» لم تكن الأسوأ، فيعيش مالك.ٍف أقسى أيام حياته منذ إصابته قبل ١٠ سنوات بالإيدز، حيث انتقلت إليه العدوى بعد زواجه من أمريكية من أجل الحصول على الجنسية، فى هذه الفترة كان شابًا فى عمر الـ ٢٥، يسعى لتكوين مستقبله كمهندس فى هذه الدولة الأجنبية ومن ثم العودة لافتتاح مشروعه الخاص بعد بضعة سنوات.

إلا أن القدر منع «مالك» من استكمال مشواره الذى خطط له، حيث اكتشف بعد زواجه بسنة ظهور أعراض غريبة عليه مثل الصداع المزمن وضيق التنفس وارتفاع درجة الحرارة باستمرار، وبالرغم من أن طبيبًا شخص حالته على أنه دور إنفلونزا عادى إلا أن استمرار هذا الوضع لأكثر من شهر مع ملاحظة انخفاض الوزن بصورة غير طبيعية، دفعه للعودة إلى الطبيب مرة أخرى ليطلب منه إجراء تحاليل كشفت عن إصابته بمرض نقص المناعة، لتعترف له زوجته أنها مصابة هى الأخرى بالمرض منذ سنوات عديدة ورفضت إخباره حتى لا يتركها.

جن جنون «مالك» الذى قام بالإبلاغ عن زوجته ولكن نظرًا لجنسيتها لم يحصل على أى تعويض منها، فانفصل عنها وعاد إلى بلده بخيبة أمل وطموح محطم، باحثًا عن فرصة عمل يستطيع من خلالها الوقوف على قدميه بعدما أنفق كل ما قام بادخاره على العلاج.

ولكن لم يجد أمامه أى شركة تقبل بوضعه الصحى، لدرجة أنه أثناء إجراء مقابلة شخصية فى إحدى الشركات الكبرى بعدما أخبرهم بمرضه محاولًا أن يطلب منهم تجاوزه مقابل خبراته الكبيرة، طلب له الإتش آر موظف الأمن ليقوم بإخراجه على الفور وتطهير الغرفة بالكامل فى تصرف جنونى أثار ذعر «مالك» الذى خرج باكيًا من الوضع الذى قدر له العيش فيه.

شيرين حسين – اسم مستعار- سيدة أربعينية، أصيبت بالإيدز فى ريعان شبابها حيث تعرضت لحادث سير قبل أكثر من ١٥ عامًا، احتاجت على إثره إلى نقل دم، وأثناء إجراء بعض التحاليل بعد شفائها للتأكد من سلامتها اكتشف الطبيب أن النتيجة ظهرت إيجابية لمرض الإيدز، لتنهار الفتاة من البكاء وتصاب بحالة اكتئاب حادة حاولت على إثرها الانتحار أكثر من مرة إلا أن أسرتها كانت تتمكن من لحاقها.

من ثم بدأت الأسرة تقدم للفتاة طعامها فى غرفتها بعيدًا عن المائدة التى تتجمع حولها العائلة، حيث كانوا يضعونه لها فى صحون وأكواب من البلاستيك خوفًا من غسيلها، كما خصصوا لها مواعيد لدخول الحمام، وعند الضرورة تدخل الأم بعد ابنتها لتطهيره لمدة قد تزيد على ساعة بصورة كانت تضع الفتاة فى موقف محرج لدرجة أنها كانت تحاول ألا تتناول كميات كبيرة من الطعام والسوائل حتى لا تضطر إلى دخول الحمام أكثر من مرة فى اليوم.

حاولت «شيرين» تخطى الأمر خاصة بعد فصلها من عملها فى أحد البنوك، ففى البداية حضرت عددا من حلقات الدعم النفسى التى يتم تكوين مجموعات لها لتجمع المصابين بنفس المرض، ويتبادلون تجاربهم الشخصية مع بعضهم البعض كوسيلة للوعى وتخفيف الضغوط النفسى عليهم. وبعد عام كامل من اهتمام الأسرة بابنتهم المريضة كنوع من العطف عليها، تبدلت الأمور بعدما تزوجت شقيقتها الكبرى، حيث رفضوا إخبار زوجها بوضع «شيرين» الصحى خوفًا على سمعتها، وطلبوا منها الانتقال للعيش فى شقة أخرى يمتلكها الأب لا يوجد بها سوى سرير وثلاجة صغيرة فقط، وذلك خوفًا من انتقال العدوى إلى شقيقتها الحامل بعدما عادت إلى منزلها لتكون بجوار والدتها فى الشهور الأخيرة.