سمير مرقص يكتب: وفرة إنتاج الأفكار

الفجر الفني

بوابة الفجر




(1)

"العقل الحر يقاوم الحصار" 

بالرغم من كل الأخطار التى تتهدد الكوكب ومواطنيه، والتى تعكس عجزًا واضحًا لنخب ومؤسسات وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية.. إلا أن العقل الإنسانى الحر وحده لم يزل يبدع وينتج أفكارًا وفيرة فى شتى المجالات. وبالرغم من السعى الحثيث- لن نقول لتحطيم العقل الإنسانى إذا ما استعرنا تعبير «جورج لوكاش»- لحصار العقل الإنسانى بإهمال التاريخ والفكر وانخراط مواطنى الكوكب- على اختلافهم- فى «البيزنس» المسنود بالجمود الثقافى والعقدى بصوره المتعددة، حيث لا صوت يعلو على صوت: الربح، والاستهلاك، والمضاربة، والمحافظة، والقبول بالأمر الواقع... إلخ؛ إلا أن الانتصار التاريخى للعقلانية- الذى تحقق فى القرن الثامن عشر- الذى انحاز للإنسان وللإنسانية قد استطاع الصمود أمام الحصار.

ومن ثَم بقى حاضرًا وفاعلًا بل قادرًا على التطور والاستجابة المبدعة للتحديات.. وكذلك متمردًا ومنتجًا أفكارًا متجددة وفيرة تفوق أى تصور، تستجيب لتطور المجتمع ولكل نضالات الإنسانية من أجل تطلعاتها لمستقبل أفضل: عادل وحر وكريم.. والمحصلة: أنه فى مقابل الإخفاق المدوىّ لفكرة تساقط الثمار التنموية التى وعدتنا بها الليبرالية الجديدة، يبذل العقل الإنسانى الحر قصارى جهده فى التأمل والتحليل والتفسير واستشراف المستقبل وتقديم البدائل ليؤمن إنتاجًا «وفيرًا» من الأفكار. فكل الموضوعات خاضعة للمراجعة. ولا توجد إشكالية إلا ولها حل وأكثر.. ويتجلى ذلك فى الكيف والكم الوفير الذى ينتجه العقل الإنسانى المبدع والحر والتقدمى كل يوم.

(2)

"الوفرة هناك والندرة هنا" 

فمن يراجع نتاج إبداعات العقل البشرى التي حملتها إصدارات 2021 منذ مطلع العام حتى يومنا هذا (أى على مدى ثمانية أشهر)، التي أنتجتها دور النشر الكبيرة، فسوف يلحظ أنها تتميز بخمسة ملامح رئيسية: أولًا: الالتزام التام بكل ما يعنى إنسان/ مواطن اليوم فى حياته الخاصة والعامة. ثانيًا: تناول جميع الظواهر بلا أي محاذير، وطرح كل الأسئلة دون حدود فيما يتعلق بظواهر الكون والمجتمع والحياة. ثالثًا: الأصالة التى تعكسها جدية وجدة المقاربات النقدية والخلاصات المبتكرة. رابعًا: هو النقد الحاد لنمط الحياة الذى ساد على مدى 40 سنة (ليبرالية السوق التى تم التبشير بأن ثمارها وشيكة قبل أكثر من أربعة عقود، وسوف تتساقط تباعًا)، والتفكيك المعرفى والعلمى للمرجعية الحاكمة للنمط الحياتى السائد، والكشف الصريح عن سر أزماتها المتكررة. وأخيرًا، محاولة البحث عن مسارات بديلة إنسانية/ مواطنية.. لذا جاءت الإصدارات/ الإبداعات تتناول شتى مناحي الحياة الإنسانية، فلم تقتصر على الإبداع الروائي/ السردي: الخرابي في أغلبه، والذاتي جدًا في مضمونه دون غيره، وتسابُق دور النشر على نشره دون غيره من ألوان الإبداع.. ما أوجد "ندرة" غير مسبوقة فى إنتاج الأفكار، ومن ثم «شُحًا» في إصدار وتداول الأفكار فيما عدا استثناءات قليلة، هذا عنا.. فماذا فى المقابل عنهم؟!.

(3)

"سلاسل وإصدارات الوفرة في الأفكار" 

لو أخذنا دار نشر "روتليدج" الشهيرة مثالًا فى تأمين ترسانة خطوط إنتاج "الوفرة" في الأفكار، نشير إلى سلاسلها العديدة التي تحمل اسم دراسات «روتليدج» فى: التاريخ الحديث، وعلم الاجتماع المتقدم، والسياسات الأوروبية المعاصرة، والتشدد والديمقراطية، والفاشية وأقصى اليمين، وسياسات الشرق الأوسط، ودراسات الدين والسياسة، والمفكرون النقديون، والفكر الاجتماعى والسياسى، والتجليات التنموية والبيئية، وعلم اجتماع الدين، وجوهر الفلسفة، وفلسفة القرن التاسع عشر، تاريخ أوروبا الوسطى وشرقها، والتعليم والنيوليبرالية والماركسية، والأحزاب السياسية والنظام الحزبى.. إضافة إلى سلاسل «روتليدج» حول: النصوص الكلاسيكية العلمية والأدبية والفكرية والشخصيات الرائدة، والنصوص التجديدية فى شتى المجالات، ومرجع «روتليدج» للطالب، وأدلتها المرجعية المذهلة Handbooks؛ إضافة إلى سلاسل «روتليدج» البحثية مثل: المساواة التعليمية والتنوع... إلخ.

لقد استطاعت هذه السلاسل- سواء من إنتاج «روتليدج» أو غيرها، والتى تمتد لكل حقول المعرفة الهندسية والطبية والتطبيقية عمومًا وليس فقط الحقول المعرفية الإنسانية- أن تحقق "وفرة" فكرية غزيرة لا نعرف عنها شيئًا، وبالطبع لم تترجم. وتكفى مراجعة عناوين الإصدارات التى نتجت عن هذه السلاسل والتى يصعب ذكرها تفصيلًا. ولكن يكفى أن نشير إلى أن أدلة «روتليدج» الصادرة هذا العام شديدة التنوع (أخذًا أن عدد صفحاتها فى المتوسط 700 صفحة)، وتتضمن: الميديا الرقمية والعولمة، اقتصاد الشرق الأوسط، ومصر المعاصرة، تركيا المعاصرة، العلاقات الدولية التاريخية، والهوية العربية، والدين فى المجتمع العولمي.

المقال: نقلاً عن (المصري اليوم).