عادل حمودة يكتب: البنتاجون أرسل أسلحة حديثة إلى إسرائيل قيمتها 500 مليون دولار فى اليوم الثالث للقتال

مقالات الرأي



سجلت شهادة سكرتير نيكسون للأمن القومى عن حرب أكتوبر

كيسنجر رفض زيارة جولدا مائير لمدة ساعة حتى لا يكتشف العالم الهستيريا التى تعانى منها إسرائيل

فوجئ كيسنجر بدعوة من حافظ إسماعيل لزيارة مصر قبل وقف القتال

السادات: لا تفريط فى شبر أرض أو جرام كرامة

الحرب الإقليمية أصبحت حربا كونية بين القوى العظمى


لم يزد الإفطار الذى طلبه عن شرائح «التوست» الصحى وقليل من جبن «فلوريدا» بلا دسم وقهوة أمريكية سوداء بلا سكر.

فى تلك اللحظة أدركت سر الحيوية التى يتمتع بها «بوب ماكفرلاند» سكرتير الأمن القومى السابق فى إدارة الرئيس «ريتشارد نيكسون» رغم تجاوزه الثمانين من عمره.

التقيته صدفة فى غرفة التجارة الأمريكية وما إن تعرفت عليه حتى دعوته إلى «إفطار عمل» فى فندق فورسيزونز (منطقة جورجتاون) الذى يوصف بـ «مخبز السياسة الأمريكية» فى واشنطن بسبب تفضيل غالبية حكام العالم الإقامة فيه خلال زياراتهم الرسمية والشخصية للعاصمة الأمريكية كما أنه يجذب إليه فى الصباح أعضاء مجلسى الشيوخ والنواب والوزراء والسفراء ونجوم الميديا.

سألنى: «لم ستدفع ثمن الإفطار؟».

سؤال طبيعى معتاد فى الولايات المتحدة حيث يقولون دائما: «لا وجبات طعام مجانية» والمقصود: لا شىء لوجه الله.

طلبت منه شهادته عن حرب أكتوبر التى عاصر تفاصيلها وعرف أسرارها بحكم موقعه المؤثر فى البيت الأبيض وكيف استغل هنرى كيسنجر (وزير الخارجية) الفرصة لبناء شهرته السياسية؟ وكيف عزم فى البداية على الانتفاع من حالة الحرب لرفع المرساة عن المفاوضات المباشرة بين العرب وإسرائيل كما ذكر فى مذكراته؟.

جاء ماكفرلاند فى موعده بالثانية يحمل ورقة صغيرة عليها عدة كلمات متفرقة لتنشط على ما يبدو ذاكرته وبدأت أكتب ما يقول بتركيز ودقة تناسب الحدث الذى قلب موازين العالم.

قال: المؤكد أن الحرب فاجأت أجهزة الاستخبارات الأمريكية وألقت بها على وجهها فاقدة الكثير من غرورها وبعد أن كانت تردد طوال أسبوع قبل ساعة الصفر أن احتمالات اشتعالها ضعيفة وبعيدة.

وبالنص جاء فى تقريرها إلى البيت الأبيض: «لم نجد مؤشرا واحدا إلى هجوم مصرى سورى مخطط له خلال قناة السويس أو هضبة الجولان ولو فكر العرب فى بدء الهجوم فإن القوة العسكرية الإسرائيلية المتفوقة ستردعهم».

بل إنها كانت جاهلة ببرقية الاستغاثة التى أرسلتها جولدا مائير (رئيسة الحكومة الإسرائيلية) إلى كيسنجر تؤكد فيها: «أن إسرائيل لن تشن حربا على مصر وسوريا ومن ثم لا مبرر إلى تركيز قواتهما العسكرية على خطوط الجبهة معها أما إذا كانتا تنويان شن هجمات عسكرية علينا فإننا سنرد بقوة ونود منك إبلاغ العرب والسوفييت بهذا الموقف عبر القنوات المتاحة لكم».

لم توقف اتصالات كيسنجر مع موسكو وعمان والرياض الحرب وإن احتفظ لنفسه بتسجيلات المكالمات التى أجراها ولم يسلمها إلى الأرشيف القومى للوثائق إلا بعد أن حذف منها الكلمات الخشنة التى سمعها من وزير الخارجية محمد حسن الزيات الذى وصفه فيها بالجنون والحمق مؤكدًا أن «أهداف مصر تحددها مصر» وأن مشكلتها لن تحل إلا بالحرب وبتحطيم غرور إسرائيل وإثبات أن خطوطها الدفاعية على طول القناة لا تحميها ولن تشعرها بالأمن إلا إذا احترمت مصر».

رفض الزيات ــ الذى كان فى الأمم المتحدة ــ لقاء كيسنجر الذى لم يخف لمساعديه سخريته من موقف مصر المتشدد رغم أنها ستهزم من إسرائيل خلال ساعات معدودة إلا أن سخريته ارتدت إليه عندما تأكد أن إسرائيل «شفير الهاوية».

خسرت إسرائيل فى اليوم الأول للحرب ٣٥ طائرة مطورة وفى اليوم الثالث خسرت ٥٠٠ دبابة (منها ٤٠٠ دبابة على الجبهة المصرية وحدها) وهنا أمر كيسنجر بإخفاء الأرقام إلا على الرئيس.

وادعت إسرائيل أنها دمرت تسعة جسور من أحد عشر جسرا ركبت على القناة ولم يكن الخبر صحيحا بل عجزت عن حماية النقاط الحصينة على طول خط بارليف وقبل أن يخيم الظلام على اليوم الأول كانت صور طوابير الأسرى الإسرائيليين فى نشرات الأخبار.

قلت:

إن مشاهد الحرب الأولى تشبه سيمفونية موسيقية تتداخل فيها الآلات عازفة نغمات خالية من النشاز.. غارات جوية متلاحقة.. تساندها طلقات مدفعية لا تتوقف.. تغطى نيرانها ألف قارب مطاطى عليها ثمانية آلاف مقاتل نفذوا الموجة الأولى من العبور.. وتوالت الموجات.. طوفان من البشر والمدرعات يستعجل دوره.. مانحا مصر أمجد ساعات فى تاريخها.

كسرت مصر قمقم الصبر وعبرت إلى الضفة الشرقية لاسترداد شرف الأمة العربية الضائع فى الصحراء بعد ست سنوات من المكوث فى قبو الفجيعة آمنت خلالها أن صوتها فى رصاص مقاتليها لا فى حناجر مغنيها (حسب وصف نزار قبانى).

قال:

طلب كيسنجر من البنتاجون تحريك الأسطول السادس فى اتجاه مواقع القتال ولكنه احتاج إلى يومين كى تتحرك حاملة الطائرات الراسية فى إسبانيا إلى كريت على أن تلحق بها حاملة الطائرات الأخرى الراسية فى اليونان وكثير من جنوده وضباطه كانوا فى إجازات ما يعنى أن قادته كانوا فى غيبوبة فلم يشعروا بنذر الحرب التى عليهم التنبؤ بها أو على الأقل رصدها.

وفى اليوم الثانى للحرب بدا مؤكدا أن على البنتاجون التدخل لدعم إسرائيل بأسلحة حديثة لم تعرفها من قبل خصوصا صواريخ سيدواندر التى تتبع الطائرات بالانبعاث الحرارى وشحن ثمانين منها فى قاعدة بحرية منعزلة فى فرجينيا على سبع طائرات تابعة لشركة «العال» التجارية دون وضع علامات مميزة عليها.

لكن موقف إسرائيل كان أسوأ مما تخيل كيسنجر حتى إن جولدا مائير أبدت استعدادها للقيام برحلة سرية خاطفة إلى واشنطن لمدة ساعة واحدة لعرض قضيتها على نيكسون والحصول على ما تريد من سلاح بعد أن أمر موشى ديان (وزير الدفاع) القوات بتراجع عام عن سيناء ولكن كيسنجر رفض ذلك فى الحال دون أخذ رأى نيكسون حتى لا يكتشف العالم حجم الهيستريا التى تعانى منها إسرائيل وعرف لحظتها «لم يشعر المصريون بالتفاخر؟».

أدرك كيسنجر دون أن يخالجه شك أبدا «أن هزيمة إسرائيل بفضل التسليح السوفيتى ستكون كارثة جغرافية وسياسية بالنسبة للولايات المتحدة».. ستلجأ الدول العربية المعتدلة إليه.. سيزيد من النفوذ الشيوعى فى المنطقة.. ستعجز واشنطن عن حماية مصالحها.

بتلك الحقيقة بدأت واشنطن فى إرسال الطائرات الحربية من المصانع إلى إسرائيل مباشرة فيما عرف بالجسر الجوى لتعويض ما يفقد من طائرات ودبابات وقطع غيار وتضمن اللائحة نظمًا إلكترونية وذخيرة ما عدا قنابل الليزر.

قدرت الأسلحة التى أرسلت إلى إسرائيل بنصف مليار دولار (١٦ طائرة فانتوم و٣٠ طائرة سكايهوك و١٢٥ دبابة وثلاث بطاريات صواريخ هوك) نقلتها طائرات الجامبو (س ــ ١٥) التى حملت كل منها ستين إلى ثمانين طنا من العتاد ولم تنس إسرائيل أن تسأل: من سيتحمل النقل؟.

فى الوقت نفسه رفض الملك حسين المشاركة فى الحرب بل رفض وجود فرقة سعودية على أرضه لدعم الموقف على جبهات القتال ولكنه وافق على دفعها إلى سوريا إلا أن كيسنجر طلب منه تأجيل قراره ٤٨ ساعة.

وبينما قرر الرئيس الجزائرى هوارى بومدين إرسال البترول الخام إلى مصر قرر العاهل السعودى الملك فيصل بن عبد العزيز استخدام سلاح النفط فى الحرب وأعلن الشيخ زايد بن سلطان حاكم الإمارات جملته الشهيرة: «النفط ليس أغلى من الدم العربى».

سألت:

متى فرضت السياسة نفسها على الحرب؟.

قال: حرب أكتوبر كانت حربا إقليمية ساخنة بين العرب وإسرائيل وحربا كونية باردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى.

كان كيسنجر يستخدم كل القدرات السياسية والعسكرية الأمريكية لتستعيد إسرائيل توازنها وتكمل مصر إهمالها للسوفيت وتقبل بمشروعات السلام الأمريكية ومن جانبها أوحت مصر بذلك.

فى أول أيام الحرب وصلت إلى كيسنجر مذكرة من حافظ إسماعيل (مستشار الأمن القومى) عن طريق الأجهزة السرية بشروط مصر لإيقاف العمليات العسكرية وأهمها انسحاب إسرائيل من جميع الأراضى التى احتلتها على أن يعقب الانسحاب مباحثات سلام ومرور السفن الإسرائيلية فى مضيق تيران وتواجد القوات الدولية فى شرم الشيخ.

وأضافت المذكرة: «ليس فى نيتنا التعمق فى أرض الغير أو توسيع جبهة القتال».

واعتبر كيسنجر ما جاء فى المذكرة مؤشرا على إمكانية قبول السادات التفاوض وبالخبرة المعروفة فإن من يقبل بالتفاوض مستعد للوصول إلى حل وسط.

ولكن كيسنجر كان يعرف جيدا أن على إسرائيل تحسين موقفها فى جبهات القتال حتى لا تخسر كل شىء فيما بعد وهنا نجده يشجع جولدا مائير على خرق قرار وقف إطلاق النار لتحسين موقف إسرائيل إذا ما جرت مفاوضات لاحقة رغم تعهده للسوفيت بتنفيذه فور إقراره.

ودهش كيسنجر عندما وجد حافظ إسماعيل يدعوه إلى زيارة مصر «لشكره على الجهود التى يبذلها» مؤكدًا على «أن الفريق المصرى على استعداد لمناقشة جميع مشروعات السلام بشرطين لا يمكن رفضهما: لن تتنازل مصر عن شبر أرض ولن تتنازل عن درهم من كرامتها وسيادتها».

وتوالت الرسائل بين القاهرة وواشنطن عبر الوسائل السرية ثم أصبحت الوسائل علنية ثم تحولت الرسائل إلى اتصالات ثم تحولت الاتصالات إلى لقاءات ثم تحولت اللقاءات إلى مبادرات وتحولت المبادرات إلى معاهدات.

لكن ذلك كله لا ينفى أن السلام ولد فى اليوم الأول للحرب.

ملحوظة:

سجلت هذه الشهادة فى الثالث من إبريل ٢٠١٧ خلال تغطيتى الصحفية لزيارة الرئيس إلى واشنطن فى انتظار نشرها فى ذكرى حرب أكتوبر ولكنى لم أتذكرها فى الوقت المناسب إلا هذا العام.