عادل حمودة يكتب: مليارديرات فى مصر 2.. إبليس ينتظر النساء على باب الجنة (قصص واقعية)

مقالات الرأي

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة


لم يسأل نفسه ما الذى قلب القديسة إلى فاجرة.. والمثير للدهشة أنه لم يقتلها وعاد إلى بلدته وحده.. مصابًا باللعنة

رأته فى ثياب أبيها ودخلت فراشه بلا شوق.. بلا ذوق.. أغمضت عينيها على صورة رجل لم تقابله.. فهو جائع معجون بالكبريت والشرر

انضم يوسف محمود إلى لجنة السياسات التى يرأسها ابن الرئيس.. تبرع للمؤتمرات.. وحصل على مساحات شاسعة من الأراضى نقلت ثروته إلى خانة المليارات

كأنها نفس المرأة التى رأيتها فى صباى ولم أنسها.

كنت فى الثامنة من عمرى عندما جاء كمال الأناضولى إلى بيتنا بعد منتصف الليل وهو يقبض على ذراع زوجته بشدة خشية أن تهرب منه ولم يمنعه صراخها وبكاءها من تحريرها.

امرأة تقف حائرة بين القرية المجهولة التى جاءت منها والعاصمة الصاخبة التى جاءت إليها.. لم تبرع بعد فى رسم شفتيها بالأحمر فتحولتا إلى كيسين من الكاتشب.. أفرطت فى الأسود على حاجبيها فبديا منحنيان كثيفان من الهباب خرج من منجم فحم.. فرضت على بشرة وجهها بياضا مكثفا سهل عليها التفوق على بلياتشو فى سيرك.

مسخت جمالها الطبيعى بجرعات زائدة من المساحيق متصورة أنها أصبحت امرأة من البندر.

الجسم ممتلئ.. برزت هضابه ومنحنياته تحت ثوب من الحرير المتفجر بزهور فاقعة الألوان يسيطر عليها الأصفر والأخضر والأحمر.

ولخبرتها المحدودة فى الكعب العال بدت وكأنها ستنكفئ على وجهها مع كل خطوة تمشيها ومع تمهلها فى الحركة بدت مثل لاعب أكروبات يتصرف بحذر خوفا من السقوط.

ولتكتمل الصورة زينت معصمها وصدرها وأذنيها وأصابعها بحلى ثقيلة من الذهب وكأنها فاترينة متحركة فى سوق الصاغة.

لم يكن عمرها ليزيد عن سبعة عشر عاما عندما شاهدها الأناضولى فى بيت الخولى الذى يدير الأراضى التى ورثها عن والده.. قدمت ابنة الخولى القهوة إليه على استحياء وفرت من أمامه مسرعة.. فى تلك اللحظة قرر أن يتزوجها.. امراة صغيرة خام يسهل تشكيلها حسب ما يهوى لم يمسسها رجل من قبل.. هكذا حدث نفسه.. لكن.. الأهم: إنها ليست مثل نساء القاهرة اللاتى يصعب السيطرة عليهن ويقفن للرجل على الكلمة والواحدة ويضعن رءوسهن برأسه إن القيامة يجب أن تقوم.. هكذا أضاف.

إن أصوله الريفية غلبته.. لم تفلح معها سنوات الجامعة.. خاف من بناتها.. ولم تفلح معه سنوات العمل فى بنك فرض عليه تدريبا مختلطا فى سويسرا وبلجيكا وهولندا قبل أن يتولى إدارة النقد الأجنبى.. شعوره المتوارث بالخوف من المدينة تحكم فيه.. خرج من تحت جلده.. وتجسد أمام عينيه منبها ومحذرا.

إن المدينة فى هواجس أهل الريف فى شمال وجنوب البلاد مكان منفلت الأخلاق.. بارد المشاعر.. يقتل فيه القتيل ويمشون فى جنازته.. كل شىء فيه بثمن.. زحام لا ينتهى.. غرباء من كل طرف.. نساء يزاحمن الرجال وأحيانا يرأسهن.. بخلاف الفسق والانحلال.. لكن.. لا مفر من الهجرة إليها.. بعيد عنها ينتحر الطموح ويتجمد السعى نحو التغيير وتفتقد الحياة لذتها.

المدينة فى بلادنا عبرت البحر لتأتى بالكتاب واللوحة والسيمفونية والصحيفة والمسرحية والفيلم والموضة والبار والكباريه بينما بقيت القرية فى مكانها الذى وضعت فيه منذ مئات السنين وكل من خرج منها لم يشأ العودة إليها وإن تغنى بفضائلها ولعن المدينة التى هرب إليها.

لم يشذ الأناضولى عن القاعدة وحفظ قصائد أحمد عبد المعطى حجازى التى لعن فيها القاهرة وإن لم يغادرها منذ انتقل إليها :

شوارع المدينة الكبيرة.. قيعان نار.. تجتر فى الظهيرة.. ما شربته فيه من اللهيب.. يا ويله من لم يصادف غير شمسها.. غير البناء والسياج والبناء والسياج.. غير المثلثات والمربعات والزجاج.

وفى الليل عيد قصير.. النور والأنغام والشباب.. والسرعة الحمقاء والشراب.. ويهدأ الرقص وتتعب القدم.. تسقط الزهور.. وترفع الأحزان فى أعماقنا رءوسها الصغيرة.

على أن الأناضولى توقف قليلا عند فارق السن بينه وبين ابنة الخولى.. خمس عشرة سنة.. لكن.. تجاوزه إلى ما هو أهم وأخطر.. أنه يعانى من ضعف فى عضلة القلب.. وضيق فى التنفس إذا ما تعرض إلى أزمة ربو.. والنصيحة التى أجبره الأطباء عليها تلخصت فى ثلاث كلمات : أحذر المجهود الزائد.

والحقيقة أنه صارحها بما يعانى ولكنها لم تلتفت إلى تشخيصه لنفسه وسرحت بعيدا فى النعيم الذى ستغرق فيه وسمعت عنه.. سيارة وثياب وبيت وراديو وسينما وعيش فينو وجاتوه وشيكولاتة.. نادتها القاهرة فانجذبت إليها مسحورة.. متناسية الحياة المتواضعة التى عاشتها فى القرية التى ولدت وتربت وتعلمت فيها حتى حصلت على الابتدائية.

عندما وصلت سيادة الإمام إلى القاهرة لم يكن يوسف إدريس قد كتب رواية النداهة التى استوحاها من خرافة الأنثى الساحرة المثيرة التى تظهر ليلا للرجال وبصوت لا يقاوم تناديهم ليتبعوها وبلا رجعة يمشون وراءها.

لكن نداهة يوسف إدريس لم تكن أنثى وإنما مدينة.. بالتحديد القاهرة.. شدت إليها حامد الذى جاء من بلدة جنوبية بعيدة بأكثر من خمسمائة كيلومتر بعد زواجه من فتحية بأيام قليلة.. عمل حارسا على عمارة.. بدأت القروش تجرى فى يده.. تحولت القروش إلى جنيهات بعد أن قبلت زوجته الخدمة فى الشقق المختلفة.. منها شقة عازب جذاب أنيق وسيم يعامل النقود باستهتار الذى بهرها بأجهزة التحكم فى كل شىء عن بعد بالريموت كنترول.. من شدة الدوار لم تشعر بنفسها إلا وهى فى فراشه.

بكت.. مزقت صدرها.. صامت أربعين يوما.. ابتعدت عن مكانه.. لكنها كانت تراه فى أحلامها يداعبها ويلامسها ويثيرها ببراعة عازف بيانو.. تذكرت رائحة العطر فى جسده.. لم تعد تحتمل عرق حامد.. كرهت طريقته فى شدها على الحصيرة.. فقدت شهيتها.. لم تعد كما كانت.

فى اليوم الذى يذهب فيه حامد إلى السوق لشراء خزين الطعام للسكان سخن جسدها.. تمنت أن يهبط الرجل الذى لم تعرف اسمه إليها.. فى البدروم.. تعرف أنه حرام.. لكن.. ليس بيدها حيلة.. الجسم وما يريد.

كأن الشيطان كان يسمعها.. وجدته أمامها.. يسأل عنها.. لم تنطق بكلمة.. لم تقاوم.. وعلى نفس الحصيرة التى كرهتها تمددا معا.. لكن.. فى تلك اللحظة دخل حامد ليرى مشهدا لم يتخيله.

مشهد مروع حسب وصف يوسف إدريس أصاب حامد بجمود يشبه الموت.. وجد نفسه فجأة قد سكنت فيه كل خلجة أو حركة أو فكرة ولم يعد يرى أو يسمع أو يشعر والدنيا من حوله هى الأخرى سكنت تماما وماتت وانتهى كل شىء.

كانت فتحية زوجته راقدة على أرض الغرفة عارية الرأس والفخذين عارية كلها أو تكاد وفوقها يرقد أفندى بجاكتة وبلا بنطلون أو سروال وإنما مؤخرته العارية قد ذابت فى عرى فتحية وانتهى الأمر.

لم يسأل نفسه ما الذى حدث؟.. ما الذى قلب القديسة إلى فاجرة؟.. كيف حدث ذلك وهو يمنحها كل ما تريد؟.

بالغريزة فهم حامد أن السبب هذه المدينة التى أصابتها بالذهول.. شوارع عريضة.. ميادين متسعة.. حشد رهيب من العربات التى تمضى بسرعة البرق.. المحلات والصور والنور ذو الألوان السبعة والهيصة والدوشة والمولد.. لابد أن القاهرة فى عيد أو مولد.. يالها من مدينة.. تلك التى يحيا الناس فيها كل يوم فى مولد وعيد.

والمثير للدهشة أن حامد لم يقتلها.. لو كان فى البلد لذبحها بسهولة.. لكنه على ما يبدو أصيب هو الآخر باللعنة وهزمته القاهرة التى أصبح عليه أن يغادرها عائدا إلى بلده.

وفى أول قطار قطع حامد التذاكر لكنه عاد لبلدتهم وحده.. غافلته فتحية فى ازدحام القادمين والراحلين فى باب الحديد وهربت.. عادت إلى القاهرة التى نسميها مصرا.. بإرادتها هذه المرة وليس أبدا تلبية لهتاف هاتف أو نداء نداهة.

هناك بالقطع تشابة يصعب إنكاره بين سيادة (الأناضولى) وفتحية (حامد) رغم اختلاف التفاصيل الخاصة والشخصية بينهما.

جاءت سيادة الإمام إلى شقة زوجها فى العباسية بالجلباب الذى كان ترتديه فى بيت أبيها.. حملتها سيارة مريحة إلى القاهرة.. ذهلت من العمارات الشاهقة والشوارع العريضة.. استحت من مشهد شاب يلف يده حول خصر فتاة يمشى إلى جانبها ويلتصق بها.. لكنها عادت ونظرت إليهما.. شهقت وخبطت على صدرها عندما رأت الموديلات الخشبية فى فترينات الملابس الداخلية للنساء.. ومن شدة الزحام من حولها سألت نفسها: ترى لو ضللت الطريق ذات يوم هل سيدلنى أحد عليه أم سيبتلعنى هذا الحوت الضخم مثل سيدنا يونس؟.

تضاعف شعورها بالذهول عندما دخلت الشقة.. دنيا غير الدنيا.. يا مثبت العقل يا رب.. هكذا همست لنفسها بعد أن جنت بالفراش الوثير واللون الأحمر الذى يغطى الغرفة بالضغط على زر صغير.. لكنها خجلت من لوحة المرأة شبه العارية المعلقة فوق السرير ثم راحت تتأملها وتتحسس جسمها.

وما أن فتحت صنابير الحمام حتى عجزت عن النطق من المياه الساخن التى تنساب منها متسائلة من أين تأتى؟.

وأهم من الراديو البيك آب.. وألذ من البيض المسلوق الأومليت بجبن الشيدر.. والشاى وحده لم يعد يكفى لابد من الكيك والبيتفور معه.. ما كل هذه المتعة؟.. لابد أن أبواب السماء كانت مفتوحة عندما دعت لها أمها بالهناء وهى تودعها.

فى أول شهر لم يكن الأناضولى يغادر فراشهما إلا للذهاب إلى العمل أو الحمام وكثيرا ما فضل تناول الطعام فى غرفة النوم.. لكن.. فى الشهر الثانى لم يعد يدخل الفراش إلا للنوم.. وفى الشهر الثالث أقنعها بأن عادة أهل البندر أن ينام كل منهما فى غرفة مستقلة.

بدأ يحث جسده على الشهوة.. أحيانا كان ينجح وغالبا كان يفشل.. فتش عن الرغبة فوق السرير وتحت السرير.. بين المرايا وخلف المرايا.. نادى على متعة ضيعت الذاكرة.. ولكن صوته لم يكن ليخرج من الحنجرة.

ولم يكن أمامه سوى أن يلقى اللوم عليها.. لم تعد فى وصفه امرأة من نحاس.. أقنع نفسه بأن شهوتها انطفأت.. شبعت.. تعبت.. أما هى فلم تشكو.. أمتعت نفسها بنفسها.. حسب نصيحة جارتها.

جارتها أرملة تحت الأربعين ورثت عن زوجها الذى استشهد فى حرب السويس بيتا تعيش من إيجاره ورغم أنها ثرية كل رجل يراها إلا أنها خشيت الزواج مرة أخرى حتى لا ينقطع معاشها ويخف ثقل الماس فى أصابعها وإن دخلت فى علاقات عابرة وفى أيام الخواء كانت تنفرد بجسدها.

نوع فريد قوى مستقل من النساء يتحكم فى نفسه ويعرف ما يريد ويصل إليه بسهولة دون خدش سمعتها ولأنها تعيش بمفردها دفع الأناضولى زوجته إلى التعرف عليها حتى لا تصاب بالملل وتتمرد عليه والحقيقة أن الجارة الخبيرة هونت عليها معاناتها وحلت لها مشكلتها وأقنعتها بالحفاظ على الجنة التى تعيش فيها مهما حدث.

لكن على باب كل جنة إبليس يطرق الباب لعله يجد من يستجيب إليه.

وإبليس سيادة صورة طبق الأصل من إبليس فتحية.. شاب حليوة معجب بنفسه وإن يبدو خدوما متواضعا شهما خفيف الظل يجيد احترام الآخرين ورفع الكلفة معهم وكل هذا طبعا لا يعنى أنه ليس بذئب فالحقيقة أن هذا السطح البراق الخاطف للبصر كان يخفى ليس ذئبا فقط وإنما ضبعا شرسا لا ذمة له ولا ضمير فهو مجنون بالنساء جميعا وفى سبيل أن يظفر بالواحدة منهن مستعد أن يفعل المستحيل مستعد أن يكذب أو ينافق أو يسرق أو يقتل أو يستعمل القنبلة الذرية لو كان يملك واحدة منها على حد وصف يوسف إدريس.

والمرأة عنده ليلة واحدة يقضيها معها وبعد هذا يبحث عن الثانية وكأنه أخذ نساء الأرض مقاولة وعليه أن ينتهى منهن قبل أن يفرغ عمره وعمره الآن خمسة وثلاثون عاما.

لم يكن من الصعب أن يوقع بامرأة هشة مثل سيادة.. هشة لأنها سعت لمجاراة مجتمع لم تنشأ فيه.. لم تستعب عاداته المختلفة عن ما تربت عليه.. تصورت أنها يمكن أن تندمج فيه بتقليده.. وأن تصبح واحدة منه بالاستسلام إليه.

استوعب إبليس الشخصية التى دفعها حظها العاثر إلى السكن فى نفس عمارته.. فهم مفاتيحها.. نقاط ضعفها.. أن يوحى إليها بأنها أجمل وأرقى نساء المدينة.. إنها أكثرهن أناقة ورشاقة وقدرة على التصرف بذوق رفيع يصعب الوصول إليه.

مس حلمها فى الاندماج.. توجها ملكة على القاهرة.. وفى لحظة دوار حسبها بخبرته دعاها لتعلم الرقص فى شقته كى يكتمل تفردها.. وكان ما كان.

لم أعرف تلك التفاصيل إلا من أمى فيما بعد إلا أننى بالغريزة شعرت بأن وراء المشهد الذى أراه والهمس وراء أبواب مغلقة مأساة إنسانية بين رجل وامراة فلا تراهنوا كثيرا على براءة الصغار.

لم تعرف أمى كيف اكتشف الأناضولى خيانة زوجته؟ هل ضبطها؟ هل جرجرها فى الكلام؟.. كل ما حدث أنه جاء بها إلى بيتنا طالبا استشارة أبى فيما يفعل.. نصحه أبى بالطلاق وإعادتها إلى أهلها.. لكنه لم يستجب للنصيحة وكل ما فعل أنه طلب منها الاستحمام قبل أن تقسم على كتاب الله أنها لن تكرر غلطتها التى ارتكبتها فى ساعة شيطان.

وفى اليوم التالى طلب نقله إلى فرع البنك فى بورسعيد ليختفى بعيدا عن الذين عرفوا بما حدث وكأنهم هم المشكلة.

لا أعرف ما حدث لها فيما بعد لكنى أعرف مصير المرأة التى ذكرتنى بها بعد سنوات طوال.

ولدت سميحة الجن فى حارة سد من حارات باب الشعرية.. ولدت فى بيت تملكه عائلتها إلى جوار فرن يديره شقيقها الأكبر.. هدت جلطات الدم فى المخ الأب.. سقط فى فرشه ولم يقم منه.. أصبح عاجزا عن الأمر والنهى.. ترك سلطته وماله وحاله إلى ابنه سيد الذى أجبره على ترك المدرسة ليستوعب صنعة الخبز البلدى.

لم تشأ سميحة أن تكون مثل شقيقها.. جاهل.. يكتب اسمه بصعوبة.. غارق فى المخدرات.. لا يقدر على التقدم للزواج من الفتاة الوحيدة التى أحبها.. تربت معه.. لكنها أكملت تعليمها حتى دخلت الجامعة فلم تعد من نصيبه.

ولم تشأ سميحة أن تكون مثل شقيقتها سناء.. شحبت بعد الزواج وإنجاب خمسة أبناء.. انطفأ جمالها كأن قطار الحسن لم يمر عليها.. تحول نهداها إلى ليف وقشر.. وبدأت سفينتها تغوص حتى لمست القاع.. كرهت فساتينها بعد أن ضاقت عليها.. لم تعد تعرفها.. مزقتها.. دفنت نفسها فى قبر من الحرمان.. كسرت مساحيقها ومرآتها.

كانت سناء تحب فاتن حمامة أما سميحة فكانت تعشق هند رستم والحقيقة أنها كانت مثيرة وجريئة وساحرة مثلها.

أصرت سميحة على أن تكمل تعليمها ولكنها لم تستطع دخول الجامعة بعد عقدة التعليم العالى التى أصابت شقيقها.

على أنها ظلت تحب كل ما حولها.. الحارات.. الأزقة.. المآذن.. الكنائس.. السكارى.. المصلين.. التعصب.. التسامح.. ولكنها لم تجد شابا تحبه ويزيل صقيع عزلتها ويمنحها دفئا يعالج القشعريرة التى تتملكها كلما فكرت فى الرجال.

الرجل فى أعماقها وحش جميل.. عيناه دافئتان.. يقطر منهما العسل.. ينام وراء أثوابها.. تخاف أن توقظه حتى لا يشعلها ويشتعل.. مخلوق خرافى يعيش فى ذهنها.. إله فى معبدها.. تصلى له.. تبتهل إليه.. يغازلها.. حين يجوع يأكلها.. إله يلهو بمشاعرها.. يقتلها.. يحييها.. يأمرها فتمتثل.. إله ما له عمر.. إله اسمه الرجل.

كل رجل تقدم إليها قارنته بالوحش الجميل والمخلوق الخرافى والإله الذى يأمرها فتمتثل فلم تجده وبضغوط شقيقها الأكبر قبلت الزواج من حسن أبو هندية الذى باع السرجة التى ورثها عن أبيها بالقرب من فرن عائلتها وافتتح فرعا لمطعم بيتزا شهير فى العالم وبعد ثلاث سنوات صار المطعم مطعمين ويوم تقدم طالبا يدها أصبح مالكا لخمسة مطاعم جعلت منه اسما على علم.

كان يحبها منذ مراهقته ولكن خجله منعه من الاقتراب منها.. كتب إليها رسائل لم يرسلها.. وسجل لها أغانى لم تسمعها.. وحفر اسمها على رقيقة من ذهب لم ترها إلا صباح اليوم التالى لزفافهما فى الشقة المطلة على النيل التى اشتراها باسمها كما طلبت وكان بجوار الرقيقة دفتر شيكات على حساب باسمها وضع فيه ربع مليون جنيه كما اشترطت.

كان شابا مهذبا متدينا يؤدى الفرض فى توقيته أمام منبر أول مسجد يصادفه ورحلته السياحية المفضلة زيارة الحرم النبوى فى المدينة وتأدية العمرة فى مكة وفى موالد أولياء الله وأهل البيت عرفته حلقات الذكر.

رأته فى ثياب أبيها فلم تعرف كيف تحبه.. دخلت فراشه بلا شوق.. بلا ذوق.. لم تنظر إليه.. أغمضت عينيها على صورة وهمية لرجل لم تقابله.. فهد معجون بالكبريت والشرر.. ذئب جائع خطر.. ينشها.. يضربها.. يقتلها.. يتركها جثة هامدة.

شعر أنه قطار حزن بلا رصيف أما محطاته فهربت منه فغرق أكثر فسهر أكثر فى عمله وغرق أكثر فى حلقات الذكر.

أما هى فشغلها شاغل واحد سيطر عليها من اليوم الأول الذى تركت فيه باب الشعرية : كيف تتحرر من مكانها القديم لتنتمى إلى مكانها الجديد الذى انتقلت إليه؟.

إن الانتقال من حى بسيط إلى حى متميز يحتاج تدريبًا لا يقل عن التدريب الذى يحتاجه الانتقال من الريف إلى المدينة.

يحتاج إلى تماسك وسيطرة وتمهل فى التغيير.

يحتاج إلى حذر فى كل خطوة تخطوها للجهل بما فى المجتمع الجديد من أكمنة مخفية يصعب اكتشافها إلا بعد الوقوع فيها.

مجتمع ثرثار منافق أنانى غيور مغرور يعيش على النميمة ويخترعها إذا لم يجدها يبتسم فى الوجه ويطعن فى الظهر ولا يذرف دمعة واحدة على ضحاياه بل غالبا ما يتندر عليهم فى السهرات.

لم تستعب ذلك.

لم تتصور أن الحفلات التى تقيمها فى الفيللا الجديدة التى اشترتها على شاطئ البيطاش فى العجمى وتنفق عليها ببذخ ستكون مصدر سخرية منها.

كان العجمى وقتها لا يزال يسكنه النجوم والمشاهير وبقايا الأرستقراطية القديمة قبل أن ينتقلوا إلى هاسيندا الحمراء فى الساحل الشمالى بعد أن زحفت عمارات المساكن ففقد المكان خصوصيته.

سخروا من ثيابها غالية الثمن التى لا تناسب الصيف.. سخروا من نطقها لوصفات الأطعمة.. بيكاتا بالشمبنيون.. بيستو باستا.. كوك أوفين.. أو فرنش راتاتاوى.. مثلا.. وسخروا من لغة الفواتير التى تتحدث بها مثل محدثى النعمة.. النفو ريش.

على أنها فى الوقت نفسه بدت امرأة شهية جذابة معجونة بالسمن البلدى.. امرأة مسبكة.. طبق مختلف المذاق.. طاجن حمام بالأرز المعمر.. مسقعة بالشطة.. كنافة بالقشدة.. طبق يمكن التهامه ولو مرة واحدة من باب التغيير.

هنا ظهر على المسرح رجل طفس هو يوسف محمود.. تخطى الأربعين من عمره.. ورث ثروة عن أبيه الذى أتهم فى قضية فساد شهيرة بعد الثورة فى عام ١٩٥٤ كادت تصادر ثروته ولم تكف علاقته بواحد من الكبار لإنقاذه لكن كان عليه أن يدفع نصف ثروته ليخرج من السجن وما أن دخل غرفة نومه حتى أغمض عينيه إلى الأبد.. كبر ما تبقى من الثروة على يد شقيقه الأكبر على من أم أخرى.. أقرض المعسرين من التجار وأصحاب الورش ما يحتاجون مقابل ضعف فائدة البنوك فإذا عجزوا عن السداد شاركهم فيما يملكون.. وفى الوقت نفسه حول غالبية مكاسبه إلى سبائك ذهب لم يسيلها إلا بعد أن فتح السادات البلد.. وحصلت العائلة على توكيلات تجارية استهلاكية متنوعة أعادت إليها سمعتها القديمة التى تشوهت بما فعل الأب.

لم يتعب يوسف محمود فى شىء.. ولد على سرير من ذهب.. أكل بملعقة من فضة.. ركب سيارة حمراء مكشوفة يوم بلوغه سن المراهقة.. عرف الجنس مبكرا.. بالكاد نجح فى الجامعة بعد رسوب متقطع سبع سنوات.

الدرس الوحيد الذى تعلمه فى البيزنس من شقيقه المحترف أن السلطة يجب أن يكون لها نصيب من الثروة حتى تزيد فى هدوء.. ربما حصلت السلطة على نصيبها من الثروة ببناء مدارس أو مستشفيات تخفف من عبء الموازنة العامة.. ربما فرضت التبرع للمشروعات العامة التى تنفذها.. لكن.. الأفضل أن يقبض كبارها المال مباشرة.

انضم يوسف محمود إلى شلة جمال مبارك التى سعت جاهدة لتوريثه الحكم.. انضم إلى لجنة السياسات التى يرأسها ابن الرئيس.. تبرع للمؤتمرات التى يعقدها.. بحث عن بيزنس مشترك بينهما.. وما أن أصبحا صديقين حتى حصل على مساحات شاسعة من الأراضى ليبنى عليها منتجعات شتوية وصيفية نقلت ثروته من خانة الملايين إلى خانة المليارات.

ليس وسيما وليس رشيقا ويعجز عن الحديث أكثر من ثلاث دقائق ويمكن القول إنه ثقيل الظل إلا على قلب مساعديه ومنافقيه الذى يغيرهم بلا سبب سوى إثبات قدرته على اتخاذ القرار وكل ما يفتخر به قائمة النساء اللاتى نالهن وبعضهن ممثلات فى عمر ابنته وغالبا ما كان يبدأ المشوار معهن برحلة إلى شانزليزيه باريس تبدأ بالتسوق من هناك وتنتهى بالنوم فى شقته التى يمتلكها هناك.

والمؤكد أنه كان سخيا فى الإنفاق على نزواته وكثيرا ما كلفته امرأة ملايين الجنيهات ولكن لا يهم مادمت أشادت بفحولته فى مجتمعها نوعا من الدعاية التى تغرى نساء آخريات بالبحث عنه ليدخلن القائمة.

ديك سادى سفاح منفوش ينتف ريش النساء وينقرهن ويضاجعن ويهجرهن ويمشى زهوا كلما تجاوز القانون.

كان يسهر فى مايكل عندما رأها على مائدة مرتفعة وضعت خصيصا لها حتى تبدو أعلى من كل فى المكان الذى يسهر فيه الأثرياء والمشاهير.

همس مرافقه وقواده:

ــ حتة بلدى مفتخرة.

ــ حلمك على لن أقيسها إلا بعد الكأس الثالث لكن أرسل إليها زجاجة شمبانيا أرماند دى بريجناك.

ــ لكنه نوع غال جدا لا تفهم فيه كما أنه لن يوجد هنا.

ــ لدى مخزون منه هنا أسأل الخواجة وأفهمه يعرفها قيمتها ولا مانع أن يعلن لها سعرها.

ــ هل تستحق ثلاثة آلاف دولار؟.

ــ وفص ألماظ نادر أيضا الثروة خلقت لنقايض بها النساء.

هزت سميحة رأسها مبتسمة رافعة كأس الشمبانيا فى صحته لكنه انتظر حتى الكأس الثالث ليقوم ويجلس إلى جانبها وفى تلك اللحظة انصرفت صديقاتها.

أخرج من جيبه خاتمًا من الماس ووضعه بنفسه فى أصبعها ورغم خجلها ودهشتها قالت:

ــ يااااه كيف عرفت مقاسى؟.

لكنه سألها قبل أن ينصرف :

ــ أين ستقضين إجازة عيد العيد؟.

ــ زوجى فى الحج وٍسأبقى فى البيت.

ــ لن تبقى فى البيت ستكونين معى.

ــ أين؟.

ــ هذا سر لن تعرفيه إلا فى وقته سأرتب كل شىء وما عليك إلا السمع والطاعة.

ــ حاضر يا مولاى.

فى تلك اللحظة التقطت كاميرا متطورة تعمل فى الظلام صورهما متقاربين فى أوضاع تفضحهما.

تولى التقاط الصور ضابط سابق فى مباحث الأموال العامة تسبب يوسف محمود بنقله إلى الترحيلات انتقامًا منه بعد إيقاف ومصادرة شحنات إحدى شركاته فى الجمارك أعفاها موظف مرتشى من الرسوم وبطرق يجيدها نجح فى عقابه بوضعه بين عتاة المجرمين فى قسم الخليفة لكن الأسوأ أنه شوه سمعته فى الداخلية كلها مما أجبره فى النهاية على تقديم استقالته.

لكن الرائد (سابقا) حسنين المحمدى لم يقبل بما فعل به وقرر الانتقام منه بالبحث عن فضيحة له.. راح يراقبه فى الكباريهات وعلى حمامات السباحة وأمام الشواطئ وفى الحفلات الاجتماعية.. لكنه.. لم يشعر بأنه أمام صيد ثمين إلا فى تلك الليلة عند مايكل.

وتضاعفت قيمة الصيد بمزيد من الصور التقطت لسميحة ويوسف فى منتجع مرسى علم حيث قضيا معا إجازة العيد دون إخفاء أو مواربة بل كان يتصرفان علنا وكأنهما زوجان فى شهر العسل.

لم يكن من الصعب على المحمدى الحصول على رقم تليفون زوجها الذى عاد من الحج يرتدى جلبابا أبيض ويقف وسط الفقراء فى الشارع يوزع عليهم اللحم بنفسه.. اتصل به.. التقيا فى أحد مطاعمه.. لم ينفعل الزوج.. فتح خزانته وأخرج منها خمسين ألف جنيه قدمها إلى المحمدى :

ــ شكرا على ما فعلت.

ــ لكن النقود لا تهمنى ما يهمنى الانتقام من الرجل الذى شردنى ظلما وأفسد زوجتك قسرا.

ــ سأعطيك مليون جنيه لو أصبته فى المنطقة الحساسة التى يتباهى بها لا أريد قتله أريد أن لاتكف دموعه عن فحولته الممزقة.

ــ وسميحة هانم؟.

ــ سأطلقها بعد إجبارها على إعادة كل ما أخذت منى لتعود إلى أخيها لتعمل فى الفرن.

بعد عشرة أيام بالضبط تسلم حسنين المحمدى حقيبة بها مليون جنيه وورقة مكتوب عليها جملة واحدة : لن نلتقى مرة أخرى ولو تقابلنا صدفة سأبتسم ولكن لن أحييك.

فى اليوم نفسه أيضا طلقت سميحة الجن وعادت يامولاى كما خلقتنى إلى مسقط رأسها وقابلها شقيقها بعصا غليظة انهار بها عليها حتى نقلت إلى مستشفى سيد جلال بين الحياة والموت.

وفى اليوم كذلك حملت طائرة إسعاف خاصة (أس أو أس) يوسف محمود وهو راقد على بطنه يبكى إلى سويسرا لإجراء جراحة عاجلة فى عيادة ومركز فالمونت للجراحة الدقيقة وإعادة التأهيل.

من يومها لم يقرب امرأة.

الديك السفاح أصبح دجاجة مجمدة.