رامي رشدي يكتب: محمد صلاح يهزم عنصرية العالم

مقالات الرأي

رامي رشدي
رامي رشدي

جعل الخيال السينمائى واقعًا وهدم التابوهات الكروية

صانع الأحلام وإكسير السعادة ومنبع فخر المصريين


إن حصلت على تذكرة دخول الأنفيليد، معقل الشياطين الحمر «ليفربول»، فأنت فى حلم جميل ومتعة استثنائية لعاشق كرة قدم، وإن جلست على مقعد فى «الأولد ترافلد» فأنت تُسطر تاريخًا، فما بالك بما فعله ابن نجريج ونجم ليفربول محمد صلاح بفريق مانشيستر يونايتد، وسط جماهيره وفى معقله بـ «الأولد ترافلد».


كتب «مو » تاريخًا كرويا أصبح حديث العالم ووكالات الأنباء العالمية، وأصبح ضيفًا دائمًا على صدر الصفحات الأولى لأغلفة كبريات الصحف والمجلات والمواقع العالمية، متصدرًا للترندات على مواقع السوشيال ميديا.. وليس ذلك بغريبًا على ابن مصر البار محمد صلاح، الذى رفع سقف طموحات وأحلام المصريين والعرب وشباب وأشبال العالم العاشقين والحالمين بكرة القدم.

تخطى الخيال وجسد واقعًا دراميًا أقرب للفانتازيا.

عندما جسدت السينما المصرية فليمًا عن لعبة كرة القدم عام ٢٠٠٩ تحت عنوان «العالمي» للفنان المصرى يوسف الشريف، والمخرج أحمد مدحت، والمؤلف ياسين كامل، كان آخر ما وصل له خيال المؤلف أن تمتلك مصر لاعبًا عالميًا محترفًا فى صفوف فريق فالنسيا الإسبانى، الذى كان مصنفًا وقتها، وحاليا من بين فرق الصف الثانى فى أوروبا، ومن أجل الحبكة الدرامية تم تصوير البطل خلال التدريبات مع نجوم الفريق الإسبانى وقتها، ديفيد فيا وديفيد سلفيا، ووفقا لخيال المؤلف كان النجم المصرى سببًا فى وصول مصر لكأس العالم، بهدف تاريخى.

وقت عرض الفيلم كان يوجد شاب يافع يسافر من طنطا للقاهرة يوميًا بالقطار، لديه خيال وحلم يثابر لتحقيقه ويخطط له، وبعد ٨ سنوات أصبح حلمه حقيقة والسينما واقعا، وبات هذا الشاب اليافع معروفا فى أوروبا بعد التحاقه بفريق ليفربول الإنجليزى، وبدأ فى كتابة التاريخ مع فريقه بعد رحلة احتراف بدأت فى الصعود مع فريق روما الإيطالى.

وفى أكتوبر ٢٠١٧ خلال مشهد واقعى أخذ بالكربون من الفيلم السينمائى الذى تم تصويره فى ٢٠٠٩ تتقدم مصر بأقدام الشاب اليافع محمد صلاح على الكونغو فى مباراة تاريخية بالجولة الخامسة من التصفيات الإفريقية المؤهلة لكأس العالم - روسيا ٢٠١٨، كانت مصر تحتاج للفوز بأى نتيجة للتأهل، بغض النظر عن مباراتها بالجولة السادسة أمام منتخب غانا، وبات الحلم حقيقة والخيال واقعا لم يخطر بال.

وعندما أدرك لاعب الكونغو هدف التعادل فى الدقيقة ٨٧ من عمر المباراة، سقط محمد صلاح فى لحظة إحباط على الأرض، لكنه سرعان ما قام ليشحذ همة زملائه وبعد دقائق مجنونة خاضها المنتخبان، استطاع المصريون حسم النتيجة فى الوقت بدل الضائع من ركلة جزاء سجل منها نجم ليفربول الإنجليزى محمد صلاح هدف الفوز والتأهل إلى روسيا ٢٠١٨، محققًا أحلام وآمال ١٠٠ مليون مصرى، منهم ٨٠ ألف مشجع حضروا المباراة فى استاد برج العرب.

فى نفس الموسم وتحديدًا فى مايو ٢٠١٨ كان «صلاح» يحقق للمصريين أحلامًا أخرى بأهدافه، وظل المصريون يتابعون ويدعمون ويشجعون ابنهم الذى وصل فى هذا الموسم مع فريقه ليفربول إلى نهائى دورى أبطال أوروبا ليواجه الفريق الملكى الإسبانى ريال مدريد، ولكن فى لحظة درامية شديدة القسوة أصاب المدافع الدولى الإسبانى «راموس» نجم ريال مدريد وقتها محمد صلاح متعمدًا، وخرج «مو» باكيًا على خطوة فى حلمه الكبير لم يستطع تحقيقها، وكانت ليلة سوداء على المصريين، وخسر ليفربول النهائى بطريقة دراماتيكية.

ولكن كعادته ومع تجدد طموحه الذى يتجدد معه طموح المصريين الداعين له، قاد صلاح فريقه فى العام التالى إلى نهائى دورى أبطال أوروبا أمام فريق توتنهام الإنجليزى، وحقق البطولة الـ ٦ فى تاريخ ناديه ليفربول.

نجاح يليه آخر، وبطولات وأرقام شخصية، يرتفع بها إلى عنان السماء فى العالم كله، عندما حصد جائزة أفضل لاعب فى إنجلترا ٢٠١٨، وجائزة أفضل لاعب إفريقى لعامى ٢٠١٧ و٢٠١٨ وجائزة أفضل لاعب إفريقى بواسطة البى بى سى لعامى ٢٠١٧ و٢٠١٨، وأفضل لاعب فى الدورى الإنجليزى لعام ٢٠١٨، وجائزة الحذاء الذهبى فى الدورى الإنجليزى الممتاز (هداف الدورى الإنجليزى الممتاز) عامى ٢٠١٨ و٢٠١٩، واختير من قبل مجلة تايم الأمريكية فى عام ٢٠١٩ ضمن أكثر ١٠٠ شخصية تأثيرًا فى العالم.

بعدما حقق بطولة دورى أبطال أوروبا أصبح هناك حلم آخر، استعصى على فريقه ليفربول لمدة ٣٠ عامًا، ويبدو أنه انتظر صلاح ورفاقه ليلين، وبالفعل حصد الفريق لقب الدورى الإنجليزى ٢٠٢٠، بعد ٣ عقود عجاف من المحاولات الفاشلة.

وباتت الجماهير المصرية والعربية والعالمية يسيرون فى درب مجرة الأحلام المستحيلة محمد صلاح، وفى الوقت الذى توقفت فيه الأحلام قليلًا عن التحقق خرجت أصوات تنادى وتؤكد ضرورة خروج «صلاح» من ليفربول، قالوا: لم يعد لديه شىء ليحققه، عليه تجديد دوافعه وأحلامه فى ناد آخر ودورى مغاير، كان ذلك فى موسم ٢٠٢١ السيئ لـ «ليفربول» والذى أنهى فيه الدورى فى المركز الثالث وفى الرمق الأخير، وودع بطولة دورى أبطال أوروبا من الأدوار الإقصائية، وطاردت لعنة الإصابات الفريق، مع توقف النادى عن شراء لاعبين جدد، باستثناء لاعب خط الدفاع الفرنسى كانوتيه، مع رحيل عماد خط الوسط الهولندى فينالدوم، وعدم تجديد عقد صلاح.

لكن صلاح كعادته جدد الطموح ومنحه العالم إكسير السعادة، وفى أقل من ٦٠ يومًا فى الموسم الجديد من أغسطس حتى الآن، حطم كل الأرقام القياسية، نزع كل الثوابت وأغلق كل صفحات التاريخ، وجاء بكتاب تاريخ مسجل باسمه فى ليفربول والدورى الإنجليزى، أولها دخل نادى المائة هدف فى البريميرليج، ووصل للعدد ١٠٧ أهداف فى تاريخ الدورى كأول لاعب عربى وإفريقى، متخطيًا الرقم المسجل باسم اللاعب الإيفوارى دوروجبا ١٠٤ أهداف، وبات أول لاعب يسجل فى عشر مباريات متتالية فى تاريخ نادى ليفربول، متخطيًا رقم لاعب ليفربول دانييل ستوريدج الذى سجل فى ٨ مباريات متتالية، وبات أول لاعب يسجل ٣ مباريات متتالية فى الأولد ترافلد، معقل مانشستر يونايتد، وأول لاعب يسجل هاترك فى الأولد ترافلد منذ الظاهرة رونالدو البرازيلى عام ٢٠٠٣ مع نادى ريال مدريد، وهو رقم صمد لمدة ١٨ عامًا.

ليست الأرقام فقط يحطمها صلاح لكنه يقدم معها فنًا ومتعة وعروضًا تخطف الآهات وصيحات الجماهير فى كل جنبات الملعب وبجميع أنحاء العالم، على شاشات المقاهى وفى النوادى وفى البيوت، فاصل المتعة الكروى لا ينتهى بأهدافه الكرنفالية، بل حير معه مدربى الخصوم والمدافعين وحراس المرمى، الذىن يقفون أمام عروضه عاجزين عن التصدى لها.

تابوهات وثوابث لم يعبء لها وصنع لنفسه مجدًا خاصًا وللمصريين فخرًا وعزًا، فعلى مدار عقود كان لا صوت يعلو فوق صوت كلاسيكو الأرض، المواجهة التى كانت ينتظرها سكان الكرة الأرضية، بين برشلونة وريال مدريد، وكانت تعقد المقارنات دائما بين ميسى فى برشلونة وكريستيانو رونالدو فى ريال مدريد، من خلال وسائل الإعلام وفى استوديوهات التحليل العالمية، وبين الجماهير على المقاهى، وفى الشوارع والبيوت، وكان للكلاسيكو رونقه الخاص.

لكن المعادلة تغيرت لأن صلاح أصبح موجودًا وواقعًا وحقيقة لا ينكرها أحد، وبات هناك معطيات مغايرة، وتصادف يوم الأحد الماضى وجود موعد مباراة الكلاسيكو بين برشلونة وريال مدريد فى نفس توقيت مباراة مانشستر يونايتد وليفربول، وإن سبقها بحوالى ٦٠ دقيقة، لكن العالم كله عامة والمصريون خاصة كان اهتمامهم الأكبر والأهم بالمواجهة بين صلاح نجم ليفربول وكريستيانو نجم مانشستر يونايتد الذى حط رحاله فى الدوى الإنجليزى مرة أخرى، ولم يعد كلاسيكو إسبانيا على رأس أولويات مشجعى كرة القدم، ولا عزاء لميسى الذى بات خارج المعادلة بعد رحيله إلى باريس سان جيرمان الفرنسى، ومازال يبحث عن نفسه، وبقى رونالدو فى المنافسة والواجهة، لكن صلاح قال له أمام العالم أجمع «عذرًا يا دون» فالعصر عصرى، والزمان زمانى.

 

كل هذا التألق داخل الملعب هو نفس ما يفعله خارجه، حينما اختارته مجلة التايم الأمريكية ضمن أكثر مائة شخصية مؤثرة فى العالم، ووضعت صورته على غلاف عددها، علقت عبر حسابها الرسمى على تويتر «محمد صلاح يتميز بأنه إنسان أكثر من كونه لاعب كرة قدم».

وبين الأعمال الخيرية والحملات الإنسانية كان «صلاح» حاضرًا، واستطاع النجم المصرى أن يصبح معشوقا لجماهير الريدز، وأن ينال إعجاب واحترام الجماهير الإنجليزية والعالمية بشكل عام، بفضل إنجازاته الأسطورية وأرقامة القياسية داخل الملعب، بجانب أخلاقه وتعامله الرائع مع المشجعين فى كثير من الأحيان.

محمد صلاح أصبح ملهمًا للإنجليز خاصة فى مدينة ليفربول، والجميع يهتف باسمه ويقلد حركاته، ويتمنى أن يصبح مثله مستقبلا.

وحالة استثنائية فرضت نفسها وساهمت بشكل كبير فى تعميق قيم الإسلام، الداعية للتسامح والرحمة والعدل، فهو ليس دين إرهاب وعنف مثلما يروج أعداؤه.

وأكدت دراسة تابعة لجامعة كامبريدج الأمريكية، أن معدل جرائم الكراهية ضد المسلمين فى مدينة ليفربول الإنجليزية، انخفض بنسبة ١٦٪ منذ انضمام النجم المصرى محمد صلاح إلى الريدز.

ونشرت مجلة » «American Political Science Review»» التابعة لجامعة كامبريدج، الأسبوع الماضى، دراسة بعنوان: «هل يمكن أن يساهم المشاهير فى التقليل من العنصرية؟ تأثير محمد صلاح فى السلوكيات المعادية للإسلام».

وأوضحت الدارسة أن جرائم الكراهية ضد المسلمين فى إنجلترا انخفضت بنسبة ١٦٪، منذ انضمام محمد صلاح إلى ليفربول فى ٢٠١٧، مقارنة بمناطق أخرى مماثلة فى بريطانيا. وأشارت الصحيفة إلى أنه تمت مراجعة ١٥ مليون تغريدة لـمشجعى كرة القدم الإنجليزية، وثبت انخفاض جرائم الكراهية فى ليفربول بنسبة ١٦٪.