الدكتور محمود جلال يكتب: تمويل الابتكار وريادة الأعمال في مؤشر الابتكار العالمي (1)

مقالات الرأي

الدكتور محمود جلال
الدكتور محمود جلال

تقوم كل من الدول المتقدمة والنامية بتعزيز الابتكار وريادة الأعمال وذلك لدعم النمو الاقتصادي وبناء مستقبل مستدام وشامل لها، فتعمل على مراقبة أداء أنظمة الابتكار وتحسينها وإزالة العقبات أمامها. 

ويلعب البعد المالي دورًا حاسمًا في تعزيز جهود الابتكار هذه، لذا تُعد أفضل السبل لتمويل الابتكار من أهم اهتمامات الحكومات والشركات، حيث يؤدي نقص مصادر التمويل إلى نقص الاستثمار في الابتكار، خاصة عندما تكون المخاطر التكنولوجية المرتبطة بالابتكار مرتفعة للغاية بالنسبة للمستثمرين، وعندما يكون لدى رواد الأعمال أصول غير مادية (ملكية فكرية) فقط كضمان، أو في الدول النامية حيث لا يزال يتعين تطوير آليات التمويل وتقوية الأسواق المالية بها.

وتمويل الابتكار يتضمن مشاركة مباشرة وغير مباشرة من الحكومات، حيث تستثمر من الموارد العامة للدولة في الأنشطة البحثية التي تقوم بها الجامعات والمراكز البحثية والشركات لضمان توليد معرفة جديدة ومشاركة مخاطر البحوث الخاصة، بالإضافة إلى آليات غير مباشرة تهدف إلى تعزيز الاستثمار الخاص في البحوث والتطوير ودعم النظام البيئي للابتكار لديها، من خلال تقديم الحوافز المختلفة خاصة المالية منها عن طريق خفض أسعار الفائدة على القروض، والإعفاءات الضريبية للشركات الناشئة ورواد الأعمال والشركات التكنولوجية عالية المخاطر.

ومن المهم مراقبة أنظمة تمويل الابتكار الوطنية عن كثب في ضوء أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDGs)، حيث تم الاتفاق في أجندة عمل أديس أبابا التي تم اعتمادها في عام 2015 كإطار عمل متفق عليه دوليًا لتمويل التنمية المستدامة، على التزام الدول الأعضاء بوضع سياسات لتحفيز إنشاء تقنيات جديدة وإنشاء صناديق تمويل الابتكار لدعم المشاريع المبتكرة، وبعد أربع سنوات من اعتماد خطة التنمية المستدامة لعام 2030 اجتمعت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عام 2019 لمراجعة التقدم المحرز، واعتمدت إعلانًا سياسيًا لتسريع العمل على تعزيز الابتكار وتعبئة الموارد لسد فجوات التمويل لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، كما أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في ذات العام بالحاجة إلى تعبئة وتوسيع نطاق التمويل الخاص بالعلوم والتكنولوجيا والابتكار لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وأيضا شجعت الجمعية في عام 2020 الدول الأعضاء على العمل في شراكة لزيادة تمويل بحوث وتطوير لقاحات وأدوية لمواجهة الأزمة العالمية الناجمة عن جائحة مرض فيروس كورونا.

لذلك سنتناول في هذه السلسلة من المقالات آليات تمويل الابتكار وريادة الأعمال المتاحة عالميًا والنماذج الناجحة لتطبيق هذه الآليات عالميًا، واستخدام الملكية الفكرية كأصول غير مادية لتمويل الابتكار، وتراخيص نقل التكنولوجيا طبقا لما ورد بتقارير مؤشر الابتكار العالمي الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية التابعة للأمم المتحدة.

الجزء الأول: آليات تمويل الابتكار وريادة الأعمال المتاحة عالميًا خلال مراحل دورة حياة الشركات.

ترتبط التنمية المالية بالتنمية الاقتصادية بشكل كبير، فعندما تتوافر أسواقٌ مالية متطورة تعمل على تمويل الابتكار، خاصة من خلال رأس المال الاستثماري (المخاطر) القائم على تمويل البحوث والتطوير، مما يوفر الإمكانيات اللازمة لتحقيق مكاسب في الانتاجية بفضل تنفيذ العمليات المبتكرة وتسويق التكنولوجيات الجديدة الأمر الذي يعمل على تحفيز الازدهار الاقتصادي.

ويتم تصنيف تمويل الابتكار من خلال بعدين، الأول هو عمر الشركة ونضجها، والثاني موضع التمويل في هيكل رأس مال الشركة:

فيما يتعلق بالبعد الأول، تمر الشركة بِسِتِّ مراحل، المرحلة الأولية (seed stage) بعد التأسيس، وفيها لا تدر الشركة الناشئة عادةً إيرادات، ومع قيامها ببناء أعمالها في المرحلة المبكرة (early stage) من خلال اختبار المنتجات والإنتاج التجريبي (pilot production)، يصبح تدفقها النقدي سلبيًا بشكل متزايد.

وتسمى هاتان المرحلتان الحرجتان بوادي الموت لأنه المحدد هل ستتمكن من البقاء أم لا، لأن أحد أكثر الأسباب شيوعًا للتوقف عن العمل هو نقص رأس المال، خاصة في الدول النامية، وبعد استطاعتها الخروج من هذا الوادي بنجاح، تدخل في مرحلة التوسع (expansion stage)، عندما تقوم بتقديم المنتجات أو الخدمات ولديها قائمة عملاء وتبدأ في تحقيق إيرادات.

ثم تصل إلى المرحلة اللاحقة (later stage) عندما تصل الشركة الناشئة بالفعل إلى معدل نمو مستقر إلى حد ما، وتصل الشركة إلى مرحلة النمو (growth stage)، عندما تبدأ في تحقيق إيرادات أكبر وفي جني أرباح إيجابية من خلال توسيع قاعدة عملائها ومجموعة الخدمات أو المنتجات التي تقدمها.

وأخيرًا، تصل الشركة إلى مرحلة النضج (mature stage) حيث تكون ذات خبرة ولديها من الأرباح ما يمكنها من الاستمرارية وحققت أيضًا قدرًا من الاستقرار، بحيث تستطيع التغلب على معظم الظروف المفاجئة وغير المتوقعة والتعامل مع الصعاب المالية التي قد تواجهها.

وتحتاج هذه الشركات الناضجة بعد ذلك إلى التجديد من نفسها والابتكار حتى تحافظ على تواجدها السوقي القوي لتحقيق ما يسمى بالنمو التوليدي (generative growth).

وتختلف مصادر التمويل ريادة الأعمال والابتكار خلال دورة حياة الشركات، ففي البداية تكون قيود التمويل حادة على للشركات في المراحل المبكرة من دورة حياتها عندما يكون نموذج أعمالها لا يزال غير مختبَر بالسوق، ويتضمن ذلك الشركات الناشئة (start-ups) في مجال التكنولوجيا التي تهدف إلى زعزعة الصناعات التقليدية القائمة من خلال تطوير منتجات وخدمات وعمليات إنتاج جديدة، ويعتمد بقاء هذه الشركات على الوصول لتمويل نمو رأس المال لتوسيع نطاق أعمالها في هذه المراحل المبكرة.

وتتمكن الشركات الناشئة في هذه المرحلة الأولية من الحصول على التمويل من خلال الموارد الخاصة لرائد الأعمال سواء مدخرات أو الحصول على قرض شخصي، أو من خلال العائلة والأصدقاء، وقد تتلقى منحًا حكومية أو منحًا خيرية من المؤسسات، أو تحصل على تمويل من خلال منصات التمويل الجماعي (reward-based crowdfunding platforms) مقابل حصول الممولين على مكافآت غير نقدية أو منتجات.

ولكن العديد من رواد الأعمال يفضلون تجنب الاقتراض أو جذب مستثمرين كشركاء، مع أن مواردهم الخاصة غالبًا ما تكون غير كافية لبناء أعمالهم في غياب الإيرادات، ولعبور رواد الأعمال لوادي الموت يجب عليهم الوصول لأحد مصادر التمويل البديلة التالية:

من ناحية الديون (debt side): مثل القروض من مؤسسات التمويل متناهي الصغر (microfinance institutions)،ومؤسسات تمويل المشروعات (venture debt)، والقروض الحكومية (government loans) ومنصات الإقراض الجماعي (crowdlending platforms).

ومن ناحية حصة رأس المال (equity side)، من خلال رأس المال الاستثماري أو المخاطر (venture capital - VC) الذي تقدمه شركات رأس المال الاستثماري المستقلة (independent VC firms) أو الشركات المساهمة برأس مال مخاطر (corporate venture capitalists)، أو أن تكون الحكومات نفسها صاحبة رؤوس أموال مخاطرة.

ويعتبر رأس المال الاستثماري أهم مصدر لتمويل رأس المال الأولي (seed capital) بالشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا (tech start-ups)، وفي السنوات الأخيرة لتقليل المخاطرة باستثماراتهم تحول تركيز استثمارات رأس المال الاستثماري إلى تمويل مراحل التوسع والمراحل اللاحقة والنمو من دورة حياة هذه الشركات، ويتم ملء الفراغ الناجم من التحول عن تمويل المراحل الأولية للشركات الناشئة من خلال انتشار مجموعات المستثمرين الممولين (angel investors) ومنصات التمويل الجماعي لحصص رأس المال (equity crowdfunding platforms) عبر الإنترنت، وكذلك مسرعات الأعمال (accelerators) التي تساعد المشاريع الجديدة على الوصول إلى رأس المال في المراحل المبكرة ولكن مساهمتهم المالية ضئيلة إلا أنها توفر إرشادات مهمة وفرصًا مهمة للتواصل، وغيرهم من المستثمرين في المراحل الأولية الذين يمولون احتياجات رأس المال الأولية المنخفضة لهذه المشاريع.

وبالنسبة للشركات الناشئة التي تنجح في عبور وادي الموت، تتوفر أشكال مختلفة من التمويل في مراحل التوسع والمراحل اللاحقة، حيث تصبح البنوك أكثر استعدادًا لإقراض الشركات التي أصبح لها أصولٌ مادية وأظهرت نموذج أعمال قابل للتطبيق.

أما في مرحلة النمو يتوفر لها مجموعة من المقرضين غير التقليديين، مثل صناديق الاستثمار الخاصة (private credit funds) وصناديق الثروة السيادية (sovereign wealth funds) والصناديق المشتركة (mutual funds).

ومع وصول الشركات إلى مرحلة النضج (mature stage)، يصبح أمامها الكثير من خيارات التمويل سواء من خلال القروض البنكية العادية (bank loans) أو من خلال الأنظمة المختلفة لرأس المال المتوفر للديون (debt capital) كما في الدول المتقدمة ذات الأسواق المالية المتطورة، مثل قروض الرفع المالي (leveraged loans)، والديون الثانوية (subordinated debt)، وديون الميزانين (mezzanine debt)، وسندات الشركات (corporate bonds)، أو من خلال حصة رأس مال خاصة (private equity)، أو من خلال الطرح العام في أسواق الأوراق المالية (public equity markets) للوصول إلى قاعدة عريضة من المستثمرين سواء أكانوا أفرادا أو مؤسسات.

ونجد في الكثير من الدول أن الشركات الناشئة لا تزال تجتذب معظم موارد ممولي الابتكار، على الرغم من أن التوسع هو الاختبار الحقيقي للابتكار، في إسرائيل، على سبيل المثال، عمليات الاستحواذ على الشركات الناشئة في مراحلها المبكرة بكثافة من قبل الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات، أدى لاهتمام رواد الأعمال (entrepreneurs) بأن يصبحوا مبتدئين (start-upist) أكثر من اهتمامهم ببناء شركات عالمية بمليارات الدولارات، الأمر الذي أدى لحدوث ظاهرة "الوسط المفقود" أو النقص في الشركات متوسطة الحجم، لذلك فإن إيجاد التوازن الصحيح بين تمويل الشركات الناشئة والشركات الناضجة أمر بالغ الأهمية للنظم البيئية للابتكار.