الدكتور محمود جلال يكتب: تمويل الابتكار وريادة الأعمال في مؤشر الابتكار العالمي (2)

مقالات الرأي

الدكتور محمود جلال
الدكتور محمود جلال

تتنوع آليات تمويل الابتكار وريادة الأعمال بدول العالم طبقا ومدى تطور النظام البيئي للابتكار بها وامتلاكها لأسواق مالية قوية، فمنها ما هو يعتبر من آليات تمويل الابتكار التقليدية وهي: 
* الدعم الحكومي للابتكار وريادة الأعمال،
* والاستثمارات الابتكارية الخاصة بالشركات.

ومنها ما يعتبر من آليات التمويل القائمة على السوق والتي تستهدف الابتكار على وجه التحديد، مثل:

- تمويل الأعمال الريادية في مقابل حصة في رأس المال وهي: 
* حصة رأس مال خاصة (private equity).

- أو تمويل الشركات الناشئة في مراحل التوسع والنمو، من خلال:
* رأس المال الاستثماري أو المخاطر (Venture capital)،
* الشركات المساهمة برأس مال مخاطر (corporate venturing)،

- أو تمويل الشركات الناشئة في المراحل المبكرة، من خلال:
* الاستثمار التمويلي (Angel investing)،
* مسرعات الأعمال (Accelerators)،
* التمويل الجماعي لحصص رأس المال (Equity crowdfunding).

والتبرعات الخيرية من الجهات المختلفة لتمويل الابتكار، مثل:
* المنظمات غير الهادفة للربح.

وتشمل أيضا مجموعة جديدة من آليات تمويل الابتكار، مثل:
* صناديق الثروة السيادية (sovereign wealth funds - SWFs)،
* أسواق الملكية الفكرية (intellectual property – IP – marketplaces)، 
* التمويل متناهي الصغر (microfinance)، 
* حلول التكنولوجيا المالية (fintech solutions).

وكل هذه الآليات المستخدمة في تمويل الابتكار عالميًا سوف نتناولها بمزيد من التفاصيل في أجزاء هذه السلسلة من المقالات، كما استعرضنا في الجزء الأول آليات التمويل المتاحة عالميًا طبقًا ومراحل دورة حياة الشركات.

الجزء الثاني: الدعم الحكومي للابتكار وريادة الأعمال كآلية من آليات تمويل الابتكار التقليدية:

1. الدعم الحكومي للابتكار وريادة الأعمال:

تقوم الحكومات بتخصيص الموارد العامة للبحوث والابتكار، حيث يلعب الدعم الحكومي للابتكار دورًا رئيسيًا في تشكيل مدى وطبيعة واتجاه الابتكار في الدولة الذي يؤدي لدفع النمو الاقتصادي، والتغلب على التحديات المجتمعية طويلة الأمد، مثل الصحة والطاقة والبيئة، أو معالجة الأزمات قصيرة المدى، فتقوم الحكومات بتمويل أعمال البحوث والتطوير والابتكار من خلال مزيج من الأدوات المباشرة وغير المباشرة.

حيث تقدم الحكومات الدعم المالي المباشر في شكل منح أو قروض، أو ضخ رأس المال في الشركات مقابل حقوق للملكية بها، أو تشجيع جهات التمويل على تقديم القروض لتمويل مشاريع البحوث والتطوير مع ضمان من الحكومة عندما لا تستطيع الشركات السداد، كما يمكن للحكومات أن تدفع لأطراف ثالثة لتقديم الخدمات التي تتطلبها الشركات للابتكار، أو من خلال المراكز البحثية الحكومية، كما تقدم الحكومات أيضًا دعمًا ضمنيًا للابتكار التجاري من خلال أنشطة الشركات المملوكة للدولة، والتي تعد أيضًا جزءًا من قطاع الأعمال. 

ويسمح التمويل المباشر من الحكومات باستهداف أنشطة بحوث وتطوير محددة وطويلة الأجل وتوجيه جهود الأعمال نحو مجالات جديدة للبحوث والتطوير أو مجالات تقدم عوائد اجتماعية عالية ولكن مع احتمالات منخفضة للأرباح، على سبيل المثال في مجالات التكنولوجيا الخضراء والابتكار الاجتماعي، أو دعم للبحوث والتطوير للشركات العاملة في الصناعات الدفاعية لتطوير المعدات العسكرية والتطبيقات المدنية المحتملة كما في فرنسا والولايات المتحدة بينما تحتفظ الحكومات بالملكية الفكرية لنتائج الأبحاث التي يتم تطويرها في إطار هذه البرامج.

بالإضافة لذلك تقوم الحكومات بالاستثمار في البحوث الأساسية (basic researches) التي توفر معرفة مستقلة ليست ناتجة عن حل مشكلة قائمة ولا استراتيجية محسنة. حيث تعتبر البحوث الأساسية عنصر فعال وحاسم قادر على استكشاف المجهول في العلم، حيث لا تكمن قيمة هذه المعرفة في قابليتها للتطبيق ولكن في أصالتها وعدم توقعها. ومن هذا المنطلق يجب الحفاظ على الاستثمار في البحوث الأساسية بشكل مستقل عن الابتكار بحيث لا يكون مدفوعًا بالتطبيق ولا مدفوعًا بالمشكلات، وفي ذات الوقت يجب أن يتم استخدام المعرفة البحثية الأساسية في توجيه عمليات الابتكار، وأيضا استخدام عمليات الابتكار لتحديد مجال البحوث الأساسية لاستكشاف المجهول الجديد في العلم.

وتقوم الحكومات بدور فعال في التحديات التي تواجهها الشركات الناشئة ذات التكنولوجيات الجديدة شديدة التعقيد (tough tech) التي تعتمد على العلوم الجديدة، فتقوم بتمويل التجارب والنماذج الأولية (prototypes) التي تكلف مبالغ طائلة وتستغرق وقتًا طويلًا لتحقيق العوائد المرجوة، ولكن هناك حاجة مجتمعية كبيرة لها وتعمل على تشكيل المستقبل وتحقيق الريادة عالميًا، مثل برنامج المنح SBIR التابع لوزارة الطاقة الأمريكية، والذي مول العديد من هذه الشركات الناشئة التي كان يصعب عليها تلقي التمويل من المستثمرين نظرًا لحداثة التكنولوجيا التي تقدمها وصعوبة التعرف على فاعليتها ومدى توافقها مع احتياجات السوق المستقبلة.

كما ارتبط نجاح تسويق هذه التكنولوجيات شديدة التعقيد عندما تكون مرتبطة بعقود حكومية عالية القيمة خاصة مع الجيش لشراء الإصدارات المبكرة من هذه التكنولوجيات الناشئة، مع تضمن التعاقد معايير واتجاهات للمسار التكنولوجي، ودفع جزء من قيمة التعاقد مقدمًا مما يقلل بشكل كبير احتياج الشركات الناشئة للتمويل الخارجي.

وأيضا توفر الدعم غير المباشر من خلال الحوافز المالية، مثل تخفيض الضرائب المستحقة على العائدات الاقتصادية من البحوث والتطوير، وتأجيل أو التنازل عن الالتزامات الضريبية، الأمر الذي يقلل من تكلفة الإنفاق على البحوث والتطوير والابتكار، مما يشجع الأبحاث التطبيقية قصيرة الأجل وتعزيز الابتكار، وأيضا تقوم بدعم مخرجات نشاط الابتكار من خلال توجيه الموارد إلى الشركات من أجل تحفيز جهود الابتكار أو مكافأتها من خلال شراء (أو الوعد بشراء) سلع أو خدمات تتطلب أو تنتج عنها ابتكارات تجارية.

ومنذ الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2009 كانت هناك زيادة في الاهتمام من جانب الحكومات بتشجيع نشاط ريادة الأعمال إلى حد كبير من خلال توفير التمويل، وتقديم الحوافز المالية لرواد الأعمال ومموليهم، ولكن نجد أن العديد من هذه المبادرات العامة انتهت بخيبة أمل أو أدت في الواقع إلى نتائج عكسية. 

مثل مبادرة الطاقة النظيفة التابعة لوزارة الطاقة الأمريكية (DOE)، عندما تلقت تمويلًا في عام 2009 كجزء من قانون التعافي وإعادة الاستثمار الأمريكي، كان البرنامج يهدف إلى تقديم ضمانات قروض ومنح مباشرة لمشاريع طاقة محفوفة بالمخاطر ولكنها مجزية، ومن ثم قد لا تجذب الاستثمارات الخاصة. 

حيث تم إنفاق أكثر من 34 مليار دولار أمريكي في أقل من أربع سنوات (أي ما يقرب من 2 مليار دولار أمريكي أكثر من إجمالي استثمارات رأس المال الاستثماري الخاص في هذا المجال)،  ونظرا للخبرة القليلة لوزارة الطاقة في إدارة مثل هذه البرامج التمويلية وصعوبة تقييم العائد على هذه الاستثمارات الناشئة فكانت النتيجة أن منيت بخسائر فادحة، وحدوث حالات إفلاس محرجة لشركات ناشئة كانت مدعومة من هذه الأموال وكان ينظر إليها على أنها واعدة ومبتكرة مثل شركات Solyndra وA123 Systems وBeacon Power، وحتى لا يصبح هذا الاستثمار مقامرة فكان أولى أن يدعم التمويل القدرة على تصميم بدائل وفرص وأسواق جديدة والتصميم الجيد لتكنولوجيات تتوافق مع السوق بدلا من مضاعفة التجارب المحفوفة بالمخاطر.

كما أدى هذا الحجم الهائل للاستثمار العام إلى مزاحمة واستبدال معظم الإنفاق الخاص في هذا المجال، حيث انتظر أصحاب رؤوس الأموال على الهامش ليروا إلى أين ستذهب الأموال العامة. فبدلا من حدوث التحفيز المرجو كانت النتيجة انخفاض استثمارات رأس المال الاستثماري في مجال التكنولوجيا النظيفة من 14.9% في عام 2009 إلى 1.5% في الأشهر التسعة الأولى من عام 2019، وحدوث خسائر لاستثمارات رأس المال الاستثماري المستقلة خلال هذه الفترة بنسبة خسارة سنوية - 2.6٪ (قبل احتساب الرسوم)، والتي يمكن أن تسبب في تهديد الاستثمارات المستقبلية في هذا المجال.

وللحديث بقية…