عادل حمودة يكتب: حكايات مليارديرات فى مصر 6.. اعترافات ضمير ميت بالبنط العريض! (قصص واقعية)

مقالات الرأي

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة

يتمتع بكل شىء ونال كل ما تمنى وحقق كل ما حارب فى سبيله ترى ما الذى يجعله مكتئبا متألما وقد أصبح أقرب رؤساء التحرير إلى الرئيس ويمتلك قصورا شتوية وصيفية متعددة وتنتشر حساباته البنكية داخل وخارج البلاد

فى اللحظة التى تموت فيها ضمائرنا يولد الشعور بالذنب الذى يكبر ويتضخم مع السنوات ليصبح ورما سرطانيا قاتلا لا يقدر أمهر الجراحين على إزالته

 

كان الجو غائما يغطى سماء حبلى بالمطر وعلى جانبى «العبارة» تلاطمت أمواج هائجة عنيدة سعت إلى إغراقها دون مبرر ومن شدتها نفر السمك منها وراح يقفز فى الهواء غاضبا منتحرا.

لم يستطع أحمد ناجح إشعال سيجار «كوهيبا» الكوبى الذى لا يتركه من بين إصبعيه ويستمتع بخلط دخانه بحبات النبيذ الأحمر الذى يحتسيه معه أحيانا.

بدت جزيرة فوجيما من وراء الضباب مثل جبل أخضر شاحب فى لوحة رومانسية ناعمة تفوقت فيها الطبيعة على نفسها.

إنها أجمل بقعة فى اليابان بها معبد فى الماء لا تتوقف فيه الصلاة على أرواح ضحايا القنبلة النووية الأمريكية التى ألقيت على مدينة هيروشيما القريبة منها.

كان ناجح هناك قبل ساعات فى موقع جريمة النار النووية التى اختصرت زمن شواء اللحم البشرى إلى لحظات خاطفة وحولت نصف سكان المدينة إلى فحم هش ودست السرطان فى جينات وخلايا النصف الآخر.

زار ناجح «النصب التذكارى» الذى حفرت عليه أسماء الضحايا وتوقف عند «شعلة السلام» التى لن تنطفئ حتى يتطهر العالم من «الرجس النواوى» وسجل فى مفكرته الصغيرة عبارة كتبت هناك بكل اللغات:

«دعوا جميع الأرواح الموجودة هنا ترقد فى سكينة فلن نكرر هذا الجرم أبدا».

واشترى ناجح طائرا يسمونه «كرين» يصنعه الأطفال من أوراق ملونة مصمغة أشبه بطائر الفلامنكو رمز البقاء والخلود.

ما إن يدفن الفلامنكو تحت التراب حتى تدب فيه الحياة ويبعث من جديد ويعتقد اليابانيون أنهم لو صنعوه ولو من ورق فإن المريض يشفى والغائب يعود والحزين يبتسم.

تساءل ناجح بينه وبين نفسه:

ــ هل يعيد الفلامنكو الفرح إليه؟.

تصور مرافقه أن المشاهد المؤلمة فى المدينة المنكوبة سبب تعاسته فنصحه ألا يباتا الليلة فيها ويفرا على الفور منها وهز ناجح رأسه موافقا راسما على شفتيه ابتسامة ساخرة دون أن يفصح عن الأوجاع التى تجمعت فى القلب قطرة قطرة ويوما بعد يوم حتى صارت بعد عقود طوال محيطا من السواد لم يعد يطيقه.

«ترى لم أعجز عن عدم تحمل تلك المشاعر التى سيطرت على كيانى؟».

سأل نفسه واستمر يسألها وكأنه يعاتبها:

«لم يؤرقنى ضميرى الآن؟ لم استيقظ فجأة بعد طول سبات؟ هل أصبح فلامنكو آخر بعث بعد موات؟ هل أعيش أيام العمر الأخيرة التى يشف فيها الإنسان ويتذكر الذنوب التى ارتكبها فى حق كثير من البشر حتى يسامحوه قبل الرحيل؟».

بدت الجزيرة أجمل عندما وصل إليها.

فور أن نزل إلى الشاطئ حتى فوجئ بأعداد كبيرة من الغزال البرى تقترب منه وتتمسح فيه بينما اليابانيون من حوله يمشون بأيدهم على ظهورها ويتبارون فى إطعامها ولا يكفون عن التقاط الصور معها بل والتبرك بها.

حل المرافق اللغز: إننا نقدسها ونعتبرها عين «شنتو» معبودنا الأول.

الجزيرة صخرية ترتفع وتنخفض طرقها وتلف مثل حزام على جبل يطل على البحر فى مشهد مريح جعل ناجح يقرر البقاء أكثر من يوم فى الفندق الصغير الذى تتلاصق حجراته جنبا إلى جنب وكأنه عنبر واحد طويل وإن استقلت حجراته عن بعضها البعض بجدران تفصل بينها.

لم يستمتع بالعشاء التقليدى الذى يبدأ بالسوشى وينتهى بالطبق الأهم الذى يجن به اليابانيون: رؤوس السمك المطهوة بصوص الصويا حتى تصبح لينة تماما ولكنه اكتفى بزجاجة من الساكى الخمر المصنوع من الأرز حملها معه إلى خارج حجرته ليحتسيه وهو جالس على مقعد مريح يدخن سيجاره ويتأمل النجوم التى تتنافس فى إضاءة السماء قبل انتصاف الليل.

لم يتبين وجود امرأة عجوز تجلس على مقعد خارج الحجرة المجاورة إلا عندما سمعها تتحدث إليه لكنه اعتذر عن فهمها لجهله باللغة اليابانية، فإذا بلسانها ينقلب إلى الإنجليزية قائلة:

ــ أنت تنظر إلى النجوم وتسرح فيها كأنها شاعر لكننا نعتبرها آلهة ولو شئت التحدث إليها فإنها ستسمعك.

ــ هل تعرف النجوم لغات أخرى غير اليابانية؟.

أحست المرأة بسخرية فى سؤاله فأجابت ساخرة:

ــ لو شئت أتولى الترجمة بينكما.

شىء ما خفف من الثقل الجاسم على صدره بهموم لا يعرف كيف يتخلص منها؟ والمثير للحيرة أنه لا يعرف سببها؟ ولا يعرف لم تتحكم فيه؟.

يتمتع بكل شىء ونال كل ما تمنى وحقق كل ما حارب فى سبيله ترى ما الذى يجعله مكتئبا متألما وقد أصبح أقرب رؤساء التحرير إلى الرئيس ويمتلك قصورا شتوية وصيفية متعددة وتنتشر حساباته البنكية داخل وخارج البلاد وكل سنة يضيف إلى «عزبته» أفدنة جديدة يجبر جيرانه على بيعها إليه وزوجته وصلت إلى منصب حكومى مرموق، وأبناؤه يمتلكون شركات وتوكيلات وعقارات رفعت ثروة العائلة إلى سماء المليارديرات وشقته الخاصة (الجرسونيرة) تعرفت على أجساد نجمات سينما وخادمات وصحفيات لا يتذكر عددهن.

لم يترك محررة شابة أعجبته فى حالها وبما يملك من مغريات كان ينالها بسهولة.

كن يسقطن فى بحر جسده بقرار تعيين فى الصحيفة أو بترقية استثنائية أو بمكافأة لا مبرر لها أو بالسفر معه إلى الخارج ولو كان سيغطى لقاءات الرئيس بحكام العالم.

وحدث أن هددته واحدة منهن بالفضيحة إذا لم يتزوجها لكنه عالج المشكلة بإقناع محرر شاب بالزواج منها مقابل تعيينه سكرتيرا للتحرير وضاعف راتبه ومنحه سيارة.

لم تسقط تلك الجرائم على رأسه الآن وكأنها صخور قاتلة؟.

لم يشعر بأن هناك سحابة سوداء فى طريقها إليه تخفى وراءها طيورا جارحة ستنقره حتى الموت؟.

ألم يتكرر هذا المشهد كثيرا فى أحلامه مؤخرا؟.

لا بد من كارثة ستلحق به عندما يعود إلى القاهرة.

هل سيستغنى عنه الرئيس بعد أن ينتهى من تجهيز ابنه لوراثة العرش؟ أبدا لقد وعده الرئيس بأن يظل فى مكانه حتى يموت أحدهما ثم ولم لا يتقاعد وقد تجاوز السبعين وبطبيعته يفضل الحصول على الخبر ولا يطيق الكتابة ولكنه مجبر على المقالات التى تمدح وتشيد وكثيرا ما وضع اسمه على بعضها، كتبها محررون صغار مجهولون حشر المال فى حناجرهم فلم يتكلموا ولكن أحدهم ارتكبه الغرور وراح يثرثر علنا كاشفا أنه كاتبه الشبح فلم يتردد فى تلفيق تهمة له أخرسته.

ورغم شهرته التى نالها من وجوده على رأس صحيفة كبرى فإنه يخاف الظهور على شاشات الفضائيات بل ولا يميل للحديث فى قضية سياسية أو غيرها والسبب أنه لا يقرأ ولكنه يتمقص شخصية العارف الصامت جعل الناس تتصور أنه مثقف يعرف كل شىء.

ولو كان سقراط يطالب الرجل أن يتكلم حتى يراه فإن ناجح فضل إخفاء نفسه بالصمت.

لكن الصمت المتراكم منذ سنوات لم يخف حقيقته عن نفسه حتى لو سترها عن البشر الذين عرفوه وأحبوه أو لعنوه.

سألت العجوز اليابانية:

ــ تبدو مهموما مخنوقا وكأن شيطانا يمسك بروحك ويقبض عليها حتى يزهقها.

وجد نفسه مستريحا للعجوز راغبا فى أن يخفف عن قلبه بعضا مما يحمله بالحديث معها، خاصة أنها لا تعرف من يكون؟ حديث أغراب أكمله قائلا:

ــ فجأة شعرت بهذه الحالة وكأن فيروسًا مجهولًا أصابنى.

ــ فى السفر البعيد تخرج الذاكرة التى نكتمها من القمقم متحررة من السجن الذى وضعناها فيه.

ــ أشعر أننى لم أعش حياتى وإنما عشت حياة أشخاص غيرى.

ــ أردت أن تهرب من واقعك بتخيل واقع آخر تتمناه ونجحت فى إقناع الناس به لكن نفسك تعرف الحقيقة وتضغطت عليك لتتذكرها أو لا تنكرها.

ــ لم يحدث ذلك من قبل فى سفرياتى البعيدة إلى أمريكا والصين وأستراليا ونيوزيلندا وأوروبا وإفريقيا.

ــ لا بد أن اليابان لها مما فعلت نصيب.

سكت.. جدد إشعال السيجار.. تجرع كأس الساكى مرة واحدة.. نظر إلى النجوم.. شعر أنها ستهبط من السماء وتحرقه.. سألها:

ــ فى السماء ثمانية آلاف نجمة هل يمكن تخيل هذا العدد الهائل من الآلهة؟.

ــ أنت تهرب من الحديث رغم أنك لست مجبرا على مواصلته لكن الكلام يفك قيود اللسان واللسان يحرر الإنسان من النسيان والنسيان يتراكم فى النفس حتى يفقدها التبيان.

ــ عندك حق أنا قتلت امرأة شابة فى كيوتو.

لم تهتز المرأة مما سمعت وسألت:

ــ أليست هذه هى المرة الأولى لك فى اليابان؟.

ــ سبق أن عشت فى طوكيو سنة كاملة مراسلا لصحيفتى ولم أكن تجاوزت الثلاثين.

ــ أكمل أنا مصغية إليك.

ــ طلبت مساعدة محلية للترجمة ومرافقتى فى لقاءات الشخصيات المهمة وما إن رأيت آكينا من بين المتقدمات حتى اخترتها كانت بالكاد فى العشرين من عمرها وطالبة فى الجامعة تدرس اللغات الشرقية ومنها اللغة العربية».

فتاة من فتيات الأساطير فى رقة «سندريلا» وطيبة «ذات الرداء الأحمر «وأحاسيس» بل التى أعادت الأمير إلى حالته البشرية بعد أن ألقت عليه ساحرة شريرة لعنتها فأصبح وحشا.

صدقت آكينا كلمات ناجح المعسولة ووقعت فى هواه واندفعت بقوة الحب الأول لتلبى رغباته حتى انتقلت لتعيش معه رغم ما سببت لعائلتها من عار.

قاطعته العجوز:

ــ أنت تتحدث عن «شايو ساكاموتو».

ــ لم أسمع عنها من قبل.

ــ إنها فتاة الجيشا التى أحبت أمريكيا إلى حد الجنون لكنه بعد أن هضم جسدها عاد إلى بلاده فانتحرت لتنقذ عائلتها من العار أرجو ألا يكون آكينا لاقت المصير نفسه.

صمت ناجح ثوانى ثم قال:

ــ نعم قتلت آكينا نفسها لكنى لم أشعر بالذنب إلا عندما جئت إلى اليابان هذه المرة على أن ما ضاعف من شعورى بالذنب أننى عندما دعتنى إلى بيت عائلتها الثرية فى كيوتو سرقت حليا من الماس نسيتها أمها فى الحمام، كما أننى استغليت رغبتها الشرهة فى دفعها إلى سرقة المال من أبيها وأجبرتها على الإجهاض أكثر من مرة.

ــ هل فكرت فى زيارة قبرها؟.

ــ فكرت عندما جئت إلى طوكيو هذه المرة فقط لكنى خفت من مواجهتها.

ــ فى اللحظة التى تموت فيها ضمائرنا يولد الشعور بالذنب الذى يكبر ويتضخم مع السنوات ليصبح ورما سرطانيا قاتلا لا يقدر أمهر الجراحين على إزالته.

ــ إننى أكشف لك ما أخفيت من أسرار لعل ذلك يخفف شعورى بالذنب.

ــ أنت وجدت فى امرأة عجوز غريبة ومجهولة لن تحاسبك على ما فعلت تحكى لها ما ارتكبت ربما تشفى مما أنت فيه كأنى طبيب نفسى مجانى لكن صدقنى لن يكفيك الكلام للتطهر مما فعلت وإنما عليك طلب المغفرة من كل من أسأت إليهم وجها لوجه.

ــ لست شجاعا إلى هذا الحد.

ــ ربما تحظى بالشجاعة لو وصل شعورك بالذنب إلى حد عدم الاحتمال ساعتها ستجبر على تجرع الدواء المر وتذهب إلى الضحايا تسترضيهم وتركع تحت أقدامهم.

ــ إن ذلك مستحيل مهما قبلت به؟.

ــ لم؟.

ــ عندما كنت صبيا فى العاشرة سرقت النقود من أمى فاضطرت أمى لرهن آخر سوار ذهب فى معصمها كانت تدخره للأيام الصعبة كى نأكل أنا وأخوتى السبعة.

كنا نسكن الحى العربى فى مدينة الإسماعيلية التى تدار منها قناة السويس والحى العربى هو الحى الفقير الذى يعيش فيه المصريون الذين حفروا القناة بينما الأجانب الذين يجنون خيراتها يسكنون فى الحى الغربى المصمم على الطراز الفرنسى.

كان محرم علينا الاقتراب من ذلك الحى الراقى لكننا كنا نتسلل إليه لنرى فتيات يقدن دراجات وهن بملابس قصيرة وفى الليل كنا نقترب أكثر من الڤيللات لنستمع إلى الموسيقى الراقصة التى تنبعث منها ولم نتب عن ذلك رغم القبض علينا أكثر من مرة وحجزنا فى قسم الشرطة.

فيما بعد لم يتغير المشهد كثيرا عقب تأميم القناة فالكبار الذين حكموا البلد احتلوا مساكن الأجانب الذين غادروها ووجدنا أنفسنا نطلق عليهم: «الخواجات الجدد» وسبق أن سمعنا بعد رحيل فاروق: «ذهب ملك وجاء ١٣ ملكا» وهم أعضاء مجلس قيادة الثورة.

لكن ذلك لا ينفى أننا استفدنا منهم كثيرا فلولا التعليم الذى أصبح مجانا ما دخلت المدرسة وما تخرجت فى الجامعة.

على أن التعليم المجانى لم يوفر الطعام والملبس وأجرة المسكن لنا بعد أن توفى الأب الذى كان نجارا باليومية فى ورشة أثاث.

أصبح على كل منا أن يساهم فى تكاليف المعيشة مهما كان عمره ولم تكن أمى تسأل عن مصدر المال الذى نأتى به حتى لا تجبر على تصديق أكاذيبنا بأذنيها وكانت تكتفى بعد كل صلاة بالدعاء إلى الله أن يغفر لنا خطايانا.

فى المدرسة الابتدائية اخترت التلاميذ الأكثر ثراء منا وتقربت إليهم لتناول وجبة ساخنة فى بيوتهم وكثيرا ما خدعتهم وكسبت من ورائهم ما أريد.

وما إن تجاوزت أجسامنا عتبة المراهقة حتى رحت أدبر لهم العاهرات والمخدرات والخمر وبعد أن أنال نصيبى من المتعة أعود إلى البيت وفى جيبى مال حصلت عليه من عرق النساء ودخان الحشيش دون أدنى شعور بالحرام.

وذات ليلة طلبت من القواد الذى يقف على باب كباريه فى شارع «السلطان حسين» أن يرسل فتاة إلى عنوان شاليه أحد أصدقائى فى المدرسة الثانوية ومنحته ما طلب وما أن لحقت بها حتى وجدتها عارية وسط ثلاثة من المراهقين المهووسين وكان يكفى النظر إليها لأعرف أنها شقيقتى الكبرى التى لم تفلح فى تعليم ولم تستقر فى زواج ولم تجد عملا ومن حسن الحظ أنها لم تلمحنى فهربت من المكان لكننى لم أعاتبها بل تناولت الطعام الشهى الذى عادت به إلى البيت.

ــ كل هذه الجرائم ارتكبتها وأنت صغير يا إلهى؟

ــ أسوأ ما أبتليت به أننى لم أكن أشعر وقتها بالذنب الذى تراكمت فواتيره الآن وعلىَّ دفعها مرة واحدة.

ــ أنت فى حاجة إلى كل الآلهة لمساعدتك.

ــ تركت الإسماعيلية إلى القاهرة لالتحق بالجامعة وكان النجاح بنسبة خمسين فى المائة يكفى لدخول كلية الحقوق فاتجهت إليها ورغم فرصة إقامتى فى مساكن الطلبة إلا أننى فضلت السكن مستقلا معتمدا على النقود التى ترسلها إلىّ شقيقتى كل شهر وعلى ما أحصل عليه من زملائى بطريقة أو بأخرى وهنا تقمصت شخصية أخرى غير شخصيتى.

ادعيت أن أبى مرشد فى هيئة القناة ونسجت قصصا عن دوره فى تسيير الملاحة بعد انسحاب المرشدين الأجانب على أثر تأميمها وأضفت أنه استشهد فى حرب السويس ولم أنس أن أذكر أن أمى تنتمى إلى عائلة طلعت حرب باشا مؤسس بنك مصر ولكنها تزوجت رغم إرادته فلم يساعدها فى تربيتنا.

تقمصت الدور وصدقت نفسى وتصرفت كما لو ابن «أكابر» فعلا.

ــ هل صدقوك؟.

ــ هناك من صدق وهناك من كذب ولكن موهبتى فى الكذب أقنعتهم فى النهاية.

ــ هل كانوا بهذه السذاجة؟.

ــ من جانبى حبكت الكذب بدعوة زملائى وأساتذتى فى الكلية إلى قضاء يوم إجازة فى الإسماعيلية واستأجرت فيللا أعدتها إلى السمسار بعد أن عادوا إلى القاهرة.

عشت حياة تمنيتها ونجحت فى أن يصدقها كل من لم يعرف تاريخى فى الإسماعيلية خاصة سوسن الشيخ أجمل فتيات الدفعة.

أمها سورية من حلب وقعت فى غرام أبيها من أول نظرة عندما التقيا وجها لوجه صدفة أمام برج إيڤل وما إن عاد حسن الشيخ تاجر القماش الشهير فى الأزهر إلى القاهرة حتى أقنع والده بالسفر إلى دمشق لطلب يدها وبعد ثلاثة أيام كانت العروس فى فيللا العائلة على جبل المقطم وبعد طول صبر جاءت سوسن لتبقى الابنة الوحيدة التى لا يرد لها طلب.

عشنا معا قصة حب ناعمة إلى أن حانت الفرصة لحديث خاص بين جسدينا.

لم أكن أعرف أن أباها فى متجره وأمها فى سوريا حين ذهبت إليها فى بيتها طالبا كتاب القانون الجنائى ووجدتها وحدها بثوب قصير لم أتمالك نفسى وأنا أخلعه عنها وتولت هى التخلص مما تحته وكان ما كان.

تكرر ذلك كثيرا وذات مرة بينما هى فى الحمام دخلت غرفة نوم أمها وعبثت بما فيها من أثاث حتى وجدت أمامى أوراقا مالية من فئات العشرة والخمسة جنيهات وكانت لها قيمة عالية وقتها ومددت يدى وسحبت بعضا منها وتكرر ذلك كثيرا فيما بعد لكنهم لم يتصوروا أن ابن مرشد فى القناة هو السارق.

قبل شهور من التخرج وجدت زميلى فى الدفعة حسنين السداروى يعرض علىَّ بجرأة مثل الصدمة الانضمام إلى تنظيم الإخوان تعجبت وسألت:

ــ أليس الإخوان فى السجون بعد أن حاولوا اغتيال عبدالناصر فى الإسكندرية؟.

ــ نعم ولكن نحن نعيد إحياء التنظيم من جديد تحت قيادة سيد قطب وهو شخصية مؤثرة نشر كتابا كفر فيه الحكام ووصف زماننا بالجاهلية وأعلن الجهاد ضدهم.

ــ لم اخترتنى أنا بالذات؟.

ــ أنت من الإسماعيلية التى بدأ فيها مؤسس الدعوة الإمام حسن البنا مشواره وأنا أعرفك جيدا وأعرف الكثير عنك ولا ألومك وإنما ألوم الظروف الصعبة التى عشتها ولكننى أعطيك فرصة للتوبة والرجوع إلى الحق ليغفر لك الله ذنوبك.

ــ لن يشك فيك أحد وأنت تنفذ المهام التى ستطلب منك ولكنك لو قبلت الانضمام إلينا ستقسم على السمع والطاعة وربما قتلناك لو خنتنا وفى الوقت نفسه سنتكفل بكل نفقات معيشتك.

فى الليل وجدت ضابطا من المباحث العامة المسئولة عن أمن البلد فى ذلك الوقت يأتى إلى بيتى متسائلا عمَّا جرى بينى وبين السدراوى وما إن انتهيت من رواية ما طلب حتى ربت على ظهرى قائلا:

ــ أراك ترتعش اهدأ لا تخف أنت شاب وطنى شريف ستخدم بلادك وتنقذها من مؤامرة القضاء عليها.

ــ كيف؟.

ــ ستنضم إلى التنظيم وتقسم على السمع والطاعة ولكن لنا ولا تحمل للمذاكرة هما فسوف تحصل على الليسانس بتقدير يسمح لك أن تكون معيدا لو شئت.

ولكن فى هجمات الأمن على خلايا التنظيم قبض علىَّ ودخلت المعتقل وتركت شهورا وحيدا صامتا مما جعلهم يضاعفون الثقة فى وراحوا فى أحاديثهم يكشفون الكثير من الأسرار ما لم أكن أعرفها حتى جاء وقت التحقيقات التى كانت تجرى مع كل شخص على حدة.

هنا وجدت من يضع أمامى السجائر والقهوة والطعام الشهى حتى أشعر بالمتعة وأنا أكشف ما عندى بصفتى مصدرا سريا دون ذكر اسمى كما جاء فى قرار الاتهام الذى شملنى حتى المحاكمة وإن خرجت من القضية براءة.

على باب المحكمة وجدت صحفيًا يطلب منى رواية ما حدث ولكن قبل أن أتكلم جاء آخر ليحرمه من عمله وطلب أن أكتب شهادتى لتنشر باسمى وصورتى بل سأتقاضى عنها مكافأة وعندما اعتذرت لعدم قدرتى على الكتابة الصحفية أصر على موقفه مؤكدا أن الأهم المعلومات أما الصياغة فسوف يقوم بها قسم متخصص فى الجريدة.

فى اليوم التالى فوجئت بصورتى فى الصفحة الأولى وتحت عناوين تتحدث عن السبق الصحفى الذى حصلت عليه الصحيفة بنشر مذكرات المتهم البرىء فى القضية وفى المساء قرأت الإذاعة ما كتبت وفى اليوم التالى علقت مقالات الرأى عليه فى صحف أخرى.

فى ساعات أصبحت شهيرا ودعانى رئيس التحرير لمقابلته بل وعرض أن أعمل معه قائلا:

ــ أنت بقدرتك على التقاط التفاصيل الصغيرة تمتلك موهبة صحفية مميزة ولو كنت لا تعرف كيف تصيغها فلا تحمل هما نحن سنضع كل ما تلزم من ماكياج قبل النشر.

هكذا أصبحت صحفيا.

نجحت فى كشف تفاصيل طلاق فاتن حمامة وهى نجمة شهيرة من زوجها الأول عز الدين ذو الفقار وعشت مع عمال السد العالى وهم يشيدونه وغطيت كثيرا من كوراث السيول وتطوعت لتغطية حرب يونيو حين وقعت أسوأ هزيمة عرفتها مصر ولكن لم ينشر حرف مما كتبت وهنا بحثت عن عمل خارج البلاد وسافرت إلى بيروت وعملت بالقطعة (فريلانسر) وتعرفت على نجمات الطرب والتمثيل وأصبحن ضيفات دائمات فى بيتى على أطراف الضاحية الجنوبية لبيروت.

ذات ليلة كنت فى كازينو لبنان ألعب بدولارات قليلة وأتناول عشاء شهيا مجانيا حين وجدت إلى جوارى على مائدة الروليت رجلا فى الأربعين لا يكف عن المكسب وعندما قمت من جانبه شدنى من يدى وهو يقول:

ــ أجلس يا أخى أنت فاسوخة حظى الليلى لو قمت سأخسر.

عدت فى سيارته إلى بيتى وعرضت عليه كأسا من الويسكى فلم يرفض لكن الكأس أصبح زجاجة ولعب الخمر برأسه حتى سقط من طوله ونام على الأرض.

فى الصباح اكتشفت ونحن نتناول القهوة أنه يدير صندوقا استثماريا سياديا لدولة نفطية ووجدته يعرض علىَّ العمل معه مستشارا قانونيا.

لم يكن الراتب مغريا فقط وإنما كنت أسافر معه إلى مختلف دول العالم بحثا عن أفضل فرص الاستثمار.

رأيت الدنيا معه وعرفت كثيرا من الأسرار منه ودون تردد اتصلت بالجريدة وعرضت الكتابة باسم مستعار حتى لا أفقد منصبى على أن لا تكشف صياغة الأخبار عنى ونفذوا ذلك بدقة.

انتهى عقدى وعدت إلى القاهرة لأبدأ مرحلة جديدة من عملى الصحفى.

تدخلت العجوز مقاطعة:

ــ انتظر لا تقفز فوق الأحداث.

ــ أبدأ.

ــ ما الذى حدث مع حبيبتك؟.

ــ حدث شىء غريب جدا ما إن تخرجت فى الجامعة حتى فقدت مشاعرى نحوها سألت طبيبا نفسانيا متمكنا فأجاب أنها ظاهرة إنسانية طبيعية أن نحب شخصا فى سنوات الدراسة وعندما ننتهى منها تتبخر المشاعر وكثيرا ما نحب شخصا ما فى السفر فإذا ما عدنا إلى مكاننا تجف العواطف.

ــ لكن هل استسلمت هى لفراقك بعدما فعلت بها؟.

ــ فى البداية حاول أهلها جاهدين إبعادها عنى وعندما أصرت استسلموا لإرادتها وعندما ابتعدت عنها وجدت أباها يرجونى بالعودة إليها مبديا استعداده لتحمل كل ما يترتب على الزواج من تجهيزات ونفقات لكننى كنت مشغولا بإثبات وجودى فى الصحافة التى أخذت كل وقتى وتفكيرى واهتمامى إنها مهنة لا تعترف بوجود امرأة أخرى علينا ألا نحب سواها وإلا استسلمت لغيرنا.

ــ هل رأيت البنت فيما بعد؟.

ــ لم تكف عن إرسال الخطابات التى بدأتها بالتعبير عن حبها ثم انتقلت إلى العتاب ثم راحت تلعننى.

ــ لم ترد على خطاباتها؟.

ــ كان عبد الناصر قد مات وجاء السادات وفى تغير النظم يختفى جيل من رؤساء التحرير ويولد جيل آخر بعده وحدث أن ساهمت فى منح مصر قرضا طلبه السادات من الصندوق الاستثمارى الذى كنت مستشاره القانونى فيما قبل وحققت له ما أراد بفضل علاقاتى القديمة بالصندوق وعرف السادات بما فعلت واستدعانى ليشكرنى بل أكثر من ذلك خصنى بمقابلة صحفية دعمت من مكانتى المهنية إلى حد اختيارى رئيسا لتحرير جريدة سيارة.

وعندما اغتيل السادات لم يكن من الصعب الوصول إلى خليفته فقد سافرت مع مبارك وهو نائب الرئيس أكثر من مرة ودعوته إلى عشاء فى أهم مطاعم باريس وساعدته فى شراء ما يريد لولديه علاء وجمال من المتاجر المناسبة لميزانيته.

صعدت عشر درجات فى وجود مبارك رئيسا وضمنت الاستمرار بتقليد إبراهيم نافع فى إرسال هدايا ثمينة إلى الشخصيات الرئاسية والسياسية والوزارية والصحفية المؤثرة على حساب الجريدة.

ــ هل لكم الحق فى تبديد المال العام بهذه السهولة؟.

ــ اعتبرنا الهدايا نوعا من تكريم المصادر التى نحصل منها على الأخبار نخصها بها مرة فى العام.

ــ بتلك البساطة؟.

ــ الحقيقة أننا كنا نحصل على ملايين الجنيهات من عمولات الإعلانات وأردنا أن نمنح أصحاب القرار بعضا منها حتى يصبحوا شركاء فى فسادنا.

ــ ألم يغضب صحفيو الجريدة من تصرفاتك؟.

ــ لم يجرؤ أحد على ذلك وإلا تجمد فى مكانه متمنيا الموت لكن الفضيحة بدأت فى جريدة خاصة نشرت بالمستندات الملايين التى أتقاضاها والملايين التى ندفعها فى الهدايا والملايين التى أحصل عليها من عمولات أخرى حتى أصبحت سيرتى على كل لسان، ورغم أن مبارك لم يخرجنى من جنته إلا أن الجريدة امتلأت بالمنشورات المعادية ضدى وبدأ مقعد رئيس التحرير يهتز من تحتى وكان علىَّ التصرف بسرعة.

كانت تلك الصحيفة تعيش على فضح فساد رجال الأعمال الذين جمعوا بين الثروة والسلطة وكان يحررها شباب متحمس لإثبات ذاته ويرأس تحريرها واحد منهم وكان من السهل جمع الملايين من المضارين للتشهير به وتدبير قضايا جنائية وأخلاقية ضده وفى الوقت نفسه عرضنا على مالك الصحيفة شراءها حتى نخرسها ووجد فى الملايين المعروضة عليه ما جعله يستسلم.

على أن أسوأ ما فعلت هو أننى وظفت قاتلا محترفا جاء من الخارج للتخلص منه ولكنه لم ينجح إلا فى إصابته فى كتفه وذراعه وهرب ليلا من مطار القاهرة وسجل الحادث على أنه جريمة إرهابية.

فجأة توقف ناجح عن الكلام ونظر حوله لكنه لم يجد المرأة التى كانت تتحدث معه.

فى صباح اليوم التالى سأل عن ساكنة الغرفة المجاورة لكن جاءت الإجابة غير متوقعة:

ــ عفوا يا سيدى كنت أنت النزيل الوحيد لدينا هذه الليلة.