الدكتور محمود جلال يكتب: تمويل الابتكار وريادة الأعمال في مؤشر الابتكار العالمي (3)

مقالات الرأي

الدكتور محمود جلال
الدكتور محمود جلال

تتعدد مصادر تمويل الابتكار عالميًا والتي ساهمت خلال العقود الماضية في تضاعف قيم تمويل الابتكار، فمنها ما هو يعتبر من آليات تمويل الابتكار التقليدية من دعم حكومي للابتكار (كما استعرضنا في الجزء الثاني) واستثمارات ابتكارية خاصة بالشركات (كما سنستعرض في هذا الجزء)، بالإضافة للعديد من الآليات الأخرى التي سنستعرضها في الأجزاء القادمة، هذا وتختلف آليات التمويل المتاحة طبقًا ومراحل دورة حياة الشركات كما استعرضنا في الجزء الأول.

الجزء الثالث: الاستثمارات الابتكارية الخاصة بالشركات كآلية من آليات تمويل الابتكار التقليدية:

 

2. الاستثمارات الابتكارية الخاصة بالشركات: 

 

في الدول المتقدمة نجد أن الابتكار أمرًا محوريًا لاستراتيجية الشركات بل واستراتيجيات النمو الاقتصادي الوطني ككل، حيث تعتبر الشركات من الجهات الفاعلة الرئيسية في أنظمة البحوث والابتكار، واختيار الأفكار الجديدة وتطويرها وتنفيذها سعيًا وراء الفرص الاقتصادية، فالشركات الكبرى بها والجهات المنفقة على البحوث والتطوير تعتمد اعتمادا أساسيًا على البحوث والتطوير والملكية الفكرية والابتكار في سعيها لتأمين القدرة المستقبلية في بيئة تنافسية دوليًا.

ولكن يتركز الإنفاق على البحوث والتطوير بشكل كبير في بضع آلاف من الشركات في جميع أنحاء العالم، فنجد أن أكبر 2500 شركة إنفاقًا على البحوث والتطوير بقيمة إنفاق وصلت إلى 823 مليار يورو في عام 2018 (بزيادة قدرها 8.9% عن العام السابق له) تمثل نسبة 90% من الأعمال التجارية الناتجة من البحوث والتطوير، بينما نجد أن أكبر 100 شركة إنفاقًا على البحوث والتطوير تمثل أكثر من 50٪ من جميع نفقات البحوث والتطوير العالمية للشركات، 

الأمر الذي كان له الأثر البالغ في نمو نشاط إيداع الملكية الفكرية بوتيرة سريعة عالميًا، مسجلًا أرقامًا قياسية جديدة في أعوام 2018 و2019، حيث نمت إيداعات براءات الاختراع في جميع أنحاء العالم بنسبة 5.2٪ في 2018، وشهدت العلامات التجارية والرسوم والنماذج الصناعية وغيرها من أشكال الملكية الفكرية نموًا قويًا، وبلغت إيداعات طلبات براءات الاختراع الدولية ذروتها في عام 2019، والتي يؤول معظمها إلى الشركات.

فنجد أن الشركات تتصدر المراكز الأولى في تسجيل طلبات براءات الاختراع الدولية، كما في عام 2019 في الصين عندما احتلت هواوي المركز الأول للعام الثالث على التوالي بعدد 4،411 طلب، تليها شركة أوبو بعدد 1،927 طلب، وفي كوريا احتلت شركة سامسونج المركز الأول بعدد 2،334 طلب، تليها شركة إل جي بعدد 1،646، ثم في اليابان شركة ميتسوبيشي إلكتريك بعدد 2،661 طلب، وفي الولايات المتحدة شركة كوالكم بعدد 2،127 طلب، وفي السويد شركة إريكسون بعدد 1،698 طلب، وفي ألمانيا شركة بوش بعدد 1،687 طلب.   

وهذا النمو الكبير في إنفاق الشركات على الابتكار بهذه الدول، أدى لإلغاء حكوماتها تدريجيًا إجراءات تحفيز الابتكار التي قامت بتطبيقها منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2009، والإبقاء على تمويل إنشاء تكنولوجيات المستقبل بالغة الأهمية للتقدم في العقود القادمة، في حين أن البحوث والتطوير في الشركات أقرب إلى تطوير المنتجات، وتتراوح نسبة إنفاق الشركات على البحوث والتطوير من إجمالي إنفاق الكثير من البلدان الأكثر تقدمًا على مستوى العالم مثل الولايات المتحدة، واليابان، وكوريا الجنوبية والصين، إلي نسب تتراوح ما بين 70 إلى 78%، وتنخفض هذه النسبة تدريجيا في بلدان مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا لتصل إلى 41% في كندا.

فنجد اليوم أن مستويات الإنفاق على البحوث والتطوير لبعض الشركات (مثل شركة أمازون الامريكية) تتفوق على النفقات الحكومية في مجال البحوث والتطوير لعدد من الدول (مثل سويسرا التي تحتل المرتبة الأولى عالميًا في مؤشر الابتكار العالمي).

ويعتبر أكثر القطاعات إنفاقًا من الشركات على البحوث والتطوير عالميًا هو قطاع أجهزة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمعدات الإلكترونية بنسبة 23.5%، تليها قطاع المستحضرات الصيدلانية والتكنولوجيا الحيوية بنسبة 18.8%، ثم قطاع السيارات بنسبة 15.6%، ثم قطاع البرمجيات وخدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بنسبة 15.6%، ثم يأتي في المركز الخامس قطاع الهندسة الصناعية والنقل بنسبة 14.4%.

ومن بين أكبر المنفقين على البحوث والتطوير في شركات البرمجيات وخدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (رابع أكبر منفق على البحوث والتطوير)، كل من ألفا بت، ومايكروسوفت، وفيسبوك، وأوراكل الأمريكية، وعلى بابا، وتينسنت، وبايدو الصينية، وSoftbank اليابانية، وUbisoft الفرنسية، والتي ازدهرت أعمالها بسبب الطلب المتزايد على الخدمات الرقمية خلال جائحة كورونا من زيادة نشاط الإنترنت، والخدمات السحابية، والألعاب عبر الإنترنت، والعمل عن بُعد.

وأيضا ازدهرت أعمال قطاع الأدوية والتكنولوجيا الحيوية (ثاني أكبر منفق على البحوث والتطوير) خلال جائحة كورونا مثل شركة روش (Roche) السويسرية ليشهد هذا القطاع نموًا قويًا في الإيرادات والبحوث والتطوير، حيث تم ضخ مبالغ كبيرة وغير مسبوقة من المال لإنتاج لقاحات وعلاجات لفيروس كورونا، الأمر الذي يعزز البحوث والتطوير في مجال الصحة. 

بينما نجد أن قطاع السيارات (ثالث أكبر منفق على البحوث والتطوير) قد تضرر بشدة من جائحة كورونا بانخفاض حاد في الإيرادات، ومع ذلك ازداد إنفاق هذه الشركات على البحوث والتطوير مثل شركة فولكس فاجن لإنتاج مركبات أنظف بيئيًا وأكثر أمانًا.

وخلال هذه الأزمة التي أثرت على الشركات خاصة الناشئة منها والتي لا تملك احتياطيات نقدية ضخمة مثل الشركات الكبرى لتساعدها في عبور هذه المرحلة العصيبة، فقامت الحكومات بدورها التاريخي بإطلاق حزم لتحفيز البحوث والتطوير ودعم الابتكار والشركات المبتكرة بشكل فعال والتغلب على النقص في تمويل الابتكار لمواجهة هذه الأزمة، مثلما قامت بنفس هذا الدور خلال الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2009، فقامت بعض البلدان (معظمها أوروبية) بإنشاء صناديق خاصة لدعم الشركات الناشئة.

حيث قامت الحكومة الفرنسية بتخصيص 80 مليون يورو، بالتعاون مع القطاع الخاص بقيمة مماثلة للاستثمار في الشركات الناشئة وسد فجوة تمويل الابتكار، وقدمت إعفاءات ضريبية مخصصة للبحوث والتطوير بقيمة 1.5 مليار يورو، وقدمت 250 مليون يورو لتسريع النمو ودعم الابتكار، ودعم إضافي بقيمة 1.3 مليار يورو للشركات المبتكرة، كما قامت بزيادة ميزانيتها للبحوث والتطوير بنسبة 25% بما يمثل 5 مليارات يورو. 

كما قامت المملكة المتحدة بزيادة المخصصات للشركات الناشئة المتطورة بقيمة 40 مليون جنيه استرليني، لتسريع تطوير الابتكارات الناشئة عن أزمة جائحة كورونا، مثل منصات تدريب الواقع الافتراضي للجراحين وأسواق المزارعين الافتراضية، إلخ.

وقامت الحكومة السويسرية بإنشاء صندوقٍ بقيمة 154 مليون فرنك سويسري لتقديم قروضٍ بنكية لمساعدة الشركات الناشئة التي تواجه مشاكل التدفق النقدي الناتجة عن أزمة جائحة كورونا، بواقع مليون فرنك سويسري كحد أقصى للشركة الواحدة. 

وللحديث بقية..