منال لاشين تكتب: أنقذوا مصنع "الدلتا للحديد"

مقالات الرأي

منال لاشين
منال لاشين

آخر مصانع القطاع العام مهدد بالتوقف لتراجع الصناعة عن منحه ترخيصا جديدا بالعمل

 

أعترف بأننى لا أعرف سر عقدة كبار رجال الأعمال فى مصر من امتلاك الدولة لمصانع الحديد. بالطبع هناك هو

س بالاستيلاء على كل المصانع والشركات المملوكة للدولة أو بالأحرى للشعب، ولكن هذا الهوس يزداد ويتضخم إذا ما تعلق الأمر بصناعة الحديد تليها صناعة الأسمنت.

لم يرتح كبار رجال الأعمال إلا عندما اشتروا بطرق مثيرة للدهشة معظم شركات الأسمنت العامة، أما الحديد فقد مارسوا ضغوطهم من خلال لوبى حكومى وسياسى وإعلامى لتصفية شركتين من الشركات الأربع للحديد المملوكة للدولة، ثم تم إيقاف إنتاج الحديد من شركة النحاس، ولم يتبق للدولة سوى شركة الدلتا للحديد والصلب. تاريخيا شركة الدلتا هى الأقدم فى تاريخ إنتاج الصناعة الاستراتيجية، إلا أنها لم تكن الأكبر والأقوى فى سوق الحديد مثل شركة الحديد والصلب التى اتخذ وزير قطاع الأعمال قرارا بإعدامها منذ أشهر قليلة.

إذن شركة الدلتا لم تنافس أو تزعج أحدا من السادة الكبار فى صناعة الحديد والصلب. لم تستحوذ يوما على الحصة الحاكمة فى سوق الحديد. إنها مجرد شركة تحولت إلى الربحية. وترغب فى أن تتوسع مثل غيرها فى الإنتاج والربح.

ولكن اللهو الخفى الذى أعدم شركة الحديد والصلب هو نفسه الذى رفض منح شركة الدلتا ترخيصًا بزيادة إنتاجها. ربما يبدو الأمر مختلفا أو المسئول وزارتين أو شخصين مختلفين. ولكن اللوبى أقدم وأكثر رسوخا من الوزراء والحكومات. اللوبى لم ولن يترك شركة الدلتا أو أى شركة حكومية للحديد تعيش مهما كان حجمها أو حصتها فى الإنتاج. لأن قصة الحديد نفسها هى قصة سياسية، وليست اقتصادية أو بيزنس فقط. إن صناعة الصلب مثل العلم والنشيد القومى تعزز قوة ومدى تقدم الدولة. ولذلك لا تصيبك الدهشة إذا عرفت أن رفض منح شركة حكومية رخصة لإنتاج أو زيادة إنتاجها من الحديد ليس أمرا جديدا، ولكنه متكرر. وبالتالى لم تندهش إذا عرفت أن جماعة رجال الأعمال استعانت أكثر من مرة بأمريكا لإجبار أو إقناع الدولة المصرية على التخلص من مصانع الحديد. فإذا كان الصلب من الصناعات التى تبرز قوة الدول، فيجب أن تكون هذه القوة فى يد القطاع الخاص، وليس فى يد المال العام.

وعلى الرغم من أن التحول الرقمى قد طغى على فكرة الصناعات الاستراتيجية إلا أن الحديد لم يفقد الهالة التى تحيط به خاصة فى مصر. وعلى طريقة لعبة البازل التى تتطلب تركيزا شديدا لجمع قطع الصورة، فإن الأسبوع الماضى حمل ثلاثة أخبار تبدو غير مترابطة، ولكننا لو ركزنا جيدا، فسوف نصل إلى الصورة الكاملة لمستقبل الحديد فى مصر.

 

شركة دلتا كما قلت هى الشركة الوحيدة التى تنتج حديد البليت فيما تبقى لنا من شركات القطاع العام. وتتبع وزارة قطاع الأعمال. والخبر الأول من هذه الشركة، فقد رفضت الهيئة العامة للتصنيع منح شركة دلتا ترخيصًا بزيادة الإنتاج، بالإضافة إلى رفضها تحويل الترخيص المؤقت إلى دائم. الهيئة تتبع وزارة الصناعة. لاحظ أن كل تحركات الحكومة الداخلية ستؤدى إلى خروج المال العام من قطاع الحديد. فقد اتخذ وزير قطاع الأعمال قرار إعدام شركة الحديد والصلب، وفى المقابل وافق الوزير هشام توفيق على زيادة إنتاج شركة الدلتا، وهنا تأتى وزارة الصناعة لترفض طلب زيادة الإنتاج، وتضع عقبات فى شكل شروط تطيح بالشركة وتغرقها فى الخسائر. إذن كل الطرق الحكومية تؤدى إلى خروج المال العام من قطاع الحديد.

قبل ثورة ٢٥ يناير بشهرين تقريبا تم حرمان شركات الحديد الحكومية من الحصول على رخصة حديد مثلها مثل كل الشركات الخاصة وبنفس الشروط. فقد قررت حكومة نظيف عدم السماح لوزير الاستثمار فى ذلك الوقت الدكتور محمود محيى الدين بأن تتقدم إحدى شركات الحديد العامة بطلب الحصول على رخصة حديد. لم يكن وزير الاستثمار من دعاة الاشتراكية، ولكنه رأى أن تستفيد الشركات التابعة له بالأرباح التى تحققها مصانع الحديد الخاصة، مجرد بيزنس. ذهب محمود محيى الدين شاكيا إلى وزير الدفاع فى ذلك الوقت المشير العظيم الراحل حسين طنطاوى. فقرر المشير تحدى شلة مبارك التى كانت وراء هذا القرار، ودخلت الهيئة الهندسية مع إحدى شركات قطاع الأعمال للحديد للحصول على رخصة من الرخص الجديدة. فالحكاية متكررة والرغبة جامحة والنية معقودة لحرمان المال العام من التواجد فى قطاع الحديد. ولذلك لم يثر خبر حرمان شركة الدلتا من الرخصة دهشتى، فالتكرار يقتل الدهشة.

 

الخبر الثانى الذى يكمل جزءًا كبيرًا من الصورة خبر حكومى يبدو مملا. فالبيانات الرسمية لاتضم أى أخبار مهمة، ولكن بيانا من الحكومة حول اجتماع رئيس الحكومة مع المجموعة الوزارية الاقتصادية حوى الجزء الثانى من صورة البازل، البيان الأخير يقول إنه تم الاتفاق على خروج الدولة نهائيا من الاستثمار فى أحد المجالات أو القطاعات. بالطبع لم يشر الخبر إلى الحديد مباشرة. ولكن حين تضم الخبرين أو القطعتين معا سترى الصورة شبه كاملة.

 

ولكن إياك أن تقلق من أن الصورة شبه كاملة، وأن ثمة قطعة ناقصة لنصل إلى الصورة الكاملة، فالقطعة الثالثة أو بالأحرى الخبر الثالث لم يتأخر بل وصل فى الوقت المناسب. الخبر يقول إن امبراطور الحديد المهندس أحمد عز اشترى حصة رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة فى شركة حديد المصريين. قد عانى عز من خسائر قاسية خلال السنوات الماضية، ولكنه ما أن تحول إلى تحقيق المكاسب حتى قرر أن يتوسع بشراء حصة فى شركة حديد المصريين، وفى الغالب ستكون هذه الحصة هى الخطوة الأولى للاستحواذ على باقى أسهم الشركة.

نفس السيناريو يتكرر ولكن مع تغيير الشركة. فقد تركت حكومات ما قبل الثورة (عز) يشترى حصص الأقلية فى شركة الدخيلة ومعظمها كان مالًا عامًا، والآن وبعد قرار إعدام شركة الحديد والصلب كان ممكن شراء الحصة التى طرحتها شركة حديد المصريين، وذلك من خلال المليارات التى ستحصل عليها الحكومة من بيع أراضى شركة الحديد والصلب من ناحية، والتوقعات بعودة تحقيق شركات الحديد للأرباح من ناحية أخرى.

ولكن هذه الخطوة الاقتصادية تتعارض تماما مع الهدف الأسمى بخروج المال العام من سوق الحديد تماما.

 

منذ أكثر من ثلاثين عاما ظهر على السطح ما يسمى بالمجلس الرئاسى المصرى الأمريكى، وكان من أبرز نجومه من الجانب المصرى جمال مبارك وإبراهيم كامل وأحمد عز وكبار مصنعى الأسمنت من الخاص، والمحامى الدولى، وكان الأخير متحدثًا رسميًا للمجلس. وعمل المجلس كلوبى للفكر الرأسمالى وتخليص الدولة من كل آثار اشتراكية جمال عبد الناصر. وعقد اجتماعات ما بين القاهرة وواشنطن وأعد أوراقًا بحثية وتوصيات ملزمة للحكومة برعاية أو بضغط أمريكى. وكان على رأس التوصيات تخلص الدولة من الصناعات الاستراتيجية وعلى رأسها الحديد، وبيع شركة التليفون الأرضى للقطاع الخاص (وفيما بعد منع المال العام من الاستثمار فى المحمول). وكادت مهمة المجلس أن تستمر وتنجح فى البيع الكامل لكل هذه الثروات ولو بجنيه واحد أو حتى ببلاش. ولكن توقف المجلس بالسكتة القلبية لأنه تخطى كل الحدود، فالجانب الأمريكى أصر على بيع المصانع الحربية للقطاع الخاص، وترك قطاع التسليح لرجال الأعمال.

وقبل ذلك بأربعين سنة أخرى كان الغرب الرأسمالى منزعجا من تجربة التصنيع فى مصر ومن نجاح الخطة الخمسية ٦٠ / ٦٥. ويعمل لوبى البيع على حجب الأسباب الاقتصادية لرغبة أمريكا وإسرائيل لوقف تجربة عبدالناصر. أو بالأحرى النجاح الاقتصادى والثروة التى امتلكتها مصر من المصانع والشركات. هذا النجاح كان أحد أسباب ضرب مصر فى ٥ يونيو، كان هدف وقف هذه التجربة الاقتصادية من الأهداف المهمة لضرب مصر عسكريا. بل إن بعض الإدارات الأمريكية والأجنبية كانت تربط مساعدة مصر اقتصاديا بالتخلى عن ثرواتنا من القطاع العام. كل من رفض بيع القطاع العام أبعد سواء من الحكومة أو البرلمان أو وسائل الإعلام. بل إن البعض يربط ما بين اغتيال رئيس مجلس الشعب السابق الدكتور رفعت المحجوب وموقفه من رفض تمرير قانون بيع القطاع العام أو الخصخصة. فقد قال المحجوب جملته الشهيرة (بيع القطاع العام على جثتى).

قد أصبح اللوبى الأكثر شراسة لأنه اتخذ أشكالًا مختلفة، أساتذة جامعات ارتبط تعليمهم بالغرب عموما وأمريكا خاصة، خبراء ارتبطت مصالحهم بالرأسمالية. جيل كامل أو أكثر من المواطنين لم يروا نجاح القطاع العام، وتشبعوا بالآراء التى تجمل صورة الرأسمالية وتبشر بالرخاء إذا خرجت الحكومة أو المال العام من الإنتاج بكافة صوره.

ولذلك إذا لم نعِ إلى ضرورة مواجهة هذا اللوبى، ونحافظ على ما تبقى لنا من ثروات وصناعات استراتيجية كالحديد فسوف ندفع ثمنا فادحا من اقتصادنا كدولة، وجيوبنا كمواطنين.

وحقيقى مبروك عودة أحمد عز لصدارة الحديد، كنت حاسة بأننى مفتقدة عز فعلا فى المشهد الاقتصادى.