د. محمود جلال يكتب: تمويل الابتكار وريادة الأعمال في مؤشر الابتكار العالمي (9)

مقالات الرأي

الدكتور محمود جلال
الدكتور محمود جلال

 

تعتبر صناديق الثروة السيادية ذات الملكية الحكومية من الآليات الحديثة لتمويل الابتكار وأصبحت في الآونة الأخيرة عاملًا رئيسيًا في الاستثمار التكنولوجي والابتكار على مستوى العالم كما سنتناول تفصيليًا في هذا الجزء من سلسلة المقالات:

الجزء التاسع: دور صناديق الثروة السيادية في تمويل الابتكار وريادة الأعمال، والتحديات التي تواجها والفرص الواعدة لها:

11. صناديق الثروة السيادية (sovereign wealth funds - SWFs):

صناديق الثروة السيادية وهي صناديق استثمار حكومية مملوكة لدول، وأصبحت هذه الصناديق عاملًا رئيسيًا في الاستثمار التكنولوجي والابتكار على مستوى العالم، حيث تعتبر مصدرًا مهمًا لرأس المال لشركات رأس المال الاستثماري وأيضًا كمستثمرين مباشرين. 
وتختلف صناديق الثروة السيادية عن العديد من المستثمرين الآخرين في طابعها وتحملها للمخاطر وأولوياتها وآفاقها الزمنية، وعندما تستثمر صناديق الثروة السيادية في شركات التكنولوجيا يمكن أن توفر إطار عمل مع حوكمة قوية، وقابلية للمخاطرة، وخبرة استثمارية، وقدرة مالية للمساعدة في تنمية هذه الشركات. 
وتتركز استثمارات الصناديق السيادية بشكل رئيسي في الولايات المتحدة وآسيا حيث تتواجد معظم الشركات التكنولوجية الأعلى قيمة عالميًا، وأقل بكثير في أوروبا وأماكن أخرى، ولهذا السبب، قامت بعض حكومات هذه الدول بإنشاء صناديق للثروة السيادية خصيصًا للاستثمار في اقتصاداتها المحلية لتعزيز التنمية الاقتصادية والتنويع وتحسين مستويات المعيشة، وتشمل الأمثلة فرنسا وأيرلندا وتركيا وكازاخستان والمغرب وعمان وسنغافورة.
ونظرًا لاستراتيجيات صناديق الثروة السيادية التي تركز على العوائد على المدى الطويل فإنها تعتبر الأكثر ملاءمة للاستثمار في الشركات ذات فترات حضانة أطول، بما في ذلك الرعاية الصحية، 
كما تقوم أيضا بالاستثمار في برمجيات الأعمال، والخدمات عالية التكنولوجيا للمستهلكين (مثل التجارة الإلكترونية)، والتكنولوجيات المخصصة للاستخدام من قبل المستهلكين من عامة الناس، مع تفضيل التكنولوجيات العملية التي تحل المشاكل اليومية وتخلق فرصًا جديدة للمستهلكين، 
والتي كانت محل تركيز منها منذ 2010 وبلغت ذروه استثماراتها مثلًا في التجارة الالكترونية عام 2016 بعدد 17 استثمارًا بحصة في رأس المال بقيمة إجمالية قدرها 6 مليارات دولار أمريكي، ثم تباطأت تدريجيًا حتى بلغت 7 استثمارات في عام 2019 بقيمة 185 مليون دولار أمريكي، حيث أصبحت التجارة الإلكترونية أقل جاذبية لصناديق الثروة السيادية، نظرًا لصعوبة منافسة الشركات الناشئة أمام عمالقة التجارة الالكترونية أمثال أمازون في الولايات المتحدة وأوروبا وعلي بابا في الصين، 
لذلك اتجه تركيز صناديق الثروة السيادية للاستثمار في التكنولوجيات المتطورة طويلة الأجل، مثل التكنولوجيات المزعزعة (disruptive technologies)، فإنهم يتطلعون إلى الاستثمار في فكرة أو تكنولوجيا مزعزعة قد تطورها العديد من الشركات، وبالتالي، من المحتمل أن تكون أقل عرضة للمنافسة وتظل عالية الكفاءة في رأس المال، ولكنها تتطلب استثمارات رأسمالية كبيرة نسبيًا لدعم الاكتساب الأولي للعملاء والتوسع العالمي، وهذا يجعلها مناسبة لهذه الصناديق ذات الاستثمار طويل الأجل، 
ومنذ عام 2013، قامت مؤسسة APFC، وهي صندوق الثروة السيادي لولاية ألاسكا، بالاشتراك مع المتخصصين في رأس المال الاستثماري مثل Codiak Biosciences ومقرها في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأخرين باستثمار مئات الملايين من الدولارات في المراحل المبكرة لشركات التكنولوجيا المبتكرة المتخصصة في مجال علوم الحياة وغير مدرجة بالبورصة. 
وفي عام 2016 قام SoftBank بتأسيس صندوق رؤية المدعوم من كبار المستثمرين الحكوميين في الشرق الأوسط، وفي ذات العام قام صندوق الاستثمارات العامة في المملكة العربية السعودية باستثمار مبلغ 3.5 مليار دولار أمريكي في شركة تطبيق أوبر لمشاركة الركوب، 
والتي تعتبر من الشركات ذات نماذج الأعمال التجارية الخفيفة (capital-light business models) حيث تتميز بقلة تكاليف الاستثمار وإدارة الأعمال في مقابل ارتفاع الإيرادات والأرباح، فتمتلك الجزء التشغيلي (تطبيق الاتصال والتنسيق) وتستعين بمصادر خارجية لأية أصول أخرى (السيارات وسائقيها)، مما يمنح مثل هذه الشركات الحديثة التي تدعم التكنولوجيا مرونة كبيرة لتوسيع نطاق أعمالها واكتساب العملاء بشكل أسرع واستثمارات أقل بكثير من الصناعات التقليدية ذات الأصول الكبيرة، لذلك تكون أكثر جاذبية لهذه الصناديق التي تساعدها في تأجيل تحقيق الربحية من أجل تعزيز النمو.
ونجد في عامي 2018 و2019، جذبت التكنولوجيات المزعزعة 10٪ من جميع الاستثمارات المباشرة لصناديق الثروة السيادية، ومن الأمثلة البارزة على ذلك استحواذ شركة Temasek  السنغافورية بقيمة 250 مليون دولار على شركة Sygnia الإسرائيلية لخدمات الأمن السيبراني، وصندوق الاستثمارات العامة في المملكة العربية السعودية بالتزامه بمبلغ 400 مليون دولار أمريكي لجولة تمويل لعملاق الواقع المعزز (augmented reality) شركة Magic Leap، والتي قد اجتذبت سابقًا استثمارات من Temasek.
فنجد أن صناديق الثروة السيادية تركز على عدد قليل من المجالات شديدة الزعزعة، مثل التكنولوجيا الحيوية، التي تجذب اهتمامًا كبيرًا للفرص التجارية التي توفرها والناشئة عن التطورات في التكنولوجيات المبتكرة لتعديل الجينات والمعتمدة من إدارة الغذاء والدواء (FDA)، خاصة في الآونة الأخيرة في ظل جائحة فيروس كورونا، حيث نجد شركة Vir للتكنولوجيا الحيوية والتي تم دعمها من ثلاثة صناديق سيادية (هيئة أبو ظبي للاستثمار، وAPFC، وTemasek) بالشراكة مع شركات أخرى تعمل على لقاح RNAi وعلاج بالأجسام المضادة لمقاومة فيروس كورونا، بينما نجدها في ذات الوقت تتجنب القطاعات ذات المنافسة المفرطة أو تلك التي تنطوي على مخاطر تنظيمية كبيرة، مثل المستحضرات الصيدلانية أو المعدات والتجهيزات الطبية.
ومنذ ذلك الحين، أظهرت صناديق الثروة السيادية شهية مستمرة لشركات التكنولوجيا الفائقة غير المدرجة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وآسيا والتي تعاني من نقص السيولة ولكن ذات توقعات بعائدات ومعدلات نمو عالية وطويلة  الأجل، ويمثل رأس مالها المستقر وطويل الأجل أيضًا ميزة تنافسية للشركات في المرحلة المبكرة التي يستثمرون فيها سواء فرادى أو تشاركيًا مع مستثمرين آخرين، على عكس شركات رأس المال الاستثماري وشركات حصة رأس المال الخاصة التي يتعين عليها التخارج من الاستثمارات لتوفير السيولة للمستثمرين في موعد نهائي محدد، 
ولديهم أيضًا مزايا فريدة، على سبيل المثال، مساعدة شبكاتهم السياسية والتجارية المحلية في دعم طموحات نمو الشركات المستثمر بها، كما فعلت مؤسسة الاستثمار الصينية وهو صندوق ثروة سيادي مسؤول عن إدارة جزء من احتياطيات النقد الأجنبي للصين.
وتعمل صناديق الثروة السيادية ذات الخبرة على تخصيص رأس المال للاستثمار المباشر في الشركات في المراحل المبكرة والنمو، كما نجد أنها أيضا تقوم بالاستثمار في شركات المرحلة اللاحقة أو شركات ما قبل الاكتتاب العام في الحالات التي ترى فيها قيمة.
وفي أحيان كثيرة تقوم بالاستثمار المشترك في الصناعات المبتكرة مع رأس المال الاستثماري، حيث تم في عام 2019 الانتهاء من 83 صفقة بالشراكة في مجال الرعاية الصحية والتكنولوجيا، في مقابل 18 صفقة كمستثمرين فرديين.
كما شهدت السنوات القليلة الماضية ظهور العديد من الأنظمة المبتكرة لرأس المال الاستثماري لتحفيز تسويق الأبحاث الجامعية وتحويلها لأعمال تجارية، مثل شركة أكسفورد للابتكارات العلمية التي تعمل بالشراكة مع جامعة أكسفورد وتم تأسيسها في عام 2015 كصندوق لرأس المال طويل الأجل والذي يحرره من قيود الوقت التي تفرضها شركات رأس المال الاستثماري، واستطاعت جمع 700 مليون دولار أمريكي من خلال الاستثمار المشترك بين صناديق الثروة السيادية Temasek السنغافوري وصندوق الاستثمار العماني، جنبًا إلى جنب مع مستثمري التكنولوجيا ذوي القيمة المضافة مثل Google Ventures وSequoia Capital، وتقوم الشركة بتقييم وتمويل الاستثمار في الأبحاث المنتجة بالجامعة مقابل حصة في الأعمال التجارية الناشئة والتي تحقق للمساهمين عوائد في شكل أرباح وزيادة محتملة في رأس المال.
كما نجد أكثر صناديق الثروة السيادية استثمارًا في مجال الابتكار هي مبادلة (Mubadala) التابع لحكومة أبو ظبي، وTemasek السنغافوري، وخزانة الماليزي، والذين كانوا مسؤولين معًا عن نصف استثمارات صناديق الثروة السيادية في هذا القطاع من عام 2015 إلى عام 2019.
أيضا تقوم بعض الصناديق السيادية بالاستثمار في نقل التكنولوجيا لتحفيز الصناعات المحلية، وكانت مبادلة من أوائل المتخذين لهذه الاستراتيجية حيث سعت إلى بناء مجموعة لأشباه الموصلات في أبو ظبي، وأسست شركة GLOBALFOUNDRIES لتصنيع أشباه الموصلات بالشراكة مع شركة AMD العالمية في عام 2009، ولكن بوجه عام لا تشكل استثمارات التكنولوجيا المحلية سوى جزء بسيط من الإجمالي العام لاستثمارات هذه الصناديق،
وتزايدت في الفترة الأخيرة أعداد استثمارات التكنولوجية المحلية ووصلت إلى 10% من إجمالي عدد الصفقات في عام 2019، حيث تسعى صناديق الثروة السيادية مثل صندوق الاستثمار المباشر الروسي وصندوق التنمية الاستراتيجية الأيرلندي (ISIF) إلى التخلص من مخاطر الابتكار التي يكون من الصعب تمويلها لولا ذلك. على سبيل المثال، في عامي 2018 و2019، استثمر ISIF في تأسيس Vectra، وهي شركة للأمن السيبراني باستخدام الذكاء الاصطناعي، ثم توسيع مركز البحوث والتطوير الخاص بها في دبلن.

فنجد أن الموارد المالية لهذه الصناديق ساعدت العديد من الشركات الناشئة على الازدهار، إلا أن استثماراتهم واستحواذهم على أصول في خارج بلادهم وكونهم مرتبطين بالحكومات أثارت مخاوف وطنية في بعض البلدان، وألقت العبء عليها في أن تكون قادرة على الاستثمار دون الوقوع في الخلافات السياسية،
حيث كان المستثمرين الأمريكيين أقل ترحيبًا بأموال الصناديق السيادية الصينية والسعودية خلال الفترات الأخيرة من الحساسية السياسية المتزايدة، والتي كان نتاجها الحظر الذي تم فرضه على شركة الاتصالات الصينية الرائدة هواوي المدعومة من الحكومة الصينية من المشاركة في بناء شبكات 5G في العديد من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الاستثمار الصيني المباشر في الصناعات الأمريكية في عام 2019 إلى ما يقدر بـ 3.1 مليار دولار أمريكي، بعدما وصل إلى 46.5 مليار دولار أمريكي في عام 2016.
وكذلك الاعتبارات السياسية للصناديق السيادية التي تستثمر في شركات التكنولوجيا الأجنبية، نظرًا لأن شركات التكنولوجيا العالمية الكبرى مثل Alphabet وFacebook وAmazon تجمع البيانات حول مستخدميها، وتعمل بشكل متزايد على تشكيل حياة الناس وسياساتهم، فبالنسبة للصندوق المملوك للحكومة الذي يتطلع إلى دعم التكنولوجيات الجديدة الرئيسية في عصر يمكن أن تصبح فيه الشركات الناشئة سريعًا كلاعبين عالميين مهيمنين، ويمكن أن يكون للبيانات الضخمة التي تجمعها عواقب غير متوقعة أو غير مقصودة سواء بالنسبة لهم كمستثمر أو لحكومتهم كمالك. 
وأيضا عندما تقوم بالاستثمار في شركات التكنولوجيا الشديدة الحساسية والتي تبحث عن التمويل المالي طويل الأجل والشبكات التي تفيد الأعمال التجارية والوصول إلى الأسواق الجديدة التي تقدمها هذه الصناديق، وفي سبيل ذلك قد تسعى صناديق الثروة السيادية إلى القيام بدعم إداري نشط، مما يعني زيادة الوصول إلى بيانات الشركة، ومقاعد مجلس الإدارة أو كمراقبين، واستخدام حقوق التصويت، وكل هذه العناصر من التدخل التنظيمي في النشاط من مستثمرين أجانب تزيد من احتمالية جذب انتباه سلبي أكبر من رجال السياسة وخلق المشاكل.

كما تحتاج صناديق الثروة السيادية إلى مواصلة التطور لمواكبة الوتيرة السريعة للتغيرات في قطاعات التكنولوجيا والابتكار والاستجابة بشكل مسؤول واستباقي للتحديات والفرص الهامة من خلال الآتي:
- تحديد التكنولوجيات المزعزعة الأنسب للاستثمار لا سيما في القطاعات التكنولوجية المتنامية والمثبتة، مثل برمجيات وخدمات المؤسسات.
- زيادة مخصصات رأس المال الخاص بالاستثمار في الشركات في مراحلها المبكرة وتعزيز تطوير التكنولوجيا.
- موازنة الاستثمارات التكنولوجية مع الاستثمارات من أجل تعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية المحلية والرفاهية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال الاستثمار على الصعيد العالمي في فرص نقل التكنولوجيا وتوسيع نماذج الأعمال في الاقتصاد المحلي، وزيادة الاستثمار المباشر في الفرص المحلية. 
- التوسع في تبني استراتيجيات الاستثمار المشترك، خاصة مع صناديق رأس المال الاستثماري.
- الاستثمار في صناديق رأس المال الدائم (evergreen funds) لتتماشى بشكل أفضل مع الآفاق الزمنية طويلة الأجل لصناديق الثروة السيادية.
- الاستثمار في القطاعات التي لها تداعيات مهمة على السياسة العامة والسياسة الخارجية والصحة والسلامة العامة والدفاع الوطني والأمن.
- تعزيز الاستثمارات التي تعمل على معالجة الضعف المتزايد للاقتصاد العالمي في مواجهة الصدمات والاضطرابات الاقتصادية والسياسية والبيئية والصحية.

وللحديث بقية،