د. محمود جلال يكتب: تمويل الابتكار وريادة الأعمال في مؤشر الابتكار العالمي (10)

مقالات الرأي

الدكتور محمود جلال
الدكتور محمود جلال

تعاني الشركات الناشئة خاصة في الدول النامية من القيود التمويلية الحادة في مراحلها المبكرة والتوسعية من دورة حياتها بسبب نفور جهات التمويل من المخاطرة بتمويل هذه الشركات الشابة، وساعدت الأزمات الاقتصادية المتتالية في زيادة هذه المعاناة خاصة في ظل استمرار انتشار فيروس كورونا، الأمر الذي يهدد الكثير منها بالتوقف عن أنشطتها لعجزها عن توفير السيولة النقدية، لذلك يمكن أن تساعد آليات التمويل الجديدة مثل التمويل متناهي الصغر وحلول التكنولوجيا المالية في التغلب على بعض القيود الحالية وتسهيل تمويل الأعمال الريادية والابتكار، ولذلك تحتاج الكثير من الدول النامية إلى تعزيز وتطوير الأسواق المالية لديها لتوفير هذه الآليات الجديدة للتمويل وغيرها من الآليات الأخرى التي تم استعراضها في الأجزاء السابقة لمعالجة نقص مصادر التمويل.   

 

الجزء العاشر: دور مؤسسات التمويل متناهي الصغر وحلول التكنولوجيا المالية في تضييق فجوة تمويل الشركات الناشئة:

 

12. التمويل متناهي الصغر (microfinance): 

يتوافر بالعديد من الدول النامية مؤسسات للإقراض متناهي الصغر (Microcredit) والتي يتم من خلالها إقراض الشركات الناشئة مبالغ صغيرة من المال بفائدة منخفضة، مما يساعد على تخفيف قيود الإقراض على رواد الأعمال الفقراء، ولكن غالبيتهم يسعى من هذا الاقتراض إلى بدء نشاط تجاري كمورد رزق لهم لأنهم لم يتمكنوا من العثور على وظيفة لذا يكون اهتمامهم محدودا بالابتكار، الأمر الذي يتطلب من القائمين على مؤسسات التمويل متناهي الصغر أن تصبح هذه المؤسسات أكثر فاعلية في توجيه هذا التمويل إلى تعزيز ريادة الأعمال والابتكار لتحقيق الطفرات الاقتصادية والمنفعة الحقيقية في تطوير مجتمعاتهم.

 

13. حلول التكنولوجيا المالية (fintech solutions):

يصعب على الشركات الناشئة الحصول على القروض البنكية التقليدية حتى وإن كان مستوى المخاطر لديها أقل من الشركات الناضجة، حيث تكون قيود التمويل عليها كبيرة خاصة في الدول النامية مما يعوق نمو هذه الشركات، الأمر الذي يؤدي لأن تصبح الدول النامية الأعلى كثافة في عدد الشركات الصغيرة ومتناهية الصغر، حيث يقدر منتدى الشركات الصغيرة والمتوسطة أن أكثر من 40 % من الشركات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة في الدول النامية مقيدة ماليًا مما يسبب لها فجوة تمويلية تقدر بنحو 4.75 تريليون دولار. 

أيضا من قيود التوسع في تمويل الأعمال الريادية (entrepreneurial finance) من خلال القروض متناهية الصغر وهي التكلفة العالية للمعاملات (high transaction costs) التي تتكبدها مؤسسات التمويل متناهي الصغر (microcredit organizations)، والتي تشمل تكاليف تحديد وفحص العميل، ومعالجة طلب القرض، واستكمال التوثيق، وصرف القرض، وتحصيل المدفوعات، ومتابعة عدم السداد، ومعظمها تعتمد على العمليات اليدوية والنقدية المباشرة مما يجعل تكلفة المعاملة عالية لا تتناسب مع المبلغ المُقرض، وبالتالي يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة على القروض لتغطية التكاليف حتى تصبح برامج الإقراض مستدامة، حيث تتيح الاستدامة تقديم التمويل على نطاق أوسع وتغطية شريحة أكبر من السكان، ولكن أسعار الفائدة المرتفعة في حالة القروض متناهية الصغر تعتبر أمرًا غير منطقيٍّ لأنها في الأساس مخصصة للفئات الضعيفة اقتصاديًا، الأمر الذي يستلزم النظر في إيجاد طرق مبتكرة لخفض تكاليف الإقراض عوضًا عن رفع أسعار الفائدة.

ويأتي الحل من التكنولوجيات المالية الجديدة التي تمكن الشركات والأفراد من الارتباط بالبنية التحتية للمدفوعات الإلكترونية عبر الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر وأجهزة نقاط البيع (point-of-sale devices) والتي تجعل كل جهاز منها عبارة عن أداة مالية للتحويلات النقدية إلكترونيًا، لتحل محل المعاملات النقدية (cash transactions) المباشرة.

كما تمكن من تقديم التمويل من خلال نظام التمويل الرقمي (digital finance) الذي يتم فيه تقديم الخدمات المالية إلكترونيًا عبر بنية تحتية رقمية (digital infrastructure) دون الحاجة للمعاملات اليدوية والنقدية المباشرة، لذلك تعمل التكنولوجيا المالية على تعزيز الكفاءة وتقليل تكاليف مثل هذه المعاملات وبالتالي تساعد على التوسع في عمليات التمويل، 

بل وساعدت أيضا في ظهور مجموعة جديدة من المقرضين بما يسمى مقرضو التكنولوجيا المالية (fintech lenders) الذين يستخدمون تكنولوجيات جديدة في الذكاء الاصطناعي (AI) وتعلم الآلة (machine learning) جعلها تتمتع بإمكانات كبيرة واشكال مختلفة، ومنها تقديم قروضٍ للأفراد من خلال منصات قائمة على الإنترنت تسمى إقراض نظير إلى نظير (peer-to-peer -P2P- lending)، أو من خلال مؤسسات للتمويل (institutional funders) ويشار إليهما باسم إقراض السوق (marketplace lending)، وتعمل هذه التكنولوجيات على تخفيف القيود المالية على الشركات وخاصة الشركات الصغيرة في البلدان النامية وكذلك تضييق فجوة التمويل التي تواجهها على وجه الخصوص الشركات الناشئة. 

وتعد كينيا من أوائل وأبرز المبتكرين الأفارقة في مجال الخدمات المالية والنجاح في الشمول المالي (financial inclusion) وتسعى لتحقيق نفس ذلك النجاح في تمويل الشركات الصغيرة.

هذا وقد ظهرت أولى جهات الإقراض في مجال التكنولوجيا المالية في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، وارتفع عدد مقرضي التكنولوجيا المالية تدريجيًا حتى بلغ إجمالي قروض التكنولوجيا المالية نحو 14.2 مليار دولار في جميع أنحاء العالم في عام 2017، بينما بلغت قيمة إقراض نظير إلى نظير (P2P lending) نحو 100 مليار دولار.

ولكي يستمر إقراض التكنولوجيا المالية وإقراض نظير إلى نظير في النمو وزيادة المتعاملين بهما من البنوك، سيكون من المهم وضع إطار تنظيمي يعززهما ويضمن سياسات مناسبة لإدارة المخاطر (risk management policies)، ويحمي المقرضين والمستثمرين. 

ويمكن للحكومات أن توفر هذه الأطر والسياسات التي تشجع على تطوير التكنولوجيا المالية واستيعابها، وبالتالي تعزيز إقراض التكنولوجيا المالية وغيرها من النماذج المستجدة لتمويل الشركات الناشئة، للتغلب على القيود الحالية في تمويل هذه الشركات وتوفير نظام بيئي منضبط يساعدها على الابتكار والنمو. 

مثلما يتم حاليًا في الإمارات من خلال مبادرة مختبر التشريعات (RegLab) والتي أطلقتها الحكومة الإماراتية في عام 2019 بالاشتراك مع مؤسسة دبي للمستقبل لتطوير تشريعات جديدة أو قائمة وتطبيق التكنولوجيات الناشئة، وذلك لخلق بيئة تشريعية مرنة ومواتية تكون رائدة في "الابتكار التنظيمي"، 

فبدلا من العمل على دفع الحكومة إلى مواكبة الوتيرة المذهلة للتغيير الذي تفرضه التكنولوجيات الجديدة، والتي قد تؤدي إلى قيام الحكومة بتمرير لوائح بصورة متعجلة تؤدي إلى خنق الابتكارات الجديدة، أو تمرير لوائح أخرى متأخرة بعد أن يحدث بالفعل تأثيرات سلبية للمواطنين والأسواق كان يمكن تجنبها إذا صدرت هذه اللوائح في الوقت المناسب. 

لذلك يعمل القائمون على هذا المختبر بالتعاون مع القطاع الخاص والمبتكرين ورواد الأعمال للمشاركة في إنشاء تشريعات داعمة للابتكار وريادة الأعمال وكذلك اختبارها للتوثق من فاعليتها وتماشيها مع سرعة الابتكار عالميًا.