د. محمود جلال يكتب: تمويل الابتكار وريادة الأعمال في مؤشر الابتكار العالمي (11)

مقالات الرأي

د.محمود جلال
د.محمود جلال

يعتبر امتلاك الشركات لبراءات الاختراع والصور الأخرى من الملكية الفكرية من المؤشرات على جودة وجدوى مشروعاتها الابتكارية، وعامل في تقليل تكاليف التمويل وجذب المستثمرين والتأهل للبرامج الحكومية، والدخول في الاتحادات الدولية، كما تمثل نوعًا ما "بوليصة التأمين" بحيث يمكن في حالة إفلاس الشركة أن تبيع أفكارها وأصولها غير المادية (intangible assets) أو ترخيصها والذي يعد نشاطًا مهمًا لجمع الأموال للعديد من الشركات، حيث تسهل العديد من الحكومات في جميع أنحاء العالم هذه الممارسات لتقليل الصعوبات التي تواجه الشركات في ضمان استثماراتها في الملكية الفكرية، وتنشئ لها العديد من الأسواق كما سنتناول في هذا الجزء،

الجزء الحادي عشر: العقبات أمام نمو وانتشار أسواق وتراخيص الملكية الفكرية

14. أسواق الملكية الفكرية (intellectual property – IP- marketplaces):

تعتبر منصات أسواق الملكية الفكرية نافذة عرض عبر الإنترنت حيث يمكن لمشتري حقوق الملكية الفكرية وبائعيها الاتصال ببعضهم البعض، ففيها يمكنك طرح براءات الاختراع وطلبات براءات الاختراع ونماذج المنفعة والتصاميم والعلامات التجارية للبيع أو الترخيص أو البحث عن شركاء لمشاريع ابتكارية قائمة على المعرفة القابلة للحماية ببراءات الاختراع، كما يمكنك أيضًا البحث فيها عن حقوق الملكية الفكرية للشراء أو الترخيص.

وقد أنشأت العديد من المؤسسات العامة والخاصة في جميع أنحاء العالم مثل هذه الأسواق وأمثلة عليها الموقع الالكتروني IP Marketplace والذي يديره المكتب الدنماركي لبراءات الاختراع والعلامات التجارية، والموقع الإلكتروني Patents 4 Partnerships والذي يديره مكتب الولايات المتحدة للبراءات والعلامات التجارية.

لكن لا تزال أسواق الملكية الفكرية صغيرة أو حتى ناشئة، بل ونجد أن العديد منها يفشل ويختفي خلال فترة قصيرة من انطلاقها، على الرغم من الاستخدام المتزايد للملكية الفكرية وأهمية تجارة الملكية الفكرية والتراخيص، وذلك نظرًا للعقبات العديدة التي تواجهها وتحول دون أن تصبح أسواقًا كبيرة أو حتى التوسع في مثل هذه الأسواق وتمنع تداول الملكية الفكرية كسلعة. 

وأولى هذه العقبات هي التقييم والذي يمثل عائقًا أمام جميع أنواع أنشطة تمويل الملكية الفكرية سواء أكانت في صورة قروض أو مقابل حصة في رأس المال (debt or equity finance)، حيث تختلف الملكية الفكرية عن الأسهم والسلع العادية التي توجد لها بورصات، نظرًا لتفاوت قيمة الملكية الفكرية بدرجة كبيرة وغير متجانسة، وذلك حسب نوعها وأهميتها.

كما تختلف قيمة نفس الملكية الفكرية باختلاف الشركات فقد تكون ذات قيمة كبيرة لشركة ما في تكنولوجيا معينة أو في وضع سوق معينة، بينما بالنسبة لشركة أخرى تكون عديمة القيمة، أو أن تكون هذه الملكية الفكرية في حد ذاتها عديمة القيمة وحدها ولكنها تصبح ذات قيمة عالية للغاية وسط مجموعة أخرى من الملكيات الفكرية، 

الأمر الذي يؤدي لعدم وجود طريقة معيارية وموحدة لتقييم الملكية الفكرية (IP valuation) بشكل منهجي وصحيح، فخلال عمليات التقييم قد يتم التقليل من قيمة الأصول غير المادية للشركات المبتكرة بدرجة كبيرة، خاصة الشركات التي تمتلك علامات تجارية أو صناعات إبداعية ذات شهرة عالمية ولكن لا تعتبر قائمة على التكنولوجيا أو المعرفة.

وأيضا من العقبات الأخرى سرية بنود صفقات ترخيص الملكية الفكرية التي تم إبرامها بالفعل لحالات مشابهة فتزيد من صعوبة تسعير الترخيص للصفقات اللاحقة، وعدم وجود قائمة للملكية الفكرية والأصول غير المادية للشركات، والافتقار إلى الوعي بدور الملكية الفكرية كأصل ثمين، 

أيضا تؤثر تحديات السيولة من زيادة مستمرة في المعروض من الملكية الفكرية دون أن يقابله طلب من السوق، ومدى إمكانية إنفاذ الحقوق، ومدى إمكانية إعادة توزيع الأصول غير المادية، 

وكذلك اللوائح المصرفية المقيدة التي تطبق معايير مثل بازل 3 الذي يضع إطارًا صارمًا للغاية من المتطلبات بشأن مقدار رأس المال الذي يحتاج البنك إلى حجزه لمطابقة المخاطر المرتبطة بأنواع معينة من الضمانات حيث لا تتمكن الملكية الفكرية من تلبية هذه المعايير، الأمر الذي يفسر إحجام البنوك التقليدية عن قبول الملكية الفكرية كضمان في الحصول على تمويل في صورة قروض، واعتبارها فقط للأصول المادية (tangible assets) في حين أن براءات الاختراع، على سبيل المثال، غالبًا ما تكون أكثر الأصول قيمة لشركات التكنولوجيا.

فبينما يلقي الممولين المخاطرين (venture funders) نظرة على الشركة وآفاقها المستقبلية ككل مما يعطي الفرصة في التقييم الحقيقي للشركة، فنجد في المقابل ممولي القروض (debt funders) مقيدون فقط بتقييم الضمانات والتي تكون في هذه الحالة الملكية الفكرية، الأمر الذي يفسر سبب نجاح تمويل الملكية الفكرية القائم على حصة في رأس المال أكثر من التمويل في صورة قروض مدعومة بالملكية الفكرية، وأيضا تفسر كل هذه العوامل مجتمعة سبب صعوبة نجاح الأسواق الإلكترونية للملكية الفكرية، والتي تستلزم بذل الجهد لتلبية متطلبات عدم تجانسها كسلعة.

وعلى الرغم من هذه التحديات، فنجد العديد من الحكومات إدراكًا منها لقيمة الملكية الفكرية مثل النمسا وفرنسا والمملكة المتحدة تقوم بتعزيز الحوافز للاستثمار في الشركات الغنية بالملكية الفكرية، من خلال قيامها بعمليات فحص للملكية الفكرية بالشركات لتحديد الأصول غير المادية ذات القيمة، ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، هناك ما يقرب من 5000 تقرير تقييم للملكية الفكرية يتم التكليف به سنويًا.

ومن أهم أسواق الملكية الفكرية سوق براءات الاختراع والتي تعتمد بشكل أساسي على الصفقات الثنائية، سواء صفقات بيع أو تراخيص متبادلة بين الشركات الكبرى، والتي قد تتضمن مئات أو آلاف براءات الاختراع، 

أما خارج هذه الصفقات الثنائية، كثيرًا ما يواجه مشترو براءات الاختراع والبائعون صعوبة في العثور على بعضهم البعض، حيث لا يوجد لبراءات الاختراع منصات أو بورصات بحجم وتنوع منصات السلع التقليدية مثل أمازون وeBay أو بورصات تداول الأوراق المالية مثل بورصة نيويورك، وعندما يجد المشترون والبائعون بعضهم البعض، فإنهم عادة ما يتفاوضون في ظل حالة كبيرة من عدم اليقين، نظرًا للاختلاف الكبير في أسعار وشروط براءات الاختراع المماثلة من صفقة إلى أخرى والتي غالبًا ما تكون سرية فلا تكون متاحة للاسترشاد بها.

كما يواجه تطوير أسواق الملكية الفكرية تحديا آخر وهو أن تراخيص البراءات أو الملكية الفكرية ليست كلها متماثلة، حيث تنقسم إلى قسمين مختلفين من السوق وهما ترخيص العصا (stick licensing) وترخيص الجزرة (carrot licensing) وكلا النوعين له خصائص واحتياجات مختلفة للتعامل معه حتى يمكن الوصول لأسواق كبيرة ومستقرة كالتالي:

 

- ترخيص العصا أو الإنفاذ:

وفيه تكون هناك إحدى الشركات التي تستخدم تكنولوجيا دون ترخيص من صاحب حقوق الملكية الفكرية، فيقوم صاحب هذه الحقوق بالتهديد أو بمقاضاة (litigation) الشركة منتهكة حقوق الملكية الفكرية (IP infringers) لإجبارها على الحصول على ترخيص.

ويتم ذلك من خلال شركات سمسرة صفقات الترخيص والتي تقدم دعمًا مباشرًا للشركات في متابعة انتهاكات براءات الاختراع الخاصة بها، وإثبات أن بعض الشركات بالسوق تستخدم تكنولوجياتها المسجلة ببراءة اختراع والدخول في مفاوضات تنتهي في الغالب بتسوية اتفاقيات لترخيص الملكية الفكرية خارج المحكمة وبشروط سرية وسط حالة من عدم وضوح هل فعلا تم انتهاك الحقوق أم لا، نظرًا لأن التقاضي في المحاكم يكون خيارًا طويلًا ومكلفًا ومحفوفًا بالمخاطر لكل من المدعى عليهم والمدعين، وتوفر هذه التراخيص فرصة للشركات للحصول على تمويل من خلال هذه الانتهاكات في صورة مدفوعات حقوق الملكية (royalty payments).

وكلما كانت فاعلية التقاضي والإنفاذ (enforcement) أكبر كلما ازدهر قطاع سوق ترخيص الملكية الفكرية، ومع ذلك، بالنسبة للعديد من الحكومات قد لا يكون نمو السوق من خلال زيادة احتمالات التقاضي أمرًا مفضلًا لها، ويطرح التساؤل هل هذا النوع من التراخيص يحفز بالفعل الابتكار أم لا.

 

- ترخيص الجزرة:

وفيه نجد أن هناك أحد الأطراف مهتم بنقل تكنولوجيا أو معرفة معينة وبالتالي يسعى للحصول على ترخيص من الطرف الآخر الذي يمتلكها.

وتميل الحكومات إلى مثل هذا النوع من تجارة وترخيص الملكية الفكرية، ويكون محل تركيزها لمساعدة البائعين والمشترين للملكية الفكرية بالعثور على بعضهم البعض بسهولة أكبر، وتهيئة إطار تعاوني بينهم، ولكن تواجه تراخيص الجزرة تحديات أكبر من تلك التي تواجهها تراخيص العصا، تتمثل أهمها في الآتي: 

عندما توجد فجوة تكنولوجية بإحدى الشركات وتسعى للحصول على ترخيص لاستخدام براءة اختراع ما لتغطيه هذه الفجوة، ولكن في الغالب لن تكون التكنولوجيا محل براءة الاختراع جاهزة للاستخدام الفوري وتحتاج لتكييفها لتوائم التطبيق المطلوب استخدامها فيه، 

وسيتطلب هذا عادة مزيدًا من التطوير للاختراع، وهو ما يستلزم أن كلى الطرفين، المرخص والمرخص له أن يطورا سويًا فهمًا مشتركًا للمشكلات التي يتعين حلها وما يمكن للتكنولوجيا المسجلة ببراءة اختراع أن تساهم به وما لا يمكنها أن تساهم في الحل. 

كما يستلزم استخدام خبرة المخترع فيما يتعلق بالدراية بالاختراع والتي يصعب تجسيدها بالكامل في مستند الوصف التفصيلي لبراءة الاختراع، وذلك للمساعدة في تكييف وتطوير الاختراع للشكل المناسب للاستخدام تجاريًا. 

لذلك نجد أن في ترخيص الجزرة يكون نقل التكنولوجيا والمعرفة مصحوبًا بجهود التنمية المشتركة، حيث تتم الصفقة في مراحل مبكرة من تطور الابتكار مقارنةً بترخيص العصا الذي يكون لملكية فكرية قابلة للتطبيق تجاريًا، وتزداد الصفقة صعوبة عندما يكون الاتفاق تبادلي حيث يجب أن يكون لدى كلى الطرفين تكنولوجيا محمية ببراءة اختراع ويتصادف أن يحتاجها الطرف الآخر.

ومثل هذه الصعوبات لا تمكن من معاملة الملكية الفكرية كسلعة موحدة قابلة للتداول مثل السلع التقليدية كخام الحديد مثلا خاصة في تراخيص الجزرة، والتي تحتاج كما ذكرنا المشاركة بين المشتري والبائع للملكية الفكرية أو التكنولوجيا في تطوير الابتكارات وإنشاء استخدام لها، الأمر الذي يحد من نمو هذه الأسواق ويجعل اتفاقيات تراخيص الجزرة الناجحة أقل شيوعًا من نظيراتها المتعلقة بالإنفاذ.

فالموضوع ليس ببساطة أن الشركات التي تسعى للعثور على شركاء من خلال التراخيص للحصول على التمويل بأن تضع براءات الاختراع الخاصة بها على منصة تبادل إلكترونية، لأنها ستبقى منشورة إلى الأبد دون وجود مشترٍ، ولكن ستحتاج إلى بذل جهود كبيرة لتسويق براءة الاختراع، لذلك فليس كافيًا مجرد إنشاء أسواق الكترونية للملكية الفكرية، ولكن هناك الاحتياج لعمل مجموعة من التدابير حتى تؤتي هذه الجهود ثمارها وهذا ما سوف نستعرضه في الأجزاء اللاحقة.

وللحديث بقية،