مصطفى عمار يكتب: عندما كنا لا دولة.. لا مستقبل.. لا شىء!

مقالات الرأي

مصطفى عمار
مصطفى عمار

صرخ سائق التاكسى فى من حوله «يا ولاد الكلب.. يا شعب رخيص، اتفووه عليكوا شعب نجس وخسيس» بعدها جلس على الأرض وهو يضع التراب فوق رأسه، ويصرخ ويبكى على ما حدث معه!

قبلها بلحظات كنت قادمًا من باب اللوق بعد زيارة سريعة للطبيب لمتابعة حالة التهاب الأعصاب التى أعانى منها منذ بضعة أسابيع، حاولت أن أتغلب على الزحام بالسير من باب اللوق متجها إلى شارع طلعت حرب، وجدت صراخًا وسبابا وزحمة هائلة حول سيارة تاكسى بيضاء، خمنت أن سر المشكلة هو خلاف على الأجر بين السائق وزبونه، وعندما اقتربت وجدت ثلاثة من الصبية تتراوح أعمارهم بين السادسة عشر والثامنة عشر، يبرحون السائق علقة ساخنة دون إبداء سبب، ويحاول المارة تخليص السائق من أيديهم ولكن دون فائدة، وباقى المارة الذين يتجاوز عددهم المئات يمرون دون أن يشغلوا بالهم بما يحدث، بينما استوقف المشهد أكثر من مئة شخص، فضلوا متابعة ما يحدث وهم واقفون على الرصيف.

الساعة كانت تشير للثامنة مساء -وقت مرورى بجوار الحادث- تطلعت فى وجوه الصبية، وجدتها مليئة بالشر والكراهية، خصوصًا أن كل واحد منهم يشهر سلاحه الأبيض الرخيص «مطواة قرن غزال» فى وجوه المارة حتى لا يتدخل أحد! اقترب منهم أمين شرطة ينظم المرور بشارع طلعت حرب، وحاول أن يحل المشكلة، غير أن أحد الصبية وضع يده فى عنف على كتف الأمين، وقال له «ما لكش دعوة أنت كل عيش بعيد بدل ما تزعل» تفهم أمين الشرطة الرسالة، وقرر العودة إلى منتصف الشارع محاولًا تمثيل أنه مشغول بمهمة تنظيم المرور المتوقف تمامًا فى هذا الشارع بفضل المعتصمين فى ميدان التحرير.

نجح الصبية فى الصعود فوق سيارة التاكسى وقاموا بتحطيم زجاجها الأمامي والخلفى، بعدها خرج سائق التاكسى من سيارته محاولًا الدفاع عنها، فما كان من الصبية الثلاثة سوى سحله وضربه، قبل أن يغادروا الشارع فى اتجاه ميدان التحرير بكل هدوء وثقة من أن أحدًا لن يجرؤ على اعتراض طريقهم!

وقف سائق التاكسى، يصرخ ويبكى قائلًا «حرام عليكوا أنا شغال عليها، هجيب منين»، ولم يجد سوى أن يشق القميص الذى كان يرتديه وهو يبصق فى وجوه الواقفون حوله قائلًا «اتفوه عليكم شعب رمة، وجبان، شعب ابن كلب يستاهل كل إلى يجرا له، يا ولاد الكلب وسقط على الأرض يبكى ويضع تراب الطريق فوق رأسه.

حاول الواقفون تهدئته بجمع مبلغ مالى من المارة لمساعدته، وبالفعل كل الواقفين أخرجوا من القليل الموجود بجيوبهم، محاولين التكفير عن خطيئة وقوفهم صامتين على ما حدث مع السائق أمام أعينهم دون أن يحاولوا الدفاع عنه.

لن أخفى عليكم أننى واحد ممن سبهم السائق، لأننى خشيت أن أتدخل بعد أن وجدت الصبية يمسكون بأسلحة بيضاء، وحاولت التكفير عن ذنبى بأن أخرج كل ما فى جيوبى وأضعه فى يد السائق، فنظر التى باكيًا وقال لى «وقفت ساكت ليه يا أستاذ، حرام عليكوا»!

حاولت مغادرة المكان بسرعة لشعورى الشديد بالخجل من موقفى، ولمحت بعض المارة يعاتبون أمين الشرطة لعدم تدخله، وسمعته يقول لهم «أنا عملت اللى علىّ وبلغت، مش مستعد أموت علشان خاطر حد»!

ترددت الجملة فى أذنى عدة مرات فحدثت نفسى قائلًا بصوت مسموع «كلنا ولاد كلب»!

نجح نظام مبارك طوال ثلاثين عامًا أن يجعلنا جميعًا «ولاد كلب.. نبحث عن لقمة العيش دون أن ننتبه لتزوير انتخابات وسرقة أموال البنوك وبيع أراضى الدولة، وخصخصة مصانعها، انشغالنا جميعًا بلقمة العيش التى كان يخرجها البعض من صفائح الزبالة وهو راضِ ومقتنع بما قدره الله له.

فعلًا كلنا الولاد كلب!

نجحت ثورة يناير، وقتل أكثر من ٩٠٠ شخص فى محاولة لتحسين وضعنا المعيشى والسياسى، ولكننا تنازلنا عنها للإخوان ليفعلوا بنا جميع الأوضاع المباحة وغير المباحة، لنجد أنفسنا فى النهاية أمام نظام أشد فسادًا وفاشية من نظام مبارك ألف مرة، ومازال الناس يصدقونه ويدافعون عنه..

فعلًا كلنا ولاد كلب!

أتوبيس ممتلئ بالأطفال، يعجن تحت عجلات القطار، ويموت عشرات من أرواح طاهرة وبريئة، وتصوت الصعيد بنعم للتعديلات الدستوية.. نعم دون أن يفكروا من السبب فى قتل أبنائهم!

فعلًا كلنا ولاد كلب!

يتساقط القتلى أمام قصر الاتحادية، ويستشهد الحسينى أبو ضيف مع مجموعة من الشباب دفاعًا عن وجهة نظره ومبادئ الثورة التى سلم لها روحه وجسده، ولا نصل لأى حقيقة تدلنا على من قتل الحسينى ورفاقه أمام الاتحادية

فعلًا كلنا ولاد كلب!

تعجن العظام باللحم فى حادث قطار البدرشين، ويموت أكثر من ١٦ شخصًا من أبناء الصعيد ويصاب مئات، وننتظر أن تستقيل الحكومة، أو أن يخرج الرئيس ليعتذر للشعب عن جرائمه المتعددة دون أن يحدث هذا أو ذاك.

فعلًا كلنا ولاد كلب!

الحياة ستستمر بنا وكأن سائق التاكسى لم يضرب أو يهان أمام أعيننا، وكأن الثورة لم تسرق من أيدينا، وكأن الحسينى لم يمت، وكأن أشياء كثيرة لم تحدث على أرض هذا البلد.

فعلًا كلنا ولاد كلب!

«هذا المقال نشر بتاريخ ١٧ يناير ٢٠١٣ بجريدة الفجر كتوثيق للمرحلة التي عاشتها مصر في خطة هدم الدولة التي رسمها لنا من يحدثونا الآن عن حقوق الإنسان واستثمارات الجيش.. بعد ٨ سنوات كاملة اختفت أكثر من ٩٠٪ من مظاهر هدم الدولة وتبقى بعض القليل من مشاكل أكل العيش وملف حرية التعبير الشائك.. لا أؤكد أن حياتنا أصبحت أفضل بنسبة ١٠٠٪ ولكننا علي الأقل نتملك دولة وقانونًا ومؤسسات، ٨ سنوات مضت نحو تأسيس الدولة التي نحلم بها.. بعيدًا عن مخططات الهدم والتخريب المحيطة بنا.. حفظ الله مصر وشعبها من كل شر ومؤامرة وهدم وتخريب.